حوار: رامي غدير
على هامش اعلان الشاعر السوري، منذر مصري، قرب صدور أعماله الشعرية الكاملة، التقته “المدن” في حوار متشعّب وطويل حول الأصدقاء والثقافة والشعر والشعراء وسوريا، وربما أبلغ ما قاله عن واقعها “كل ما اطلعت عليه من نتاج أدبي وفني على تنوعه بعد العام 2011، لا يصل إلى مستوى كاحل قدم الفاجعة التي حلّت بنا”.
– أحب أن أبدأ معك بما تنتهي به المقابلات، وهو ماذا تفعل هذه الأيام؟ وما هي مشاريعك للمستقبل؟
* صديقي.. لا أريد أن أبدأ حوارنا، وأنا على هذا القدر الزائد من الكدر وسوء المزاج، لكن ألم تسمع ما يردده الناس، كل الناس، ما تقوله وجوههم الكالحة، ما تصيح به أفواههم المكممة. لا مستقبل في هذه البلاد! إنها بلاد عملها دفع مستقبل أبنائها بقدَمها، ورميه في الحفرة. لا أدري بأية مبررات سأقنع ابني بالعودة إلى بلده، وبلده، حيث ولد وتعلم وشبّ، يرتع في هذا المستنقع الآسن.
أبناء من أعرفهم جميعهم في الخارج، حتى الوحيدين لأمهاتهم؛ وذلك لأن مستقبلهم سبقهم وهاجر قبلهم. منذ لحظة كنت أتحدث على الهاتف مع صديق قديم لي منذ أيام الجامعة من أهالي “دمسرخو”، سألته عن أولاده؟ قال لي: “جميعهم في الخارج. أًنا وزوجتي نعيش، مثلكما، وحدنا منذ سنوات”.
السوريون يغبطون بعضهم إذا كان أولادهم خارج البلد! رغم أنها أسوأ حالة يصير عليها الآباء والأمهات وآخر ما يتمنونه. هناك يا صديقي انسداد أفق كامل، ما دامت البلاد مستمرة على هذا الحال، ولا خلاص يلوح في الأفق.
تسألني عما أفعله؟! أجيبك: أحيا. وكأن هذا ليس صحيحاً! أكتب وأرسم وأحضّر لإصدار المزيد من الكتب والقيام بالمزيد من المعارض. الخبر الذي يجب أن يملأني غبطة، هو أن أعمالي الشعرية في طريقها للصدور. ثلاثة مجلدات ثقيلة يقارب عدد صفحاتها الـ1700 صفحة. لكن صدقاً، حتى هذا، على روعته، بالنسبة إليّ يفشل في تسريب شعور الفرح إلى قلبي. وذلك لأني أوقعتُ نفسي في فخ نصبه لي معلمي الراحل إلياس مرقص عندما قال لي مرة، من بين مئات الأقوال التي أسمعني إياها، وأحفظها له عن ظهر القلب كتعاليم ووصايا: “لا يوجد يا منذر خلاص فردي. الخلاص دائماً جماعي”. وقد صدقته!
نحن السوريين، نحيا في بقعة من العالم، الخلاص الجماعي فيها من رابع المستحيلات، أما الخلاص الفردي فلا يرونه، خصوصاً الشباب منهم، سوى في الخروج من البلد. لكني، أنا، لا أفعل! رغم كل هذا السواد الذي يلفني، ورغم العديد من الفرص المتاحة لي. لا تسألني لماذا؟ ليست لدي إجابة. غير أني أجبت تلك المرأة التي صادفتها على رصيف شارع الحمرا في بيروت، الساعة الواحدة ليلًا منذ سنتين، حين اقتربت مني سائلة: “إنتا من وين؟” فما كان مني إلّا أن وليت الإدبار مسرعاً، تاركا لها جواباً، بالتأكيد لم تسمعه من متسكع ليلي من قبل: “أنا من بلاد الله الضيقة”.
– بعد أكثر من 12 سنة حرب في سوريا. في رأيك إلى أي حد استطاع الشعر والفن التشكيلي السوريان أن يكونا شاهدين على هذه الحرب بعمقٍ وبعيداً من الانحياز والاصطفاف؟ وهل استطاعا أن يكونا حياديين في ظل حرب لم تنته بعد؟ أم أنه ما زال من المبكر الحديث عن ذلك؟
* لا يسعني إلّا أن أوافقك. من المبكر الحديث ربما عن كل شيء. كل ما اطلعت عليه من نتاج أدبي وفني على تنوعه بعد العام 2011، لا يصل إلى مستوى كاحل قدم الفاجعة التي حلّت بنا. كمٌ كبيرٌ من هذا النتاج، الجيد والرديء منه، كان في سياق ردود الأفعال وإعلان المواقف، ضد ومع. من دون أن أنسى الفارق الوجداني بين الموقفين، وأظن هذا طبيعياً إلى حد كبير، خصوصاً بالنسبة إلينا، أقصد السوريين وما مروا به وما يعانونه اليوم.
