السنون عبد الفتاح: حفريات في الخطاب الإسلامي من منظور محمد عابد الجابري

0

لا يغيب على ذهن مهتم بالفكر المعاصر أن محمد عابد الجابري هو أحد المفكرين الكبار الذي ارتبط اسمه بنقد الفكر العربي، ذلك أنه قام على امتداد ما يقرب من ثلاثين مؤلفا من الكشف عن مبادئ وأسس العقل العربي الإسلامي، هذا العقل الذي دخل، منذ مدة مديدة،  مرحلة السبات؛ لكن فهم خلفيات هذا السبات أو الانحطاط يتطلب منا إلقاء نظرة فاحصة ناقدة لا نظرة تبجيلية ولا تقديسية للتراث الإسلامي، وخصوصا التراث السني منه. إذن كيف تشكل هذا الخطاب؟ وما طبيعة الآليات والمبادئ المتحكمة في لا  شعوره المعرفي؟ أو بمعنى آخر، ما هو المكبوت والمعلن في الخطاب الإسلامي السني من منظور الجابري ؟

    لفهم المسألة المطروحة، يتطلب الامر من منظور المفكر العودة الى الأسس التي انبنى عليها هذا العقل. والعقل الذي يستهدف نقده والحفر فيه ليس هو العقل الملكة، أي القدرة الطبيعية (ليس القوة الناطقة) التي تميز الانسان عن الحيوان وتمكنه من التفكير؛ وإنما العقل ” السائد”، أي العقل بما هو مجموعة من المبادئ والأفكار والمفاهيم والأسس التي تستمد من طبيعة البنية الثقافية السائدة، والتي تساهم في تحديد طبيعة تصور الفرد لذاته وللأشياء والإنسان والمجتمع والعالم. لكن، متى أخذ العقل العربي في التشكل والتبنين؟ وهل يمكن وضع علامة فاصلة على بداية تشكل هذا العقل الذي سيقوم ببناء الخطاب العربي الإسلامي عامة والسني خاصة؟

    للإجابة على هذه المسألة يعود الجابري الى نص” الذهبي” الذي يحدد سنة 143 ه كبداية لعصر التدوين، أي كلحظة مفصلية في تشكل الخطاب العربي الإسلامي. هذه اللحظة التي أخذت فيها السلطة الرسمية في تدوين العلوم: الحديث والفقه والتفسير …لكن ما الداعي الى هذه العملية السياسية ذات المظهر الثقافي؟ يقول الجابري في كتاب : تكوين العقل العربي، أن الدولة العربية بعدما تأسست كمؤسسة وخرجت من النزعة القبلية، و أخذت في التوسع وأضحت تشمل  شعوب مختلفة، ظهرت الحركة “الشعوبية” التي نادت بالمساواة بين جميع أفراد الدولة، لتتحول بعد ذلك الى حركة سياسية مع ظهور الشيعة التي ستجد فيها نواة مناسبة للمقاومة السياسية . الامر الذي سيدفع الشيعة الى تدوين العلوم وتبويبها وتصنيفها، والغرض من ذلك هو بلورة خطاب المستضعفين لمواجهة خطاب السلطة المتجبر، وهذا ما سيجعل هذه الحركة تهاجم الماضي العربي الجاهلي في حين أن الدولة العربية منذ تأسيسها مع ظهور الإسلام وهي تحاول ما أمكنها ذلك طمس هذا التراث الذي سماه الخطاب الإسلامي، بشكل لا يخلو من سخرية واحتقار، الجاهلي. هكذا فإن الفعل الشيعي سيدفع السنة التي هي الناطق باسم السلطة المركزية من القيام برد فعل تجلى في تدوين الثقافة العربية: قديمها الجاهلي وحديثها الإسلامي. وبهذا تم إنتاج خطاب رسمي حول الثقافة العربية الاسلامية، وتم تضمين الخطاب الإسلامي والتراث الجاهلي (كما أراده العنصر العربي لا كما كان في الواقع قبل الرسالة النبوية) أيضا الذي طالما حاول الخلفاء الراشدون والأمويون طمسه وكبت صوته، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، انطلقت عملية تدوين العلوم العربية من نحو ولغة وحديث وتاريخ..وعلى هذه الشاكلة كانت لحظة التدوين، من منظور الراحل، اللحظة المفصلية في تاريخ العقل العربي الذي انطلق الآن في تشكيل ذاته وبنائها، أي انه في هذه اللحظة أخذ الخطاب العربي السني في التشكل بشكل واع وعاقل بل واتخذ طابعا رسميا مسنودا من طرف الدولة العباسية.

