الروائى السوري هيثم حسين : خبرة الكاتب لا يمكن أن تظلّ حكراً عليه

0

حوار: منصورة عز الدين

فى‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬عاشت‭ ‬الكاتبة‭ ‬البريطانية‭ ‬أجاثا‭ ‬كريستى‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬عامودا‭ ‬بشمال‭ ‬سوريا،‭ ‬بصحبة‭ ‬زوجها‭ ‬عالم‭ ‬الآثار‭ ‬ماكس‭ ‬مالوان،‭ ‬وكتبت‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬كتاب‭ ‬يوميات‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬تعال‭ ‬قل‭ ‬لى‭ ‬كيف‭ ‬تعيش‮»‬،‭ ‬وقبل‭ ‬سنوات‭ ‬اضطر‭ ‬الكاتب‭ ‬والناقد‭ ‬السورى‭ ‬الكردى‭ ‬هيثم‭ ‬حسين‭ ‬إلى‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا،‭ ‬حيث‭ ‬يقيم‭ ‬حاليًا،‭ ‬وعن‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬كتب‭ ‬سيرة‭ ‬روائية‭ ‬يتناص‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬أجاثا‭ ‬كريستى‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬العنوان‭: ‬‮«‬قد‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬أحد،‭ ‬أجاثا‭ ‬كريستى،‭ ‬تعالى‭ ‬أقول‭ ‬لك‭ ‬كيف‭ ‬أعيش‮»‬‭.‬

وفى‭ ‬هذا‭ ‬الحوار،‭ ‬سنحاول‭ ‬معرفة‭: ‬كيف‭ ‬عاش‭ ‬هيثم‭ ‬حسين‭ ‬تجربة‭ ‬اللجوء؟‭ ‬وكيف‭ ‬حولها‭ ‬إلى‭ ‬كلمات‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬هذا؟‭ ‬لا‭ ‬أقصد‭ ‬هنا،‭ ‬ما‭ ‬يمكننا‭ ‬معرفته‭ ‬أو‭ ‬استنتاجه‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬العمل،‭ ‬إنما‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الكواليس،‭ ‬وما‭ ‬اعتمل‭ ‬فى‭ ‬ذهنه‭ ‬أثناء‭ ‬الكتابة،‭ ‬وأيضًا‭ ‬محاولة‭ ‬استيضاح‭ ‬لماذا‭ ‬فضّل‭ ‬هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عداها‭.‬

أول‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬النظر‭ ‬فى‭ ‬سيرة‭ ‬هيثم‭ ‬حسين‭ ‬الروائية،‭ ‬التى‭ ‬صدرت‭ ‬ترجمتها‭ ‬الإنجليزية‭ ‬مؤخرًا،‭ ‬هو‭ ‬الانشغال‭ ‬بالسؤال‭ ‬الأخلاقى‭ ‬حول‭ ‬هل‭ ‬يجوز‭ ‬للكاتب‭ ‬تعرية‭ ‬حيوات‭ ‬من‭ ‬تقاطعت‭ ‬سيرتُه‭ ‬مع‭ ‬سيرتِهم‭ ‬عندما‭ ‬يكتب‭ ‬تجربته‭ ‬الذاتية؟‭ ‬الأمر‭ ‬الثانى‭ ‬يتمثل‭ ‬فى‭ ‬محاولته‭ ‬نزع‭ ‬القداسة‭ ‬الوهمية‭ ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬اللاجئ،‭ ‬إذ‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يظهره‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬إيجابية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬يستعرض‭ ‬وجوهه‭ ‬المختلفة،‭ ‬ويوضح‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لتجربة‭ ‬اللجوء‭ ‬أن‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬الإنسان‭ ‬وأن‭ ‬تبرز‭ ‬أسوأ‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬بالمثل‭! ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الضحية‭ ‬ظالمة‭ ‬لضحايا‭ ‬آخرين،‭ ‬وكيف‭ ‬قد‭ ‬يكره‭ ‬الغريبُ‭ ‬الغريبَ‭ ‬واللاجئُ‭ ‬اللاجئَ‭.‬

‭ ‬هناك‭ ‬سؤال‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ ‬بمجرد‭ ‬قراءة‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب،‭ ‬لماذا‭ ‬اختيار‭ ‬أجاثا‭ ‬كريستى‭ ‬تحديدًا‭ ‬وهى‭ ‬بعيدة‭ ‬ربما‭ ‬عن‭ ‬ذائقتك‭ ‬الأدبية،‭ ‬أيعود‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬إقامتها‭ ‬فى‭ ‬مدينتك‭ ‬الأم‭ ‬عامودا؟‭ ‬ولماذا‭ ‬تظهر‭ ‬أجاثا‭ ‬أحيانًا‭ ‬وتختفى‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬فى‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى‭ ‬لتعاود‭ ‬الظهور‭ ‬من‭ ‬جديد؟

لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرّد‭ ‬إقامتها‭ ‬فى‭ ‬مدينتى‭ ‬فى‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وكتابتها‭ ‬فصولاً‭ ‬من‭ ‬يومياتها‭ ‬هناك،‭ ‬وحده‭ ‬دافعاً‭ ‬لاختيارى‭ ‬إياها‭ ‬كى‭ ‬تكون‭ ‬متصدّرة‭ ‬العنوان‭ ‬الفرعىّ‭ ‬للكتاب،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الإقحام،‭ ‬بل‭ ‬سعيت‭ ‬إلى‭ ‬التوجّه‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬للقرّاء؛‭ ‬الإنجليز‭ ‬وغيرهم،‭ ‬باعتبارها‭ ‬رمزاً‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬التاريخ‭ ‬الأدبى‭ ‬العالمى،‭ ‬وتقاطعت‭ ‬الظروف‭ ‬أن‭ ‬عشت‭ ‬ومررت‭ ‬وأقمت‭ ‬فى‭ ‬تواريخ‭ ‬منفصلة‭ ‬فى‭ ‬أمكنة‭ ‬مرّت‭ ‬وأقامت‭ ‬هى‭ ‬نفسها‭ ‬بها،‭ ‬منها‭ ‬مثلاً‭ (‬بيروت‭ – ‬القاهرة‭ – ‬إسطنبول،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬مناطقنا‭ ‬فى‭ ‬شمال‭ ‬سوريا‭ ‬ومدينة‭ ‬لندن‭). ‬

حاولت‭ ‬استدراج‭ ‬القارئ‭ ‬عبر‭ ‬التوجّه‭ ‬لأجاثا‭ ‬كريستى،‭ ‬وتحريضه‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أسباب‭ ‬ودوافع‭ ‬توجّهى‭ ‬لها،‭ ‬وإخبارى‭ ‬إياها‭ ‬أن‭ ‬تأتى‭ ‬وترى‭ ‬كيف‭ ‬أعيش،‭ ‬حاولت‭ ‬لإثارة‭ ‬الفضول‭ ‬والأسئلة‭ ‬لدى‭ ‬القرّاء‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬مرامىّ‭ ‬فى‭ ‬مناجاتها،‭ ‬وأحييت‭ ‬الذاكرة‭ ‬والذكريات‭ ‬من‭ ‬خلالها،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬القرّاء‭ – ‬حتى‭ ‬هنا‭ ‬فى‭ ‬بريطانيا‭ – ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬يعرفون‭ ‬عن‭ ‬يومياتها‭ ‬الكثير،‭ ‬ولم‭ ‬يكونوا‭ ‬يعرفون‭ ‬أنّها‭ ‬عاشت‭ ‬وكتبت‭ ‬يومياتها‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬مع‭ ‬زوجها‭ ‬عالم‭ ‬الآثار‭ ‬الراحل‭ ‬ماكس‭ ‬مالوان‭ ‬فى‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق،‭ ‬فكان‭ ‬ذلك‭ ‬فرصة‭ ‬للتحريض‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬اكتشاف‭ ‬يومياتها،‭ ‬ووضعها‭ ‬عتبة‭ ‬وبوّابة‭ ‬لإيصال‭ ‬حكاياتى‭ ‬وأفكارى‭ ‬وتصوّراتى‭ ‬عن‭ ‬عالمينا‭ ‬المشتركين،‭ ‬وعن‭ ‬اختلاف‭ ‬الأمكنة‭ ‬والأزمنة‭ ‬والبشر‭ ‬بعد‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمن‭. ‬

‭ ‬لكن‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬معارضة‭ ‬أجاثا‭ ‬كريستى‭ ‬الإطار‭ ‬الحاكم‭ ‬للكتاب‭ ‬ككل‭ ‬والممتد‭ ‬لكل‭ ‬فصوله؟

لم‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أجعل‭ ‬الكتاب‭ ‬متمحوراً‭ ‬حول‭ ‬أجاثا‭ ‬كريستى،‭ ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬أتعامل‭ ‬مع‭ ‬استحضارها‭ ‬بحرص‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬إكثار‭ ‬أو‭ ‬مبالغة،‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أبقى‭ ‬مسافة‭ ‬معها،‭ ‬وأتوجّه‭ ‬له‭ ‬بالرسالة‭ ‬أو‭ ‬المناجاة‭ ‬حين‭ ‬اللزوم،‭ ‬وأمضى‭ ‬فى‭ ‬فصول‭ ‬أخرى‭ ‬بعيداً‭ ‬عنها‭ ‬إلى‭ ‬تفاصيل‭ ‬من‭ ‬حياتى‭ ‬وحكاياتى‭ ‬التى‭ ‬تظهر‭ ‬كيف‭ ‬عشت‭ ‬وأعيش‭ ‬أثناءها‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الظهور‭ ‬والاختفاء‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬التصدير‭ ‬أو‭ ‬الحجب،‭ ‬بل‭ ‬مضيت‭ ‬وراء‭ ‬الحاجة‭ ‬الفنية‭ ‬والبناء‭ ‬الهندسى‭ ‬الذى‭ ‬وجدته‭ ‬مناسباً‭ ‬لخدمة‭ ‬الكتاب،‭ ‬فاستدرجتها‭ ‬حين‭ ‬الحاجة‭ ‬وسرت‭ ‬بعيداً‭ ‬عنها‭ ‬حين‭ ‬كنت‭ ‬أحتاج‭ ‬للتركيز‭ ‬على‭ ‬تفاصيل‭ ‬وقصص‭ ‬أخرى‭ ‬تكمل‭ ‬رسم‭ ‬المشاهد‭ ‬الحياتية‭ ‬والعوالم‭ ‬التى‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬إيصالها‭. ‬