بالنسبة إلي، أعترف أنني لم أتمكن حتى اليوم من أن أجد طريقاً، ولو طويلاً وضيقاً وملتوياً كما هي أغلب طرقي، لأدلي بشهادتي الشعرية والتشكيلية عما حدث. أما شهادتي الفكرية، تحت وفوق خط السياسة، كما أحب أن ينظر إليها، أظنني قمت بكل ما كان في وسعي، من دون أن أنتظر جزاء من أحد، كما في كتابي “مغلقة بسبب الإصلاحات”. و”سوريا بلدي كما خالدية أمي”، وسيتبعه عن الدار ذاتها كتاب ثالث: “إلى جميع الأهل والأقارب والأصدقاء في الوطن والمهجر”. العبارة الجارحة التي تُكتب وكأنها مجرد كلمات لا معنى لها، على النعوات الملصقة على جدران اللاذقية.
– قلت ذات مرة: فاتتني فرصة الموت باكراً. برأيك هل من الممكن أن يكون الموت باكراً بمعنى ما، فرصة للنجاة من عيش الحياة؟
* نجوت مرات عديدة! لم أصل إلى هذا العمر، وأحيا في هذا المكان، عابراً جميع تلك الكوارث، لو لم يقبل الله بتكليف جدتي فاطمة روشن له برعايتي وحفظي، فقام بتنفيذ هذه المهمة التي ألقتها على عاتقه بقدر ما يستطيع، لكني، ومنذ زمن غير بعيد، وصلت إلى ما اعتبرته وقتها اكتشافاً وهو أن: “النجاة ليست.. ليست كل شيء” ورحت أردّد هذه العبارة، هنا وهناك وأمام من هبّ ودبّ من الناس، وكأنها مقولة من مقولات بنجامين فرانكلين. إلى أن اكتشفت الحقيقة الأشدّ مفارقة والأشدّ ألماً، وهي أنه في هذا المكان وهذا الزمان: “النجاة ليست.. ليست كل شيء فحسب، بل إنها ليست شيئاً على الإطلاق” وربما هي مجرد عبور إلى أشد النهايات مأسوية!
– معروف عنك أنك تسرد بطريقة ممتعة، لا سيما حين تتحدث عن الآخرين. سأذكر لك بعض الأسماء وأريدك أن تُعلق بكلمات عن كل منهم. فاطمة روشن، خالدية نحلوس، شكيب مصري، مرام مصري، رياض الصالح الحسين، مصطفى عنتابلي، محمد سيدة، عادل محمود، خالد خليفة، نجيب عوض، غازي أبو عقل، ماهر أبو ميالة، عبد الله هوشة.
* أنت تقول معروف عني أنني موهوب بالسرد. وأنا عليّ أن أصدق هذا، وأجيبك على أساسه! في الحقيقة أو ما يخال لي حقيقة، ومن دون أي رغبة في التواضع، أنا لست كذلك. ولو كنت حقًا موهوباً في السرد، لكان صحيحاً أنني موهوب في كل شيء، وكنت سأضيف على كاراتي الكثيرة كتابة الرواية، التي يقال عنها، إنها الآن ديوان العرب الجديد. لمَ لا؟ بالتأكيد لا مانع عندي، خصوصاً إن هذا يكاد لا يعنيني بشيء! لكن دعني الآن بناء على طلبك، أعلق على الأسماء التي ذكرتها:
– فاطمة روشن: أمي الأولى.
خالدية نحلوس: سوريتي.
شكيب مصري: من أورثني اللطف.
مرام مصري: أختي العاطفة.
رياض الصالح الحسين: يحيا ويكتب قصائد في داخلي.
مصطفى عنتابلي: أنا.
محمد سيدة: معلمي.
عادل محمود: عِشْ تبكي.
خالد خليفة: أخاف أن يموت قبلي.
نجيب عوض: مخلّصي.
غازي أبو عقل: لن تعجبه المقابلة.
ماهر أبو ميالة: سأتصل به بعد قليل.
