السماء أكثر أمناً للطيور

0

أحمد خميس

كاتب وناقد سوري، يعيش حاليا في ألمانيا، صدر له ثلاث روايات: “خنادق الحبّ”، “قيامة اليتامى” و”مسرح العمى”.

مجلة أوراق- العدد16

أوراق الملف

إلى روح خلف خميس الشهيد، الذي أعدم ميدانياً أمام بوابة الفرقة السابع عشرة

التابعة لميلشيات النظام السوري بتاريخ 21.11.2012 عن عمر يناهز 25 عام

لطالما قلت له مدفوعاً بجاهلتي:

لا زال أمامنا متسع من الوقت، ربما كان يدري أنّ الوقت جسر واهن، وخط مستقيم يربط بين طرفي حكايتين مختلفتين، لكل منهما أناس ومناخات وآفاق مختلفة.

الراحلون قبلنا متفوقون علينا من حيث الإدراك والمعرفة والإحاطة بالأشياء، عاشوا الحقبتين، الوقتين، وسلكوا مستقيماً قطعوه، وركبوا الآخر.

كان الجو بارداً، وندف ثلج حبيسة الغيوم الجاثمة على صدر الرياح العاتية، يمنعها من السقوط قدر رئيف. وكنتُ في عنفوان تطلعاتي وأحلامي مغروراً بأني من الجيل الذي حطّم أصفاد العبودية، وأبواب الحظيرة. أعيش الحياة جمعة إثر جمعة وفي كل جمعة أتهيأ، أستيقظ باكراً، أضع بعض الأولفيرا الرخيصة على وجهي، أتركها نصف ساعة، وأغسلها بالديتول، استحم بطنجرة الماء البارد الاعتيادية.. 

بعد صلاة الجمعة، أُخرج العلم الصغير من جيبي، أطوف رفقة صحبي وأناس لا أعرف معظمهم شوارعاً وحارات، تارة تلاحقنا الدوريات، يمسكون منا ما استطاعوا، ويطلقون النار على البقية.

لن أقول إن من نجا من تلك الرصاصات محظوظ بالمطلق، لكنني سأقول إن من بقي إلى الآن لا يزال يمشي بخذلان على مستقيم الزمن الأول.

في ذلك الوقت كان ثمة كاتب صغير يعشعش في روحي، يبني لنفسه كوخاً مليئاً بالقصص والروايات والرؤى. وكنتُ أخمده خوفاً عليه من أن تغلبه الشعارات وبذلك لن يؤدي أمانته، كنتُ أخاف عليه من شيء أجهله.

أتساءل دوماً.

أترى يعلم الطير أنّ صياداً أمرداً يغطي رأسه بالطحالب يتهيأ لإطلاق النار على جناحيه الغضين فيما لو فكر لثانية واحدة أن يتحسس واقعه، أن يهبط على هذه الأرض مرة. 

السماء أكثر أمناً للطيور، خُلقت لكي تبقى عالياً. 

لم يكن أمامنا متسع من الوقت يا أبا علام، رحلت باكراً كالورد، رحلت في الوقت الذي كان ينبغي عليك البقاء. 

ربما هذا هو قدر الطيور والأزاهير. 

صباح ذلك اليوم البارد وبينما كنتُ أرتعد ألماً، وأرى الدخان يصّاعد من قريتي ومعه تتصاعد أرواح الأبرياء التي أنقض عليها الصياد من السماء هذه المرة جاءني (أخو الدمعة) أخو الدمعة هذا  شاب ديري درستُ وإياه الجامعة، وما أن عصفت بهم رياح الحرب حتى وجدتني أبحث عنه، كلمته وجلبته وعائلته فاستقروا بيننا، وذاتها الأقدار التي ساقته إلي، ساقته إلي مرة أخرى حيث المدرسة التي كنتُ أعمل بها في إحدى قرى ريف الرقة الشمالي.  

كان مضطرباً على غير عادته، متشحاً كوفية فلسطينية وشيء كما الدمع يلتمع بعيداً هناك خلف ابتسامة حرثت وجهه حرثاً. 

أذكر أننا لم نتعانق ولم نتحدث البتة، أومأ لي برأسه أن اصعد. 

