الشاعرة السورية وداد نبي: الشعر أكثر هشاشة من إثقاله بعبء القضايا الكبيرة وحمولاتها

0

حوار: أشرف الحساني

للشاعرة السورية الشابة وداد نبي (1985) مكانة ليس فقط داخل فضاء الشعر السوري، بل على المستوى العربي. إذ إن حجم “اللاشعر” الذي تمطرنا به وسائل التواصل الاجتماعي، يجعل القارئ مرتبكا على مستوى اختيار الأعمال الشعرية الجيدة ويغير قناعاته ومواقفه وبوصلته، صوب جغرافيات أخرى من الشعر العالمي.

أعطت نبي لنصوصها شعريا وجماليا، ما يجعلها في طليعة الشعر العربي الجديد، بحكم ما راكمته من تجربة شعرية غنية على مستوى اللغة والرمز والصورة ومدى التحامهما مع الواقع السوري، وما يحبل به من أهوال وتصدعات.

في الآونة الأخيرة، أضحت وداد نبي شاعرة معروفة بصنعتها الأدبية، ورغم حداثة تجربتها الشعرية، تظل تهمس دوما بالتجريب الشعري والفني المنبثق عن حساسية ذاتية جمالية نوعية، ولا تقف عند حدود تخييل المرئي؛ فنصوصها ظلت تطرق مناطق يباب من جسدنا البشري.

إنها تجعل من الصمت والفراغ والهباء والرحيل واللجوء مفردات شعرية أنطولوجية (وجودية) وتضع الشرط الإنساني في مقدمة برنامجها الشعري لتطويع ذائقتها الجمالية، كما هو الشأن في عملها الشعري الثاني “الموت كما لو كان خردة” (2016) الذي يعثر فيه القارئ على نصوص شعرية مضاءة بالذكرى، حيث الذاكرة تتشابك بصريا مع الواقع وتنتحر على أعتاب وطن على أهبة الرحيل.

بمناسبة صدور عملها الشعري الجديد “كسور غير مرئية “(2021) باللغة الألمانية في الأيام القليلة المقبلة، كان للجزيرة نت هذه الوقفة حول كتابها الذي سيكون متوفرا ضمن معرض فرانكفورت للكتاب.

الشعر وآفاق الكتابة

وداد نبي، أولا، ما المفهوم الذي تنحتين للشعر اليوم أمام طبيعة الواقع الجديد؟ وما يعيشه العالم العربي من تنكيل وأهوال ومآزق وتصدعات؟

الكتابة الذاتية هي ما تشغلني هذه الفترة، لدي هاجس إحياء حكايات صغيرة عشتها، محاولات اكتشاف خبرات جديدة لم تسمح لي ظروفي سابقا في اختبارها. هواجس متعلقة بالأمومة، الصداقة، ذبول الجسد، الاكتئاب، العنف والكراهية، الألم، إدراك ماهية اللذة وقبول الصدمات لا محاولة الشفاء منها. ببساطة ليس لدي اليوم هاجس إرضاء أذواق الآخرين في الكتابة عن مواضيع تخص الحدث السياسي الذي يركز الإعلام العربي والعالمي عليها فقط.

وهذا لا يعني أنني كفرد غير متأثرة بالاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحدث اليوم على الساحة العالمية أو العربية والشرق أوسطية عموما. لكن تفاعلي مع هذه المواضيع شخصي ويومي، ولا أجعله هاجسي أثناء الكتابة.

تناول كتابي السابقين مواضيع مثل أثر الحروب والثورات واللجوء، لكنني اليوم ورغم أن مواضيع مثل توحش الرأسمالية العالمية وغياب الديمقراطية وظهور العنصرية والتشدد الأيديولوجي، تغيير المناخ، مخلفات الحداثة، قضايا تمس حياتي يوميا، بدءا من لحظة خروجي من بيتي في برلين، إلى لحظة وصولي لعملي واختلاطي مع زملائي الألمان والأجانب.

لكنني أحاول تجنب اقترابها لعالم الكتابة الشعرية، أعتقد أن الشعر أكثر هشاشة من إثقاله بعبء القضايا الكبيرة، بحمولاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. الأيديولوجيا تقتل روح الشعر. في حين أن الشعر يحاول جمع أجزاء الحكاية الفردية الإنسانية مع كل الثقوب والندوب والجراح معا.

