السجن يعيش فيك ومعك

0

غسان المفلح

كاتب سوري

أوراق 11

ملف أدب السجون


شاب في العشرين من عمره، كان يصرخ من شدة التعذيب، خلال ذلك كان يستجدي الضابط المعذب بعبارات مثل”والله ياسيدي ماني اخوان” والله ياسيدي ما “شخيت” على صورة الرئيس” ثم سأله الضابط المعذب والمحقق بالآن معا: من اين أتيت بالحشيش على المعسكر؟ اتيت به معي بالاجازة.

على هذه الاسئلة كان هذا الشاب يتعرض لجولة تعذيب قاسية منذ نصف ساعة بالكبل الرباعي. ياسيدي داخل عليك! ياسيدي يخلي لك امك. ياسيدي يستر على عرضك ويخلي ليك اخواتك” اجابه الضابط ما عندي اخوات وهو ينهال عليه بالكبل. عندها صرخ الشاب: روح الله يعدمك شبابك. عندها قهقه المحقق بصوت عال واوقف التعذيب. بعد ان ادماه. ثم امر العنصر بإعادته على الزنزانة.
هذا الشاب خرج من المعتقل بعد شهرين من اعتقاله. لم يثبت عليه أيا من التهم، إلا انه يتعاطى سيكارة حشيش في المعسكر بعد كل اجازة. سبب اعتقاله تقرير من مخبر.
الكتابة عن السجن والتعذيب واذلال المعتقل والتصفية في حالات كثيرة. عبثية هذه الجو الكابوسي الذي تعيشه سورية منذ خمسين عاما. لم يكن قضية عارضة بل هو عنصر بنيوي في تكوين الاسدية. كتب عنه الكثير. الوقائع تشكل ارشيفا لكل المنظمات الدولية المنية بحقوق الانسان. عدا عما تم تناوله فيما سمي ادب السجون.
السجن لمدة طويلة أكثر من عقد من السنين، يعيد صياغتك بشكل او بآخر. يختلف من معتقل لآخر.
معتقل الرأي او السجين السياسي في سورية، كأي كائن انساني يحمل معه سلبياته وايجابياته إلى السجن. ايديولوجيته ومرجعياته الثقافية والقيم التي يؤمن بها او يعمل بها ومن اجلها. موقفه من الحياة والعالم، من وطنه، من شعبه. يحمل معه اسراره ايضا. تجربته في قريته ام في حيه الذي نشا فيه بمدينته سواء كانت صغيرة ام كبيرة. هذه الكتلة الانسانية الفردية، المتخمة بحلم التغيير. هذا الحلم بالتغيير يبقى حصانته من العبث واللاجدوى. كل سجين سياسي يكونه من جديد شرط السجن نفسه. لكن هل هذه يحميه من الاكتئاب، من العبث نفسه؟
هل تتوفر الكتب والصحف له؟ هل تتوفر له زيارات دورية من اهله؟ تفاصيل المكان السجن تلعب دورا في رسم حركته. مهجع كما يسمى في لغة السجن مثلا مساحته لا تتعدى ال16 مترا مربعا، يسجن فيه 55 سجينا سياسيا في فرع فلسطين. أو 20 شخصا في سجن صيدنايا. ثم يقل العدد مع كل دفعة افراج عن معتقلين.
كثيرة هي شروط السجن التي تساهم في تكوين السجين. في اعادة صياغة علاقته بالعالم ربما.
تفاصيل صغيرة اتذكرها مثلا كنت فيها انانيا، اشعر بالندم. لا تزال جزء من ذاكرتي. الاحتكاك اليومي بين السجناء، بين هذه التجارب الانسانية، احيانا يخلق مساحة من التشاركية. احيانا يخلق مساحة من الخصومة، او مساحة من الحيادية والاهمال. كلها لا تزال تعيش معي. احاول نسيانها كما أنسي المعرفة او الايديولوجيا التي تجاوزها الزمن. لكن عبث. بعضنا كان يردد ان السجن عالم الصغائر. حيث الصغائر في السجن تصير كبائر.