     ولما كان نص الذهبي، الذي ينطلق منه الجابري، في تناوله لعملية التدوين يستحضر فقط جهود السنة في مكة والبصرة والشام… فإن نصه (الذهبي) هذا يغفل التدوين الشيعي، الذي شكل تدوين السنة مجرد رد فعل عنه،  وإغفاله هذا ليس مجرد غفلة أو نسيان عفوي وإنما هو تناسٍ واع ومقصود كما يوضح ذلك قول الجابري:” وإذن فسكوت الذهبي صاحب النص الذي  نحن بصدده عن ” تدوين العلم وتبويبه” عن الشيعة ليس سكوتا صادرا عن سهو أو عن دافع شخصي، بل هو في الحقيقة سكوت من صاحب السلطة المعرفية والإيديولوجية التي ينتمي إليها صاحب النص” ( تكوين العقل العربي، ص67). مما يعني  أن الخطاب السني ليس خطابا عفيفا ولا طاهرا كما يدعي رجال الدين بل أنه متعفن ببراثين السياسة، لأن الخطاب السني يؤدي وظائف ايديولوجية تتجلى في إضفاء المشروعية على الممارسة السياسية، لأن رجل الدين يصبح أداة سياسية للتحكم في الحشود وتجييشها عند الحاجة. ألم يقل ماركس أن رجل السياسة يستغل ورجل الدين يبرر !!! أي انه يبين للحشود أن واقعهم طبيعي جدا، بل ويجعلهم يعتقدون أن فقرهم وبؤسهم “ابتلاء من الله” وليس نتيجة سياسة فاسدة يتبعها النظام.

  على ذلك، فعملية التدوين ليست فعلا علميا محضا،  كما يدعي البعض، غايته حفظ العلوم وتبويبها وتصنيفها وتطويرها وتأسيسها… بقدر ما أنها عملية سياسية، هدفها تحصين الهوية لفائدة الدولة العباسية العربية السنية ومواجهة خطاب الهامش المناوئ للخطاب الرسمي وعلى رأسه الشيعة التي أخذت في تأسيس خطابها مع الفقيه الشيعي جعفر الصادق الذي توفي سنة 148ه. ولعل أمر سكوت الذهبي  لم يتوقف عند حد السكوت على تدوين العلوم عند الشيعة بل وأيضا سكت على تدوين السياسة، هذه الاخيرة التي اضطلع بها عبدالله بن المقفع الذي قام بتعريب الدواوين السياسية الفارسية وحولها لخطاب عربي من أجل خدمة المعارضة السياسية  وقضيتها؛ كما أن ابن المقفع ألف كتابا بعنوان:” رسالة الصحابة”  الذي دافع فيه عن ضرورة تنظيم الدولة على أساس غير ديني مستندا في ذلك على ” الموروث القديم” وخاصة الفارسي( نفسه، ص69).

      وهكذا نستطيع تصور خلفية الصراع الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي التي كانت وراء عمليات التدوين بمختلف مظاهرها، ذلك أن عصر التدوين لم يعمل إلا على إنتاج خطاب سني يتماهى مع السلطة الحاكمة. ومنه يمكننا القول أن الخطاب العربي الإسلامي السني ما هو في عمقه إلا خطاب الدولة، أنه خطاب السلطة الرسمية، خطاب المركز لا الهامش، المركز الذي يمتلك معيار ومحك الحقيقة. ومنه فإن خطاب السنة هو خطاب الأقوى. فالسنة ما هي في ماهيتها إلا إيديولوجية الأقوى، وسرديتها ليست هي السردية الأقوم ولا الأثقى أو الأصح بل هي سردي الأقوى. أي الماسك بزمام السلطة المتحكم في الرقاب والضمائر والأفكار. أنه وحده يحتكر حق تأسيس معايير الصحة والخطأ. وفي هذا تبدو معالم التأثر بالتصور الأركيولوجي الفوكاوي واضحة، من حيث أن الدولة عبر مؤسساتها  هي التي “تنتقي وتنظم وتراقب” عملية إنتاج الخطاب، والدولة هنا لم تقم إلا  بمراقبة الخطاب من أجل الحد من هامشه الاحتمالي… ومنه فإن أعادة تأسيس الخطاب العربي السني مع عصر التدوين لم يكن بهدف علمي ولا بهدف عقائدي محض، كما يعتد، وإنما كان لدواع أيديولوجية تتجلى في تحصين الهوية العربية الاسلامية في سرديتها السنية وإقصاء السردية المناوئة للسلطة المركزية، التي تتخفى في ثوب الدين.

*المصدر: موقع الموجة

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here