الرّيحانة ونيروز وشقائق النعمان**

0

وحيد نادر*

مجلة أوراق العدد 13

الترجمة

بعد حصولي على شهادة الدراسة الثّانوية منتصف سبعينيات القرن الماضي، أرسلني أبي إلى حمص، لدراسة هندسة البتروكيمياء. فالشّعر لا يطعم خبزاً، وعليّ، حسب رأيه، إذا كنت لا أريد الابتعاد عن الشّعر وكتابته كليّاً، أن أجعله هواية أمارسها أوقات فراغي. و كان لأبي ما أراد. فلم أفتح نوافذ ذهني للشّعر، ولم أسمح لربّاته بزيارتي إلاّ في ساعات اللّيل المتأخّرة، بعد إنجاز واجباتي الدراسيّة كلّها. كانت حمص، لابن قرية مرميّة مثل غيمة فوق أحد جبال الساحل السوري، عالماً ليس فقط جديداً، بل واسعاً جدّاً، أوسع من سماء تلك القرية، التي كانت تشعل قمر الربيع بالبخّور وتطفح بضيائه العابق وهو يسكب ضحك الزهور وعبقها في أحضان الحقول، وعلى صدور التلال وهي ترقص في استقبال ألوان نوره.  

لا أستطيع نسيان ربيع القرية و احتفالات الناس وأفراحهم بأعياد الربيع، فمن ينسى رقص الشّباب والصبايا حول نار (القوزللة) في أعالي الجبال، حين كان الربيع يتفتّح في قلوب العشاق وعلى فساتين الصبايا، قبل أن يتلمّس طريقه إلى  وديان نيسان القريبة، فكلّ شيء ربيع، حتّى صخور البراري تشتعل نابقة بأنوار النرجس وسماءات البنفسج الزّرقاء! في حمص تحولت تلك الأفراح إلى ذكريات، لأنّي لم أكن أشهد فيها شيئاً يشبه الربيع، فما بالك باحتفالاته وأعياده. فعشوائيات حمص وحارتها الشّعبيّة، التي سكنت فيها، لم تكن أكثر من كتلٍ اسمنتيّة تشبه الموت بوجهه الكالح، فكيف سيأتي الربيع ومن أين؟

لم أكن في تلك الأيّام أدري شيئاً عن شعوب شرقيّة أخرى تحتفل مثلي ومثل أهلي بعشتار والنيروز. كما أنّني لم أكن أعلم يومذاك شيئاً عن وجود أقوام غير عربيّة في سورية. فقد جرى حشو أجيالنا في حلقات الشّبيبة في المدارس بأمجاد المسلمين والعرب ورسالتهم الخالدة، حتّى انتفخ الصبّي منا وأصبح دونجواناً لا تسعه الدنيا. اسم حمص نفسه، التي جئت للعيش والدراسة فيها، رُكّب في رأسي على شكل: “سيف الله المسلول”، وحين رأيت حمص، رحت أبحث عن ذلك الإله الذي يحرس مستودع أسلحة. إذ كان لله في رأسي سيوف، لم أجدها مرفوعة يوماً في يد أحد من أجل تحقيق رسالة تلك الأمّة الخالدة والدّفاع عن أرضها المسلوبة! رغم التربيّة القوميّة التي تلقيناها في مدارس قرانا، فقد طبعنا الانتماء إلى الطائفة أيضا، طائفة لم نكن نعرف غيرها، ولا نعرف التّعامل مع خارجها. وكان سؤالي لنفسي يومذاك: كيف استطاع الحزب الحاكم بناء عمارته الطائفيّة والقوميّة فينا في آن واحد؟ لست هنا بصدد سرد أو تحليل هذه الظواهر هنا، لكنّي أردت أن أقول، أنّ ذاكرتي لم تكن تعرف من انتماءات في سوريّة سوى بعض الانتماءات السياسيّة والطّائفيّة، ولم أكن أستوعب يومئذٍ إمكانيّة أن يعيش سنّي مع علويّ مع مسيحيّ في نفس البيت، حتّى رأيت ذلك بأمّ عيني في حمص، حين تعرّفت على ثلاثة سياسيين وأدباء حماصنة، من ثلاثة انتماءات دينيّة مختلفة، استأجروا غرفة في أحد حارات حمص القديمة وعاشوا فيها سويّة.

