قراءة في بحث السجان في أدب السجون 1980 -2008 للكاتبة: رحاب منى شاكر
أسامة عاشور
ناشط سياسي ومدني ونِسوي و معتقل سياسي سابق. يحمل دبلوم في الصناعات الغذائية من جامعة حلب. مقيم حاليا في ألمانيا.
أوراق 11
ملف أدب السجون
في رواية شرق المتوسط يقول عبد الرحمن منيف “في هذا البلد اللعين لا أحد ينجو الذي يعمل في السياسة، والذي لا يعمل الذي يحب النظام، والذي لا يحبه بلد مجنون ويجب ان يدمر”، السجن مَعلم أساسي في حياة السوري وذاكرته وحديث السجن الأكثر تداولاً وتمظهراً في سورية لعدة عقود، كان يتسرّب إلى ذوي المعتقلين والمفقودين، من خلف جدران السجون والمعتقلات لكنه لم يستوِ على قاعدة بناء فني وجمالي.
تقول الكاتبة “وبما أني تربيت في أوساط السجناء، فأن ذاكرتي مليئة بقصص عذاباتهم أكثر من حكايا البنات عن الحب، فهم لا يكفون عن رواية ما حصل معهم، فجأة، كما لو أن الحديث عن السجن لبّ الحياة الذي جعل كل شيء قبله وبعده يتقزم. ولكن يوماً ما سيتوقف ذلك التقليد الشفهي وتأكل أسنانُ الزمان الذكريات، ولن يبقى سوى ما كتبوه على الورق.
يضم البحث المعنون “السجان في أدب السجون 1980 -2008″ والمقدم الى جامعة أمستردام 2009،مقدمة وعشرة فصول تعكس رحلتها مع النصوص وكيفية اختيارها وتوضح في الفصل السادس لماذا اختارت تيمة السجان موضوعا لبحثها، وتعرض في الفصل السابع السجان من منظور الرواة لتستخلص في الفصل الثامن سماته العامة روائيا محاولة في الفصل التاسع الوصول الى فهم أعمق لطبيعة الشخصية المدروسة وفي الفصل العاشر تتطرق الى السجان من منظور النساء السجينات لتحاول الاجابة في الفصل الحادي عشر على سؤال هل السجان فاعل أم ضحية؟
معظم الكتب المدروسة صدرت خارج سوريا ما بين 1988 و2008، وهُرِّبت لاحقًا إلى الداخل (القوقعة كمثال) لأن المحتوى الحساس يجعلها غير قابلة للنشر داخل سوريا، فهي في نهاية المطاف تحاكم النظام الذي لا يتقبل المعارضة ويحاول سحقها، وصدرت (عين على السفينة) كطبعة خاصة على حساب كاتبتها ووزعتها كهدية للأصدقاء. . وأصدر بدر الدين شنن كتابه الشهادة، على طريقة السميزدات (أي اطبعها بنفسك) ونجح بعض الكتاب بنشر كتبهم في سوريا، من بينهم ابراهيم صموئيل وجمال سعيد شرط حذف أي شيء يدلّ على تاريخ نشوء القصة وسنركز حاليا على عرض الفصل العاشر المعنون
السجان من منظار السجينة:
من الحب .. الى الاغتصاب
معظم النصوص التي درستها الباحثة كتبها رجال، ماعدا أربعة نصوص كتبتها نساء، والسبب كما تقول “هو أن السياسة السورية كانت ولا زالت ملعبَ الرجال، ولم يُفتح المجال أمام المشاركة النسائية الحقيقية سوى في حزب سياسي واحد: رابطة العمل الشيوعي، وحسب مصدرٍ في أخبار الشرق الأوسط، فقد تم اعتقال 125 امرأة منتسبة لذلك الحزب، مقابل 2375 رجل، ندرة أدب السجون النسائي يعود إذن للانخفاض النسبي لعدد المعتقلات السياسيات، ويمكننا القول إن عدد السياسيات في الأحزاب الأخرى ضئيل جدًا، حسيبة عبد الرحمن ومي الحافظ كانتا عضوتين في رابطة العمل الشيوعي وجميع النصوص لكتّاب يساريين. ماعدا هبة الدباغ، فقد اتهمت بالانتساب للأخوان المسلمين، ونقرأ في كتابها أن غالبية النساء اللواتي وجّهت لهن هذه التهمة كنّ في الأصل أمهات أو أخوات أو زوجات لنشطاء رجال”.