عبد الله هوشة: ما زال ينتظرني، واقفاً يدخن سيجارته عند زاوية رصيف بيته، يرميها وهو يهمّ بركوب السيارة بجانبي. هذه المرة تأخرت عليه أكثر من عادتي.
– لديك أصدقاء غادروا الحياة خلال الأشهر الماضية، منهم الشاعر عادل محمود، وقد نشرت في فايسبوك بعضاً من الرسائل بينك وبينه، أقتطف منها قولك له: “عمري هلق 71 سنوات، لازم هون نقول سنوات بدل سنة؛ لأن الساعات بطيئة والسنوات سريعة”! وأيضاً رسالة من عادل لك يقول فيها: “اشتقت لجلساتنا التي كانت تبدو كأنها الأخيرة. ونحن نضحك”. حدثنا عن غياب عادل محمود الذي وصفته بصديق العمر.
* عدت لتوي من عند بلال بلة، حلاقي المعتمد منذ فترة، وقريبي وصديقي دائماً، مشكلتي معه أنه يجزّ البقية الباقية من شعري جزاً، ما يجعلني أستعيد كل مرة ما قاله عادل لي ذات يوم: “منذر.. لا تقصّر شعرك، تبدو أجمل بشعر طويل”. كيف أنسى؟
أحزنني أن يُبطل عادل عادة المجيء من دمشق إلى اللاذقية كل شهر أو شهرين مرة على الأقل، ليقوم بواجب عزاء لقريب ما، وينام في مرسَمي، أو يستعيره للقاء شاعري عابر. نحن صديقان حميمان، منذ اليوم الذي صعد فيه مع محمد كامل الخطيب إلى باص الكرنك، وأنا في طريقي لأودِع مخطوطة (بشر وتواريخ وأمكنة) لدى وزارة الثقافة في دمشق، حدث هذا قبل ما يزيد عن أربعة عقود من رحيله. اكتفيت بوصف غياب عادل محمود بأنه ما عاد يأتي إلى اللاذقية، لأنه أراحني أن أعتبر: “الموتى هم أصدقاء باتوا يتخلّفون عن حضور السهرات”. موته كان بمثابة وصول حزني عليه إلى ذروته، أو بعبارة أخرى، إلى قاعه، لأني قبل موته كنت حزيناً عليه، حزيناً معه. حزيناً علينا. كان، كنا، نحيا وكأننا فقدنا كل شيء.
فقدنا الأصدقاء، عدداً كبيراً من الأصدقاء، فقدنا ما نعيش لأجله، فقدنا الحلم بحياة جميلة في وطن جميل! فقدنا الوطن ونحن مصرّون أن نبقى معه في حفرته، التي كنا نعلم حق العلم أنها قبرنا! نعم، ميزة قبور الأوطان أنها مفتوحة، تظنها مجرد حفرة، لكنها قبر مفتوح!
دفن عادل، بناء على وصيته كما تناهى لي، بجانب عرزاله الذي بناه بنفسه على طرف ناء من قريته الصغيرة (عين البوم)، مرتدياً ثيابه كاملة، حتى الحذاء مع غليونه وقلمه ودفتره وزجاجة خمر صغيرة، ليرطب حلقه بها عند اللزوم داخل تابوت خشبي بسيط، ومن دون أي طقوس دينية. شعور غريب خامرني وأنا أقف مع من حضروا الجنازة لوداعه، بأنه كان بدوره يقف معنا.
– تقول: الشعراء يصنفونني رساماً، بينما الرسامون يقولون عني شاعراً”. لن أسألك إن كنت ترى مثل هذا الكلام بريئاً؟ لكن في مقدورك الإجابة إن أحببت. وبعدها تجيبني على سؤالي: أنت رسامٌ قبل أن تكون شاعراً، هل تبديل الأصابع من الرسم إلى الشعر كان أمراً سهلاً؟ هل حدث وأنت تكتب أن شعرت برغبة في التوقف من أجل أن ترسم؟ وهل حدث العكس؟
* بريء؟! منذ سنين سافر صديقنا المشترك، بريء خليل، الذي عرفني عليك. وكما حدث الآن، ما أن أتذكر هذه الكلمة حتى أتذكره وأستعيد افتقادي له. لكن من كثرة الفقد، صارت حياتنا برمتها قائمة على الفقدان.