لكنّي سرعان ما تغيّرت في حمص، واعتنقت دين اليسار ولغته، وبدأت، شيئاً فشيئاً، أستوعب سوريّتي وربّما عروبتي أيضاً بطريقة جديدة. لكنّ ميلي إلى البحث عن الأبعاد الإنسانيّة في الأفكار التي كنت أتعثّر بها في حياتي اليوميّة والجامعيّة وفي كلّ فعاليّة أشارك فيها، بدأ يشغلني أيضاً. وهذا ما قادني فيما بعد إلى الشّك في قدرة الدّين على فهم الكون والإنسان، ورحت أميل شيئاً فشيئاً إلى أسلوب حياة جديد، أحاول فيه تفضيل الإنسان ومصلحته على الآلهة ومصالحها. في ذلك الخضمّ من التغيّرات، تعرّفت لأوّل مرّة في حياتي على شعوب سوريّة أخرى ليست عربيّة، مثل الشركس والأرمن والسّريان والأكراد … ولم يكن دخول أسماء تلك الشعوب غير العربيّة إلى قاموس حياتي صعباً، لأنّي لم ألمس أيّة فروق في الشكل أو في المضامين الحياتيّة والثقافيّة، يمكنها فصلي عن أصدقائي الجدد.  

أنا لم أسمع إذن بتسمية “كرد، كورد أو أكراد” قبل مجيئي إلى الجامعة منتصف سبعينيّات القرن العشرين أبداً. حتّى الأكراد الذين تعرّفت عليهم في حمص، وكانوا زملاء لي في كلّية الهندسة، لم يعرّفوني بأنفسهم على أنّهم أكراد، كما لم يتكلّموا اللغة الكرديّة أمامي إلاّ نادراً، ولم يمارسوا شيئاً يدلّ على ذلك، إذا ما استثنيت هنا حبّهم للمغنّي شوفان أو شيفان. كانت عادة تبادل كاسيتات الشّعر والغناء الممنوع في سوريا منتشرة جدّاً يومذاك. فبتلك الطريقة حصلنا على قصائد محمود درويش ومظفر النّواب وأغاني مارسيل خليفة وعلى تسجيلات الكثير من النشاطات الفكريّة والأدبية والسياسيّة المعارضة في تلك الأيّام. لذلك أخذت الأمر يومذاك، حين أهداني زملائي الأكراد شريط (كاسيت) لشيفان، على أنّ صاحب اللّحية هذا يساريّ يكره الاستبداد ويقف ضدّ الإمبرياليّة والصّهيونيّة أيضاً. وقد أوحى لي زملائي الأكراد بذلك. فرحت أستمع على ألحان شيفان وأغانيه، رغم عدم فهمي للكلمات، حتّى كاد شيفان أن يحلّ محلّ فيروز في أذني.

فيما بعد، وبعد أن انتقلت إلى دمشق، عرفت الأكراد عن قرب حقيقيّ. فقد عشت فترة قصيرة بينهم في حاراتهم، وأصبح لعائلتنا أصدقاء منهم، قصّوا علينا مآسيهم والجور اللاّحق بهم في دولة البعث والعروبة. وقد صدمني وقتئذٍ لقائي بشابّ كرديّ يخدم في الجيش السّوري، رغم عدم ملكيته للجنسيّة السّورية! فيما بعد تعرّفت على هذا الشعب الشرقيّ، على ثقافته التي تشبهني، واكتشفت احتفالهم بأعياد الربيع مثلما تفعل قرى السّاحل. لكنّ معرفتي زادت بالكرد وبكلّ أطيافهم الدينيّة واللغويّة في ألمانيا. وعرفت منهم هنا الأخوة الإيزيديّين، الذين اضطهدهم، بسبب انتمائهم الدينيّ، ليس العرب فقط، بل وأبناء جلدتهم من الأكراد. ففي مجتمع ألمانيا الحرّ بمؤسّساته الدّديمقراطيّة، يُخلق الإنسان القادم من شرقنا وتنبعث ثقافته وروحه من جديد، إنّه يعلن عن نفسه، عن عشيرته ودينه وعشقه وقوميّته، و يمارس ثقافته و يصبح صديقك أو خصمك السياسيّ بلا خوف؛ فهو مثلك وأنت مثله، لا أكبر ولا أصغر، في ممارسة الحقوق والواجبات أمام القانون. و إلا فكيف أفسّر احتفال جيراني الإيزيديّين بكل ما يريدونه أمامي ومعي في ألمانيا، وبتشجيع أيضاً من مؤسّسات الدولة الألمانيّة وبإسهام من منظّمات مجتمعها المدنيّ والدّيني، مقابل عدم قدرتهم الإفصاح عن أيّ انتماء من انتماءاتهم في بلدانهم الأصليّة؟