فبخلاف السجناء الرجال الذين يقضون جلّ لياليهم وبعض نهاراتهم يحلمون بالجنس الآخر الغائب، لا تقدر السجينة المرأة على تناسي حضور الجنس الآخر الثقيل في شخص السجان.. روح المرأة تتغلغل في أحلام السجناء الرجال، دون أن تتخطى القضبان فعليًا. يقول المعتقل ياسين الحاج صالح: “صورة المرأة المثلى المحلوم بها زمنا طويلا عملت داخلي فجوة لا يمكن أن تملأها كل نساء العالم”.
كثيرة هي النصوص التي تدور حول المرأة بعيدة المنال وحول الرجل الغيور غير القادر على معانقة زوجته أو حمايتها، وتصل المثلنة إلى درجة أن تصبح المرأة معادلًا للحرية، كما في الديوان الشعري ستأتين لفائق حويجة، ولكن هل ينطبق هذا على تجربة السجينة أيضًا؟ هل يتم مثلنة الرجل إلى درجة تشبيهه بالحرية الثمينة؟ الجواب هو لا، إذ أن كتابات السجينات لا تضج بنداءات الحب على الإطلاق، يبدو أن الأحلام حول الجنس الآخر يشوبها مشاعر الترقب الخائف من خطوات السجان الثقيلة.
أن الوجود الفيزيائي للسجان سبب تشويشاً واضطراباً على المدى البعيد لدى السجينات، وقد لمّحت إلى ذلك روزا ياسين حسن في أكثر من موضع من كتابها نيغاتيف، كأن تهرع السجينات إلى النافذة حين يسمعن صوتًا رجاليًا ليلًا كي يرين السجان في بيجامته، أو أن تحدث بلبلة بين السجينات لأيام طويلة بسبب منظر الحذاء الذي تركه عامل التمديدات الصحية.
ورغم أن موضوع العلاقة العاطفية من التابوهات في جميع الأحوال، وليست كل كاتبة قادرة على الحفاظ على شكل السيرة الذاتية في كتاباتها حول الموضوع، ويزداد التابو حين يتعلق الموضوع بعلاقة بين سجينة وسجان، إذ أن هذه العلاقة قد لا تلقى تقبلًا حتى في أكثر البيئات الاجتماعية انفتاحاً، لذلك يصعب الكتابة عنها كخيال أو كواقع على حد سواء.
ففي رواية الشرنقة تصف حسيبة عبد الرحمن قصة حب بين سجينة وسجان. تكتب حنان (اسم وهمي)، في دفتر مذكراتها: “وقعت في الحب الحرام ثانية”!.. فهي ترى أن العلاقة لا تليق بها، فحبيبها حسب تعبيرها “أميّ، وجاهل، وأصغر مني سناً وتجربةً، ولكن الحب لا يعرف العمر والفروق، استطاع الولوج إلى أقبية مظلمة لا مرئية في مكنوناتي، ولامس احتياجاتي النفسية والحياتية دون شرح، أو تنظير”، ولكنها تبقى طبعاً مرتبكة، كيف ستكون ردة فعل السجينات الأخريات؟ تقول لنفسها إنهن لو كنّ يتجرأن أكثر، لفعلن الشيء نفسه، مبررة لنفسها.
تواجهها كوثر بموقف السجينات أولًا “هي خيانة لزوج حنان الذي ينتظرها خارج السجن، أو ربما هو مثلها مسجون في مكان ما.. وثانيًا هي خيانة للحزب: “إنك تسيئين إلى سمعتنا وأخلاقنا وحزبنا، رجل أميّ، كيف تفعلين ذلك؟!”، وتركز الكاتبة على الجوانب الأقل رومانسية لعلاقة الحب، كالحصول على كمية أكبر من الفواكه والخضار والصوف.