في ما يخص الكلام عن أني رسام في نظر الشعراء، وشاعر في نظر الرسامين، وإن كان بريئاً؟ فأنا، لعلمك من اخترعه وصاغه وروّج له! لذلك هو على صدقه، غير بريء على الإطلاق، بل أيضاً يقدم الدليل على إدانته بنفسه. نعم كنت رساماً قبل أن أكتب الشعر. وبقيت لليوم أرسم وأشارك وأقيّم من حين لآخر معارض رسم. وقد رددت مراراً وفي كثير من المناسبات أنني دخلت الشعر من دون أي استعداد مسبق، فطرياً كان أو بيئوياً، ومن دون قدرة لغوية أو ثقافية يُعتدّ بها. لذلك كان عملي بمجمله في رأي كثيرين، أقرب للتخريب الشعري منه للتجريب الشعري الذي أدعيه. ذلك أنني كنت أسيرَ نزعة داخلية قوية تؤدي بي لرفض المقولات والأسس الشعرية العربية القديمة والحديثة كلها في آن واحد، وقد راقني كثيراً ذلك العنوان الذي اختاروه لمقابلتي الأخيرة في صحيفة القدس العربي: “منذر مصري عدوُّ الشعر”، بينما لم أستطع أن أفعل شيئاً مثل هذا في الرسم الذي ومنذ البداية أعددت له العدة الكافية. يمكنني القول إن ما أرسمه، على خصوصيته، وعلى سويّته المعترف بها عموماً، لا يشكل فتحاً تشكيلياً للأسف.
على فكرة، رغم شاعرية الاستعارة التي تضمنها سؤالك عن تبديل الأصابع، أقول لك إنني لا أبدل أصابعي عندما أنتقل من الرسم إلى الشعر أو من الشعر للرسم، للأسف، لا أملك أصابع بديلة. يحدث كثيراً وأنا أرسم أن أدع الفرشاة تقع في قعر الدواة، وأبدأ بكتابة قصيدة ما، أفعل هذا بلا إعاقة من أي نوع، سوى المكان والوقت والمزاج!
(من لوحات منذر مصري)
– وصفك صديقك الشاعر محمد سيدة، بالبرجوازي الصغير. في الحقيقة، أنا وبعض الأصدقاء نقول عنك إنك برجوازي، لأسباب لها علاقة بسيارتك بأناقتك ومنزلك ومرسمك الذي يقع في أفخم أحياء اللاذقية، إضافة إلى نمط حياتك حيث تقضي أيامك بين الكتب والموسيقى والسينما ولعب الرياضة والسباحة والسهرات مع الأصدقاء وغير ذلك. أنت برجوازي في نبرة صوتك الهادئة والكم الهائل الذي لديك من السرد المعرفي والشعري ووجهات النظر حول الحياة، حسب رأي البعض أيضاً. ما الذي تغير في حياة هذا البرجوازي بعد الحرب وفيروس كورونا والزلزال الذي أفقده بعض الأحبة وكان في مقدوره أن يهدم بيته ومرسمه المزدحم بالكثير من التفاصيل والذكريات؟
* نعم كان محمد سيدة يقول، أيام نزاعاتنا، أني بورجوازي. لكن للأمانة، لم يكن يتبع ذلك بصفة الصغير أبداً، بورجوازي وكفى. كان عليك، قبل أن توجه لي هذا السؤال، أن تتصفح كتابي “محمد سيدة – الأشعار الكاملة”، لتعلم أنه كان يقع في روع محمد أن هناك منافسة شعرية بيني وبينه، سباق على لقب شاعر اللاذقية، وأن هناك حرباً قائمة بين الشعر البورجوازي الذي نصبني بنفسه ممثله الوحيد، مهما كتبت من أشعار ثورية، ومهما ألصقت من صور لينين وماركس على حائطي، وشعر الطبقة العاملة الثوري الذي يمثله بكل جدارة محمد سيدة العامل البروليتاري المناضل ضد الرأسمالية والرجعية.
سيارتي الآن يا صديقي، صينية، وهذا لا يعني أنها سيارة سيئة أو رخيصة على الإطلاق، ما عاد هناك شيء رخيص في سوريا، ما عدا البشر، كما يردد البشر أنفسهم. أما السيارة الكورية (توسان) التي عندما اشتراها لي ابني في آخر زيارة له إلى سوريا سنة 2010، قلت له: “ربما ستقتلني هذه السيارة”، فقد بعتها في اليوم الثالث من محاولة سرقتها وخطفي معها العام 2017، حدث هذا في مدينتي في سوق التجار مساء. بعدها وصلت إلى استنتاج، أن أمثالي من المواطنين السوريين سكان حي تجميل الصليبة، لا يحق لهم التنقل بسيارات كهذه في مكان كهذا.