ويمكن القول لا أحد بإمكانه إنقاذ العالم من هول الصراعات، لكن الشعر والفنون عموما تساعدنا في فهم طبيعة تلك الصراعات ودورنا فيها.

بحثا عن الجمال

لكن ماذا عن وظيفة الشاعر اليوم، هل من المفترض أن يظل دائم التنقيب عن مكامن الجمال في اجتماعنا العربي المنكوب بحثا عن الشرط الإنساني؟ أم هو مطالب بالدخول في معترك الحداثة السياسية والاجتماعية، التي لم تتبلور معالمها بعد؟

أعتقد حين يكتب الشاعر لا يفكر كثيرا بماهية وظيفة الشعر. إنه يقوم ببساطة بإنجاز شيء يحبه، شغوف به، لكن قد تتصادف كتابته تلك، مع لحظات تاريخية مفصلية، تفرض عليه إبداء مواقف سياسية أو إنسانية، لكنها لا تخضعه بالضرورة لها.

المتعة الجمالية هي شرط من شروط الفنون جميعها، بما فيها الشعر. وهي علاقة قديمة منذ كتب هوميروس الإلياذة والأوديسا، وناقشها فلاسفة اليونان كثيرا، وظيفة الجمال في الفنون والفلسفة، لكن هذا لا يعني التركيز فقط أثناء الكتابة على الجانب الجمالي من النص.

فيما يخص الشق الثاني من سؤالك، أرى أن مشكلة العالم العربي أنه لا يزال يعيش خارج الحداثة، أنه على هامش العالم، مجرد متلق ومستهلك لكل النتاج الفكري، الفلسفي، السياسي، التكنولوجي، الذي يصدره الغرب له.

كيف لمجتمعات هي مستهلكة فقط أن تستطيع إنتاج شيء، أن تبلور هويتها بشكل صحيح بعيدا عن الأيديولوجيا الدينية التي تتحكم بها وتعيدها قرونا للوراء. ربما ما يفعله الشعر هناك، أنه يجعلنا أكثر تقبلا لتعرضنا للجرح والمخاطرة ورؤية عيوبنا وضآلتنا البشرية، إنه يقوي حواسنا لإدراك العالم وتذوقه، وبالتالي فهمه وفهم أنفسنا ومحاولة بلورة هويتنا الفردية.

“كوباني” مسقط القلب

أي صورة ترسمينها لمدينة “كوباني” مسقط رأسك وقلبك، بعد كل هذه السنوات الطويلة من الغربة واللجوء في ألمانيا؟

المسافات مهمة للغاية في إعادة تشكيل رؤيتنا لأنفسنا وللعالم بأكمله، أحيانا المسافة تكشف زيف الحنين، وأحيانا توضح ضبابية صور الذاكرة، وأحيانا أخرى تجمل الماضي لصالح الوهم المتخيل المشتهى، فهو لم يعد موجودا لنخضعه لمحاكمة منطقية.

بالعموم يستطيع المرء فهم ذاته وهويته أكثر حين يكون بعيدا. لكن حبل السرة بيننا وبين الأمكنة التي أتينا منها لا يتم قطعه بشكل نهائي، مهما ابتعدنا وقطعنا مسافات، شيء ما يبقى واهنا ويشدك. لكنك لا تستطيع فهمه، أو حتى شرحه، أو قياسه، أو حتى قطعه.

في غرفة مكتبي في برلين وعلى طاولة الكتابة، صورة لي وأنا في حضن جدتي بعمر 6 شهور، التقطت الصورة لنا في قريتنا في كوباني، تبدو جدتي مبتسمة، مرتدية الثياب الفلكلورية الكردية.

كل صباح أنظر إليها، وأتذكر البراري الخضراء الواسعة التي ركضت فيها وأنا طفلة، حيث عرفت الشعر كفعل حياة يومي، قبل أن أفكر في كتابته أو قراءته. عيناي المغمضتين في الصورة تجعلاني أشعر أن هناك لحظات في الحياة عشتها دون أن يكون هناك جراح. وهو ما يجعل حبل السرة مع مسقط الرأس صعب الانفصال.