اردت من عجالتي السرديّة هذه الوصول إلى سؤال يطرحه كثيرون اليوم: هل ساهم جهل بعض مكوّنات المجتمع السوري لبعضه الآخر في حصول المأساة السوريّة التي عشناها حتّى الآن، و نعيشها بشكلها الأكثر حدّة وتطرّفاً في السنوات العشر الأخيرة؟ وأجيب الآن: لا شكّ في ذلك أبداً. فقد قتلت عسكرة المجتمع وترييفه وتطييفه، وقتل حكم العسكر بمخابراته وحزبه الواحد كلّ نواة فعل أو حراك مدنيّ يستطيع بناء مجتمع على أساس عقديّ تكافليّ وتضامنيّ. وهكذا عاش الإنسان السوريّ هذا التفتت على كلّ المستويات وفي كلّ مؤسسّات الدولة والمجتمع. فكان الانفجار المدمّر حتميّاً، لأنّ طائر الفينيق لا يخرج إلاّ من رماده! 

اليوم أهدي هذه القصائد إلى أصدقائي الكرد، الذين أهدوني قبل خمسة وأربعين عاماً أغاني شيفان، ولم أعد أستطيع الآن تذكّر وجوههم أو أسمائهم. أهديها لأصدقائي الذين علّموني أنّ لسورية لغات ووجوهاً أخرى غير تلك التي عرفتها قبلاً، وجوهاً أحلى وأجمل ربّما من تلك التي كنت أعرفها؛ أهديها لأصدقاء يؤمنون مثلي بوطن سوري، لهم فيه ما لي، ولي فيه ما لهم. أهديها إلى عادل قرشولي، الشّاعر الألمانيّ الكبير، لكنّه أيضاً صديقي الكرديّ الدمشقيّ الجميل.   

أخذت نصوصي المنشورة هنا، من ديواني الألمانيّ “احتراق الرّيحانة”، وترجمتها بنفسي (مع بعض تصرّف) إلى العربيّة. يسعدني طبعاً نشرها في مجلّة رابطة الكتّاب السوريّين “أوراق”، في عددها المخصّص للأدب الكرديّ صيف عام 2021.

قصائد من ديوان “احتراق الرّيحانة”، إصدار دار هانز شيلر برلين 2019

ترجمها عن الألمانيّة وحيد نادر

أوراق

أشكرُ أوراقي،

التي تحمل معي

كلّ هذا

الذي في صدري.

أشكر بياضَها المهيب،

فهو الذي يجمع دموعي في راحتيّه. 

أشكرُ لهيب ريحانتي التي تحترق،

و هو يجمع شقَفي إلى جرار خمر.

أشكر يديكِ، أيّتها الحبيبة،

وهي تجمعُ أوراق شجرة عمري

وتوزّعها هدايا

على سواقي الخريف. 

21 آذار/ رأس السنة السّورية الجديدة

اليوم

في اللّيل

تسهرُ نانا

على سرير أخيها أوتو

و توقظُه بقبلاتٍ من الزّعفران.

اليوم

أحتفلُ النيروزَ

مع شقائق النّعمان،

عيد ميلاد أمّي، سوريا.

اليوم

تنتشلينني من غربتي،

كأنَّنا عشتار وتمّوز،

نرقصُ في عرسنا

حول (قوزللة) الرّبيع

نُلبِسُ الأرضَ

زهورَ المسيح

ونتجلّى.

______________________________________________________________________

  • احتفل السّوريون بتاريخ 21 آذار 2016 برأس السنة السورية 6766 (يوم النوروز العالمي).
  • عشتار أو إنانا، هي زوجة تمّوز. وهي ربّة الشهوة الجنسيّة والخصب في بلاد مابين النهرين. تجسّد عشتار كوكب فينوس،

 ابنة نانا القمر وأخته أوتو الشمس.

البارحة و اليوم

                    إلى إيلان

كنتُ أيّامَ زمان

أركب أحصنةَ الموج

في البحر الأبيض المتوسّط،

أجدّف بقاربي وأدخل بوّابة المساء

لأصطاد النجوم.

كنت أستلقي على رمل الشّاطئ

وأرسل قدميّ

تدغدغها أهدابُ الموج،

التي راحت تطوي السّماء

وتلعب

كرةَ القمر

فوق ظهري.

مازلتُ إلى اليومَ

أركب أحصنة موجِ المتوسّط،

لكنّي أجدّف الآن في كهف العتمة.

فاليومَ

يرتطمُ قاربُ حظّي

بحائط البحر الصخريّ

على شواطئ ليسبوس.

سوريا

في جَفاف شجيرة الرّيحان

يتَصارعُ غُرابان.

أنتِ فيّ يا سوريا،

مع ذلكَ،

أبحثُ عنكِ ولا أجدُكِ!

لقد أصبحَ يومُكِ أعمى

ونَسيتِ الغُزلانُ ألوانَ عِشقِها

فوق نداوةِ حقولِك.