أما عن الأناقة، وبغض النظر عن كوني عن قصد وتصميم رافضاً أن يكون مظهري مطابقاً لتلك الصورة النمطية البائسة التي يروق للناس أن يروا فيها الشعراء ويضعوهم داخل إطارها، فإني لطالما اعتبرتُ الثياب أفضل طريقة للتنكر، أو قُل للتجمّل. كان لا بد لي، أرجوك اِفهمْ هذا بلا شرح، أن أقوم بمعادلة ما لأكون ذا مظهر جيد أمام الناس، خصوصاً الفتيات، ثم إن منزلي الجديد ومنزلي السابق ومنزل أهلي بعدما انتقلنا من حارة الصباغين التي ولدت فيها، هي كلها تقع في مشروع تجميل الصليبة، وهو وقرينه حي الأمريكان حيث يقع مرسمي في ذلك القبو الرطب تحت الأرض، الذي لا تتجاوز مساحته 30 متراً، والذي تعرض للحريق مرة وللطوفان مرات، مثله مثل صنوّه قبو محمد سيدة، ليسا من أفخم أحياء المدينة على الإطلاق، ولا من أفقرها طبعاً، هذا إذا كنت تعرف اللاذقية يا صديقي.
وأخيراً، ها أنت تقفز فوق كل ما سبق، وتسألني ماذا تغير؟ أجيبك: بعد العام 2011، وقعت في معضلة وجودية كبرى، كنت قد بلغت الثانية والستين وبدأت، ولو متأخراً، بحصاد وجني ثمار ما زرعته في حياتي من مكانة شعرية وشخصية، إلا أن ما آلت إليه الأمور أحرق حياتي كلها وليس فقط مرسمي الذي تفحم فيه كل شيء. فبتُّ لا أعرف كيف أبقى أنا الذي أعرفه، ولا كيف أكون شخصاً آخر متلائماً متقبلاً متفهماً لما حدث. حاولت الأمرين لكن بلا نتيجة. وحتى اليوم، وهذا ليس شعراً، لا أعرف حقيقة من وماذا منذر مصري، وإن بدوت، في عدم مغادرتي البلد، واستمراري في الكتابة والرسم ولقاء الأصدقاء، أو بتعبير أدق الباقي من الأصدقاء، وكأني مُصرّ على ألا أجعل من هذا الذي جرى يقتلني أنا أيضاً.
– حين نتحدث عن شعراء قصيدة النثر في سوريا والعالم العربي، يبرز اسمك كأحد أهم شعرائها. رغم ذلك لم تحظَ كغالبية أبناء جيلك بالاهتمام من قبل وسائل الإعلام، لا سيما البرامج الثقافية، ما السبب في ذلك؟
* باختصار لا أدري، جيد أن تسأل الطرف الثاني مع أني سبق وقمت بلقاء مع بروين حبيب العام (2009). وآخر مع خالد خليفة، فإذ به لتلفزيون كردي، وثالث مع سمر يزبك وكان عن مكتبات الأدباء. كما أنني دُعيت ربما سنة 2006، للقاء في تلفزيون “الحرة”، أعدَّ محاور المقابلة وأسئلتها وقتها عباس بيضون، لكن قبل أن أسافر بيومين استُدعيتُ على التوالي إلى فرعي أمن. في الأول، بعدما أوضحت لهم أني مدعو بصفتي شاعراً وليس أي شيء آخر، تمنوا لي التوفيق مع تنبيهي إلى أن جوزيف عيساوي شخص ماكر وسيحاول الإيقاع بي! أما في الفرع الثاني، فقد اشترطوا عليّ أن أدلي بشهادات إيجابية عن الوضع السياسي في سوريا. فقررت ألا أذهب! الأمر الذي ندمت عليه لاحقاً.
أخيراً إسمح لي بالقول إني في الواقع لا أسعى كثيراً إلى شيء كهذا، وإنّ قبولي بإجراء هذه المقابلة وسواها يأتي من أنني لا أريد أن أخيب رجاء طالبيها، وأغلبهم -شَرواك- من الأصدقاء، وما أدراك ما الأصدقاء!