سؤال المكان الأول

إلى أي حد يستطيع المكان الأول التأثير في سيرة الكاتب/ الشاعر على مستوى الكتابة بعد مرور سنوات على فراق الأمكنة والأصدقاء؟

إنه سؤال وجودي. غالبا ما أسال نفسي وأصدقائي المقربين، ما أهمية مسقط الرأس في حياة الفرد، سواء على مستوى الكتابة الإبداعية أو على مستوى الحياة اليومية؟ لماذا بعد عقود، نعود للشعور بالحنين تجاه مسقط رأسنا، سواء ككتاب أو أفراد لا علاقة لهم بالحقل الإبداعي؟ صديق لي مقيم منذ أكثر من 30 عاما في ألمانيا، متزوج من ألمانية ولديه أطفال، ردد لي أنه يحلم أن يتم نثر رماده بعد وفاته في مكان ما في بحر المتوسط قرب مسقط رأسه.

هذا الهاجس يلازم المرء، لأن مسقط الرأس له ارتباط وثيق باكتشافنا لفكرة الهوية، من حيث هي انتماء، وجودي، سياسي، واجتماعي وإبداعي.

عمل شعري جديد

 يصدر لك هذه الأيام ديوان شعري جديد بعنوان “كسور غير مرئية”(2021) والكتاب سيكون متوفرا في معرض فرانكفورت للكتاب بألمانيا. بداية حدثينا عن يوميات كتابته وكيف اهتديت إلى عوالمه المتخيلة؟

لم أكن أخطط لنشر أي عمل شعري جديد، فمنذ أكثر من عام وأنا مشغولة في كتابة روايتي الأولى. لكن حين أصبت وزوجي بفيروس كورونا، في نهاية العام الماضي، دخل زوجي على أثرها المشفى وقضينا أياما صعبة للغاية، في تلك المرحلة من المرض والمشفى كنت أنهار ببطء، وأتابع تقشر داخلي من الخوف والألم، أتابع نباتاتي المنزلية وهي تصفر من قلة السقاية والعناية، الغبار وهو يعشش في زوايا بيتنا، فيما كنت غارقة كليا في فكرة الفقدان والدموع.

كنت أفكر في كل الخسارات التي عشتها، بالأوقات الصعبة، أوقات الشدة التي تجاوزتها، في غياب الأصدقاء والعائلة، استعادتي لماضي وذكرياتي ومسقط رأسي.

لكنني لم أستطع كتابة كلمة واحدة، حتى عاد زوجي للبيت مستعيدا صحته، حينها شعرت أن بئرا داخلية قد انبثقت دون أن استخدم أي معول أو فأس، فكتبت مجموعة من النصوص، مرتبطة بتلك المرحلة الصعبة، بالإضافة لعدد آخر من النصوص المتعلقة بهواجسي الشخصية عن الأمومة، التقدم بالعمر، الصداقة، الألم، الهوية.

الديوان سيصدر باللغتين الألمانية والعربية عن دار النشر الألمانية سوييت فيرلاغ.

من العربية إلى الألمانية

ما الأسباب المعرفية والجمالية التي تجعل من شاعرة سورية تصدر عملها الشعري باللغة الألمانية؟ علما أن مختلف كتاباتك الأدبية والشعرية بالعربية

سؤالك يعيدنا لمعضلة صناعة النشر في العالم العربي، وهو واقع بائس للغاية. تشعر أن دور النشر مجرد دكاكين صغيرة، ليس لديها تقاليد فيما يخص صناعة النشر، إلا ما ندر. كما أنه ليست هناك دور نشر هناك تهتم بنشر الشعر.

حين تراسل أحدها تعتذر منك بحجة لا قراء للشعر، وإذا قبلوا النشر يطلبون منك مالا مقابل ذلك، وهذا ما أجده مؤسفا وبائسا للغاية. برأيي أن دور النشر التي تحترم نفسها لا ينبغي أن تطلب نقودا مقابل النشر. وهناك أيضا أسباب لوجستية، أقصد وجودي منذ 6 سنوات في ألمانيا وتحديدا برلين، حيث أعيش هنا وأعمل.

أنا على احتكاك يومي مع شعب له لغة مختلفة، ثقافة وتاريخ مختلفين، رؤية مختلفة لمفاهيم الهوية والتكنولوجيا والحداثة، لدي علاقات زمالة في عملي مع ناس مختلفين عن وسطي الاجتماعي، وبطريقة ما تصبح كتابتك وأفكارك أيضا مرتبطة بالمجتمع الجديد الذي أنت على احتكاك يومي معه.