مرتزقةٌ يشوونَ حُلمي بكِ

على حرائِقِ جَسدِك،

ويقطفونَ بالقنّاصاتِ

زهورَ الخُزامى عن قبرِ أمّي.

فوق يَباسِ ريحانتي

يتحاربُ غُرابان.

شظيّتان

              إلى حلب

1

فتحوا قبورهم

بمفاتيح بيوتهم.

فقط، لو عرفوا ذلك من قبل،

لبنوا سقوفَها من غيم

وحيطانها من ضباب

وأبوابها من زهر الخزامى.

2

حين تضمّ سلمى صورةَ بيتها إلى صدرها،

يسقي دمعُ عينيها نباتاتِ شرفتِه.

وحين تبتلُّ الصّورةُ

يفوحُ أريجُ الروزمارين

و تبتسم سلمى.

زنّوبيا

بالزغرودة (زلغوطة بالعامّية) استطاعت نساء سوريا المحاربات إخافة الدواعش عن بعد وإجبارهم على الإنسحاب،

فمرتزقة الدولة الإسلامية يخافون أن يُقتلوا على يد امرأة. لأنّ جهنّم مصير من تغلبه امرأة، حسب اعتقادهم!

قطعان سود

تفترس النساء،

و لو كنّ من رملٍ وحجر!

قطعان سود تجرّ زنوبيا

وهي تصلّي

تحت أطلال معبد بعل.

لكنّ المرأة تنتفض فيها

تنهض

تتقدّم بين حطام تيجان الأعمدة الساقطة،

ثمّ ترسل في غبار البادية

شكواها

زغرودةً تدوّي

و تودي بمعتنقي رايات الموت.

أمام باب جهنّم

يصطفّ هؤلاء

مردّدين: “نحن مَنْ صرعتْنا امرأة.”

رحلة جويّة

كلّ ربيع

يغنّي لي الحسّون:

“من يأتي لي بوطني إلى البيت؟”

في كلّ ربيع

أترقّب عودة طائر الكُرْكيّ

فوق المنحدرات الصخريّة على نهر الإلبه؛

فقد يحمل لي تحت جناحيه

سلّة من نسائم جبال طرطوس!

بلغات سوريّة

أغنّي لأيدي أحفادي،

وهي تبني معي

أجنحةً من ورق الزيتون،

نطير بها

الخريف القادم

إلى سوريا. 

                         ماجديبورغ 19/5/2021

*وحيد نادر “احتراق الرّيحانة”، إصدار دار نشر هانز شيلر برلين 2019

**وحيد نادر شاعرٌ ومترجم وأستاذ جامعيّ من أصل سوريّ يعيش في ألمانيا. حاصل على جائزة الشّعر للجامعات السورية عام 1978، وجائزة معهد غوته للترجمة الاحترافيّة عام 2012، وهو عضو في اتحاد الكتّاب الألمان وفي رابطة الكتّاب السوريين، يكتب باللغتين العربية والألمانية. لوحيد نادر ديوانا شعرٍ بالعربيّة: – الأول بعنوان “كيف سأنفق هذا الجوع” الصادر عام 1984 بالتعاون مع اتّحاد الكتّاب العرب في دمشق، – والثاني بعنوان “الحمد للربّ، لم يلد وخلّف لي حبيبي” الصادر عن دار التوحيديّ في حمص عام 2000. كما صدر له بدعم من وزارة الثقافة في ولاية ساكسونيا أنهالت ديوانان شعريّان باللغة الألمانيّة عن دار “هانز شيلر”  في برلين: – الأول عام 2010 بعنوان “نجوم ليلٍ سكران” – الثاني عام 2019 بعنوان “احتراق الريحانة”. للشاعر العديد من القصائد والترجمات والمقالات المنشورة في الصحف والدوريّات العربية والألمانيّة. كما ترجمت قصائده إلى لغات أخرى مثل الأرمنيّة والصربيّة وغيرهما. لوحيد نادر مساهمات كبيرة وكثيرة في مجال الترجمة، فقد ترجم العديد من الروايات والدواوين الشعريّة من الألمانيّة إلى العربية منها: “أرجوحة النفس” و“الملك ينحني ليقتل” للكاتبة العالميّة هيرتا موللر، و“بحر بنطس” لدانييلا دانتس و“مساجلات” للنمساوي إيريش فريد و”لن تموتي” لكاترين شميدت وَ“برلين تقع في الشرق” للكتابة الألمانية من أصل روسيّ نيليا فيريميه. وترجم من العربيّة العديد من الشعراء والروائيين العرب ونشر ترجماتهم في ألمانيا.