ولكنالشعور بعاطفة ما تجاه السجان كان الاستثناء الذي يثبت القاعدة، يعج أدب السجون بالكلمات المهينة للأنوثة، ونلاحظ أنه حتى ولو كان الهدف هو إهانة السجين الرجل، سوف يأتي السجان على ذكر امرأته (الزوجة أو الأخت أو الأم) بالسوء، في ثقافة العار التي تسود في سوريا، فإن أقصر طريق لإيذاء الروح هو العرض، وطبعاً الإهانة تصبح أضعافاً مضاعفة حين توجه لامرأة تحمل عنوان ضعفها في جسدها، فتصبح هي نفسها أقصر طريق لإيذاء نفسها. ويتعرض عندئذ كل من اسمها (بمعنى سمعتها) وجسدها للهتك.. . “سأل المحقق السجينة ناهد عن مهنتها وأجابته أنها مهندسة، فرد عليها أنها ليست مهندسة، وإنما عاهرة، وحين صرخت أن الجميع في البلد يعرف من هنّ العاهرات، انهالت عليها الصفعات وسقطت على الأرض، ووُضِع حذاء في فمها”. وإذا كان السجان قادراً على إهانة السجين لفظياً إلى تلك الدرجة، لن تكون العتبة إلى الإهانة الجسدية صعبة على الإطلاق، حيث أن أجساد السجناء والسجينات في متناول يده حرفياً ومعنوياً.
ورغم أن الكاتّبات والكتاب يطيلون بوصف التعذيب، إلا أنهم لا يتطرقون إلى الاغتصاب إلا باقتضاب، وبشكل غير مباشر هذا يعني أن الاغتصاب موجود ولكن يتم تجاوزه أدبياً، لعدة أسباب الأول هي أن الكتّاب والكاتبات لم يمروا بالتجربة بأنفسهم، ويكتبون كشهود على آثار الجريمة، والسبب الثاني هو أن تمثيل التجربة سوف تخرق محرمات ثقافية معينة، والسبب الثالث هو أن تجربة الاغتصاب قد تكون غير قابلة للقبض عليها في الكلمات، كما تقول الكاتبة ميكه بال: “تتحطم النساء عبر الاغتصاب، ولا يكن قادرات على التعبير عنه، يُنظر إلى ذلك العجز على أنه جزء لا يتجزأ من الظاهرة، بحيث يتم تبني تلك الرؤية ثقافياً” نستنتج أن الفرق بين مكانة المرأة داخل السجن وخارجه ليست كبيرة فهي تعامل دائماً كموضوع جنسي متنقل، ويؤدي ذلك إلى تعرضها إلى الخطر بين الحين والآخر، ولذلك يبتكر المجتمع قواعد لحمايتها، وبما أن هذه القواعد تزول حرفياً في السجن، فليس من المستغرب أن تتعرض للانتهاكات الجنسية.
ومن المفارقات في وضع المرأة حتى أثناء التعذيب عند استخدام الدولاب كمثال حيث يتم طوي المعتقل وإدخاله في دولاب سيارة، و يتم ضربه بالسوط أو العصا دون أن يقدر على المقاومة بجسده أو الهروب وقد كانت هذه الطريقة تطبق على الرجال والنساء على حد سواء، إلا أنها كانت في حال النساء تثير إيحاءات جنسية.. تقول حسيبة عبد الرحمن في الشرنقة: “اللعنة.. اعتقالنا كارثة، حيض، ووجع، وشعر طويل وفوق هذا وذاك منظرنا مثير جنسياً في الدولاب… كتب علينا رفع الأرجل أينما كنا في الفراش أو الدولاب!!”.
صحيح ان عدد الرجال كان أكبر نسبيا وبالمطلق، من عدد النساء المعتقلات، كذلك كانت فترة اعتقال الرجال أطول، وتعذيبهم أقسى، وقد تم ترحيل نسبة أكبر منهم إلى سجن الفظاعة تدمر، بيد أن النساء كن في جانب معين أكبر الخاسرات، ففي حين راح الرجل يبالغ في مثلنة الجنس الآخر، اهتزت صورة الرجل لدى المرأة، وصار الجنس الآخر ليس فقط العشيق المحتمل، بل المعنّف النهائي، وبينما لم يتبق للسجين نساء يملأن الفراغ الذي خلفته المرأة المثلى، استحالت لملمة الكسور في روح السجينة.
27/11/2020