ومن الطبيعي حين أكون جزءا من هذا المكان الجديد، أن يكون لدي رغبة في التواصل مع عالم النشر والإعلام في هذا البلد، أن يقرؤني قارئ الألمانية كما قارئ العربية.

كتابة متفردة

ثمة سمات مميزة تنطبع بها نصوصك الشعرية لدرجة أنها أضحت معروفة، إذ يستطيع القارئ المتابع لنصوصك الشعرية تمييزها داخل الشعر السوري المعاصر. كيف في نظرك، يمكن للشاعر أن ينحت مشروعه الشعري بشكل منفرد، بعيدا عن المراجع الشعرية الكبرى، التي تؤثر بشكل غير مباشر في الشاعر لحظة التفكير ثم الكتابة؟

دعني أعترف، يسعدني جدا قراءة هذا الانطباع عن كتابتي، وأتمنى أن تكون كذلك حقا.

لكن هل تعرف كم هي عملية مؤلمة للغاية حتى تصل إلى هنا، هذا التمايز عن الآخرين يأتي نتيجة الصدق، جلد الذات، رش الملح على جرحك، عدم إخفاء ندوبك وعيوبك.

إنه كمن يكون مرتديا ثيابا جميلة، يبدو من خلالها، شخصا مثاليا، بجسد رائع، لكنه سرعان ما يقرر الظهور عاريا، عارضا ترهلات جسده، الدهون تحت جلده، آثار الندوب والجراح وسقوطه أرضا أمام الملأ. إنه فعل قاس يتطلب شجاعة وقدرة على مواجهة عائلتك ومجتمعك ونفسك بالدرجة الأولى. لكن هذا الأمر الصعب بالذات ما يخلق تلك البصمة الإبداعية الخاصة، إنه أنت.

ما حدود التقاطع الفني والتلاقي الجمالي مع عملك الشعري السابق “الموت كما لو كانت خردة”؟

لا أستطيع الحكم، يجب أن يقرر القارئ الاختلاف أو التقاطع مع قديمي. لكنني حاولت هذه المرة التخلص من النصوص الطويلة، وحاولت تكثيف النصوص بمقاطع قصيرة.

عن الجرائد والمجلات

ماذا عن الجرائد والمجلات ودور النشر والمؤسسات الأدبية في ألمانيا، كيف تساعد الكتاب والشعراء من العالم العربي على توفير فضاءات للتفكير والنقاش والإبداع كالإقامات الأدبية مثلا؟

في الواقع حدثت موجة كبيرة من الترجمات الأدبية في السنوات الخمس الأخيرة بسبب موجة اللجوء الكبيرة عام 2015 تجاه ألمانيا، وللأسف الدافع الأولي وراء هذه الترجمات كان لأسباب سياسية في الدرجة الأولى، كانت هناك رغبة في فهم الربيع العربي من خلال الأدب. وكانت لهذه الترجمات طبعا فوائد عديدة متمثلة بتقديم الأدب المكتوب بالعربية للقارئ الألماني والغربي عموما. لكن للأسف كان تتم قراءتنا كأشخاص وليس كنصوص.

وهنا مشكلة تقديمك وقراءتك على أنك شخص آخر، يتم تخيل صورة عنك بناء على خلفيتك كمهاجر، كلاجئ، كسوري، ككردي، كمعارض إلخ من هذه التصنيفات. ويتم التغاضي عن الشرط الإبداعي لكتابتك، فتجد نفسك وأنت تحارب كل يوم، سواء في الإعلام، أو الصحافة، أو الراديو، أو التلفاز أنك لست هذا الشخص فقط، وإنما هذا جزء من هويتك المتعددة.

ورغم أنك تعلم أنك إن رضخت للصورة التي يريدونك عليها، تكسب الشهرة، لكنك تخسر نزاهتك وشجاعتك. لذا رغم كل ما توفره هذه المشاركات والنقاشات من دعم للكاتب فإنها أيضا تقحمه في هذا الصراع الدائم لإثبات هويته الإبداعية بعيدا عن خلفيته المهاجرة والظروف السياسية التي كانت السبب في وجوده بهذا البلد. وهو ما عبر عنه جيمس بالدوين “صراع الفنان من أجل نزاهته”.

*الجزيرة