كيف يدير السجين حياته لكي يحافظ على بقائه؟ سؤال حاضر بشكل مباشر او غير مباشر في سلوك السجين، حيث لا افق لخروجه من هذا الاعتقال في زمن اسدي مغلق. كنت لاعب شطرنج مميز في السجن، وأحب اللعبة قبل السجن، لكن بعد خروجي منه لم اعد لدي اية رغبة في لعب الشطرنج. لا اعرف لماذا؟ ربما لأنني اريد النسيان!
في صيدنايا اقام بعضنا خيمة له، ربما لكي ينام او يجلس وحيدا عن عيون من معه في نفس المهجع. او من اجل خصوصية ما. ليس هذا غير العادي، لكن غير العادي، عندما خرجت من المعتقل، وعدت الى بيتي في دمشق، وفيه خمس غرف، لا يشاركني فيها أحد تقريبا. وجدت نفسي اقيم خيمة في باحة الدار وانقل ما احتاجه اليها. بعد أشهر شعرت انني لا ازال سجينا. فأزلت الخيمة. كان اخوتي وبعض اصدقائي في الحي الذي اسكن فيه بدمشق، يشغلهم سؤال عن هذه الخيمة وبقية الغرف فارغة؟ بعدما ازلتها قال لي أحدهم: لم أكن اريد ان اقول لك أنك لم تخرج من السجن عندما كنت ازورك في الخيمة.
بعض السجناء يرسمون في مخيلتهم صورة عن المرأة، تحتل المرأة موقعا رئيسيا في الحياة الداخلية للسجين، لأنه محروم. كثير منا عندما خرج من السجن لم يجد هذه المرأة. كانت وهما. ليس لخلل في المرأة بل لخلل في الشرط الانساني للسجن نفسه.
لا يمكن للسجين ان يرسم امرأة واقعية. هذه رؤيتي طبعا. ربما اكون مخطئا.
لماذا تضطر الى ممارسة العادة السرية؟ في مرحلة من العمر تتحول فيها ممارسة هذه العادة الى احتقارا لإنسانيتك برمتها. هذه التفاصيل وغيرها لاتزال كأنها الان. في كل مرة اتذكر السجن.
السجن مولد احقاد لا تنتهي. تحاول التخلص منها. منها الصغير ومنها الكبير. بعد خروجك تحاول التخلص منها، لأنها هدر لإنسانيتك كلها. لكنك في مواقف كثيرة تجدها امامك.
عندما رحلنا من فرع التحقيق العسكري لصيدنايا، كنا 48 معتقلا. كان هنالك في استقبالنا رقيب اول اسمه آصف. ترك الجميع وصفعني على وجهي دون ان اكون منتبها له. صفعة لم أستطع نسيانها حتى الان. السبب كما قال انه لم يعجبه شاربي. هذه الصفعة باتت تكثيفا بوجه ما لنظام الاسد في حياتي. لاتزال هذه الصفعة تعيش معي للأسف.
ايضا في اليوم التالي لوصولنا لصيدنايا، كنا كما اذكر ثمانية اشخاص في مهجع، كان السجن لايزال جديدا. حب رفيقنا ابو جمال كمال ابراهيم يسمعنا موال، على إثر موال كمال اكلنا جميعا فلقة دولاب مرتبة. رغم اننا كنا نقول لكمال ارحمنا يا رجل، لا يصلح صوته للغناء. مع ذلك استمر لم نكن نفكر للحظة اننا يمكن ان نتدولب من وراء صوت عابر لكمال في لحظة قهر.
هذه بعض من تفاصيل صغيرة لا تزال حاضرة كأنها الان. اما القضايا الكبيرة فقد سحقها الاسد. هي لا تعيش معك بل تعيش فيك وتنتج ربما موقفا لك في هذه الحياة المستمرة على نفس وتيرة الابادة والجريمة.





ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here