– في أحد اللقاءات، قلت: أحب هذه اللاذقية. ولدت وعشت وأحببت وبنيت بيتاً وأنشأت عائلة وأنجبت أطفالاً. وصرت سبعينياً فيها. وسأحبها دائماً وأبداً. ربما تغيَّرتِ اللاذقية عما كانت عليه، لكن “شرط الحب أن تحبَّ، وأنت تعلم أنّ ما تحبه يتبدل ويتغير، ويوماً لا يعود هو هو”.. الآن في ظل الحرب والزلزال، هل تفكر في الهجرة؟
– من الآخِر أقول لك.. مثلك ومثل الجميع، أفكّر في الهجرة. طوال حياتي أفكر في الهجرة، كتبت عن هذا في العديد من قصائدي، الباكرة والمتأخرة. هذه بلاد، كانت وما زالت بلاداً طاردة للحياة، نابذة للحبّ لحبّنا لها ومحطمة للأحلام، عملها أن تدوس على كل ربيع. بلاد، أعود وأقول، وذلك لخطورته القصوى، عادمة للمستقبل. لكن ملايين البشر يحيون فيها، يعملون ويحبون ويبنون بيوتاً وينشئون عائلات، وينجبون أطفالاً، وإنهم، بالمصادفة البحتة، مصادفة أني مثلهم ولدت وعشت ودرست وأحببت وبنيت بيتاً وأنجبت أطفالاً، وكتبت وأصدرت كتباً ورسمت وأقمت معارض، شعبي، أهلي وأحبتي وأصدقائي. وما زالت بذور الحياة تنتش وتنبت وتُفرّع في أرضها، وما زال الأمل يهز جثامين ضحاياها واحداً واحداً ليوقظهم من موتهم ويعيدهم للمعركة.
نعم من الآخِر أقول لك، أفكر في الهجرة، ولا آوي إلى فراشي، إلّا وأسأل نفسي ماذا أفعل هنا؟ لكني لا أهاجر!
أما اللاذقية، فكما بورخيس يتصور الجنة على شكل مكتبة، أنا أتصورها على شكل مدينة تشبه اللاذقية. ليس هذا مجرد قول على قول، بل إنه شعر، شعر بكل ما تعنيه كلمة شعر من صدق وعاطفة وجمال، بكل ما تعنيه من معنى عميق ومضيء وملون. اللاذقية جنتي.
أول البارحة مساء، بعد الإفطار، وأنا أغذ السير من بيتي في آخر مشروع تجميل الصليبة تقريباً، إلى مرسمي في آخر شارع المتنبي في حي الأمريكان، عابراً تلك الأماكن التي جرت فيها أحداث حياتي برمتها، مخفر الصليبة الذي أكلنا فيه علقة ساخنة ذات يوم منذ نصف قرن بسبب خربشتي على أحد الجدران، ثم حديقة شكري حكيم المكان الذي لمحت فيه محمد سيدة لأول مرة وجلست بجانبه على المقعد الخشبي، اللقاء الذي جعلني أفكر بكتابة الشعر، وأمي تنظر إلينا من النافذة الخلفية لمنزلنا في بناية العقيد كاظم زيتونة، ثم وعلى مسافة خطوات أذكر مرة كيف انهال علينا أحدهم بالضرب، وأنا أمضي مع مصطفى متشابكي الأيدي أصل إلى بيت أهلي السابق في حارة الدعبول، أصحاب آخر قافلة جِمَال لنقل البضائع من مرفأ اللاذقية إلى بقية المدن السورية، عبوراً ببيت خالتي أم مصطفى والشرفة التي كان مصطفى يطل منها عندما أناديه وصولاً إلى “الكلية الأرثوذكسية” ذات الواجهة الدائرية، التي درست فيها المرحلة الإعدادية.. بعدها أمر بمحاذاة مكتبتي “فكر وفن” ذات الشجون، عابراً مدرسة الأرض المقدسة التي ما زلت أذكر تفاصيل اليوم الأول الذي ساقنا فيه أبي إليها، أنا وأخي ماهر ونحن في سن السادسة والخامسة. يا للهذر، لدي ركام من ذكريات في كل متر مربع من هذا الطريق.
في تلك الظلمة الدامسة والصمت الكتيم اللذين يسودان المكان في هذا التوقيت، ومن حين لآخر يكسرهما مرور إحدى السيارات، تنبهت إلى أني حقاً لا أستطيع العيش بعيداً من كل هذا مهما كانت الأسباب، وأني إذا اضطررت يوماً، كما اضطر أخي رفعت ومصطفى عنتابلي وصديقي سهل، ومضيت لا أدري إلى أين، فلن يكون ما أحلم به سوى العودة أو الموت.
*المدن