دراجة نارية تشق صدر الريح تئن مثل عجوز أرهقتها الليالي، أقلّتني وإياه حيث انتهى مستقيم الكثيرين هناك في قريتي.

صعدت خلفه بصمت، نعم كنا صامتين كقبرين متجاورين، حاولتُ أن أقول شيئاً، أي شيء لكنني كنتُ أخشى الإجابة. 

كل مفاضلات الحياة تافهة أمام الموت. 

لا أدري تماماً إن كنا نشعر بذات المشاعر لو كان المقتول ابناً أو أخاً أو أمّاً. 

في هذه النقطة بالذات نقف على شفير حزن أسود يختلف عمقه، يزيد احياناً وينقص أحياناً أخرى. 

أذكر أني انتحبت، ربما كنتُ أريد سماع الإجابة … لكنني لم أكن أمتلك الشجاعة لأسأل السؤال.

دخلنا القرية كانت الدور خرائباً، فوضى عارمة تعم كل شيء حولي، وحدهم الأموات كانوا ينتظمون بتوابيتهم، عائلة من (آل….) قُتلت بأكملها، وبنتُ أخرى بجوارهم اخترقت بطنها بعض الشظايا لكنها لم تجهز عليها فغدت تزحف زحفاً تجر أمعاءها إلى أن وصلت بيتنا في الطرف المقابل.

طفلين صغيرين انفجرت عليهما مخلفات قنابل يدوية فأرسلتهما هناك حيث تغريدهما الأبدي. 

تجاوزنا بيتنا، انعطف أخو الدمعة يميناً، كان الجامع يصدح بالتكبيرات، التكبيرات فقط، لم يكن يعلن عن موت أحدهم كعادته.

أمام بيت عمي أحمد الذي سماني أبي عليه تيمناً به، كان هنالك رجال كثير ونساء، وقفوا بجانب بعضهم متسمرين، صامتين كأوابد ضاربة في القدم يرجعهم إلى واقعهم أصوات اشتباكات متفرقة تسمع بين الفينة والأخرى وقذائف تسقط على الريف من حولنا وعلى قريتنا التي نزح كثير من أهلها نحو الحقول والأراضي الزراعية المجاورة.

ترجلنا من الدراجة، تقدمت نحو أهلي وأولاد عمي، ربما نؤثر الصمت في مواقف كهذه لأن اللغة بحروفها وأفعالها وأسماءها وبكل قواعد نحوها وصرفها تصبح عاجزة عن التقدير الحقيقي لحجم الألم الرازح كالبازلت داخلنا.

نظرنا إلى بعضنا والدموع حجارة تراكمت إلى أن وصلت سقف السماء. 

وحدها عمتي الثكلى كانت تصرخ بأعلى صوتها، تصرخ صراخاً خاوياً أجوفاً يعبر عن كل شيء رغم ألا معنى واضحاً له. 

اقتربت من النسوة، كانت وجوههن تختزن حزناً يسلب العالم أسمى معانيه. 

لا زلت أمتلك من القوة ما يكفي لتمكيني على مضض من حمل قدمي الثقيلين الغائرتين بأوحال قهر هذا الكون من حولي.

كان أبو علام (خلف خميس) مسجىً وسطهن، الموت لا يجعلنا أجمل، الموت يجعلنا أكثر رعباً، الموت يكتنز خوف الحياة كلها ليخرجه دفعة واحدة على الشفاه البيضاء الصامتة، على الأطراف الشاحبة اليابسة.

كان وجه (خلف) مهشماً كأنما حفرته المناجل والفؤوس، وفي صدره وبطنه عدد لا يحصى من الثقوب.

بحثت في وجهه عن مكان صالح للتقبيل فلم أجد، كل ما تمكنت من فعله أنني جثوتُ عند قدميه الباردتين تحسست أصابعه، قبلتها إصبعاً إصبعاً.

ربما لم يعد هنالك متسع من الوقت يا أبا علام …. قلت في نفسي ومضيت رفقة المشيعين نحو المقبرة، ومنذ ذلك الوقت وإلى هذه اللحظة لم أعد أمتلك القدرة المثالية على التمييز بيننا وبين من رحلوا.

من منا يا ترى لا زال على قيد الحياة..!!