‭ ‬بالمناسبة،‭ ‬أحببت‭ ‬تعاملك‭ ‬الساخر‭ ‬مع‭ ‬تنميطات‭ ‬كريستى‭ ‬حول‭ ‬الأكراد‭ ‬والعرب،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬الأمثل‭ ‬لتفكيك‭ ‬الصور‭ ‬النمطية‭ ‬وإظهار‭ ‬ما‭ ‬تتسم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬سخف‭ ‬وتبسيط‭ ‬مخل،‭ ‬لكن‭ ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرى‭ ‬أنك‭ ‬لم‭ ‬ترفض‭ ‬الأمر‭ ‬كليًا،‭ ‬وإنما‭ ‬نقلته‭ ‬من‭ ‬خانة‭ ‬التعميم‭ ‬إلى‭ ‬التخصيص‭. ‬حين‭ ‬رفضت‭ ‬رأيها‭ ‬بخصوص‭ ‬سهولة‭ ‬القتل‭ ‬عند‭ ‬الكردى‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭  ‬ثم‭ ‬يفاجأ‭ ‬القارئ‭ ‬بعدها‭ ‬مباشرةً‭ ‬بأنك‭ ‬تبوح‭ ‬له‭ ‬باللحظة‭ ‬التى‭ ‬كدت‭ ‬تتحول‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬قاتل؛‭ ‬ذهنيًا‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بتفكيرك‭ ‬للحظة‭ ‬فى‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬الشبيح‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يعكر‭ ‬عليك‭ ‬صفو‭ ‬حياتك‭. ‬هل‭ ‬يمكننا‭ ‬قول‭ ‬إن‭ ‬حتى‭ ‬تعميمات‭ ‬أجاثا‭ ‬كريستى‭ ‬كانت‭ ‬مرآة‭ ‬عكست‭ ‬لك‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬الجوانب‭ ‬المعتمة‭ ‬فى‭ ‬ذاتك؟

أحياناً‭ ‬السخرية‭ ‬خير‭ ‬وسيلة‭ ‬لنسف‭ ‬أفكار‭ ‬مغلوطة‭ ‬وأحكام‭ ‬مسبقة‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬المنطق،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬بمنطق‭ ‬وموضوعية‭ ‬مفيداً‭ ‬لأنّها‭ ‬ضدّ‭ ‬العقل‭ ‬والمنطق،‭ ‬لذلك‭ ‬فتجريدها‭ ‬من‭ ‬جدّيتها‭ ‬يكون‭ ‬عبر‭ ‬إسباغ‭ ‬السخرية‭ ‬عليها،‭ ‬ووضعها‭ ‬فى‭ ‬إطار‭ ‬الهزء‭ ‬والتنكيت‭. ‬

وفى‭ ‬فصل‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬القاتل‭ ‬أنا؟‭!‬‮»‬‭ ‬توجّهت‭ ‬بالمعارضة‭ ‬والمواجهة‭ ‬لأجاثا،‭ ‬وكتبت‭ ‬لها‭ ‬أذكر‭ ‬أنّك‭ ‬بينما‭ ‬كنت‭ ‬تحكين‭ ‬بعض‭ ‬حكايات‭ ‬العمّال‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يعملون‭ ‬مع‭ ‬زوجك،‭ ‬أشرت‭ ‬إلى‭ ‬خروج‭ ‬امرأة‭ ‬كرديّة‭ ‬من‭ ‬كوخها‭ ‬الطينىّ‭ ‬معنّفة‭ ‬زوجها‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬إفلاته‭ ‬حماراً‭ ‬من‭ ‬رسنه‭. ‬وتصفين‭ ‬كيف‭ ‬تنهّد‭ ‬الكرديّ‭ ‬بحزن‭. ‬وتتساءلين‭: ‬‮«‬من‭ ‬يودّ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬زوجاً‭ ‬كرديّاً؟‮»‬‭. ‬وأردفت‭ ‬بالقول‭: ‬‮«‬هنالك‭ ‬مقولة‭ ‬شائعة‭ ‬مفادها‭ ‬إنّ‭ ‬العربىّ،‭ ‬إن‭ ‬سلبك‭ ‬فى‭ ‬الصحراء،‭ ‬يكتفى‭ ‬بضربك‭ ‬ويدعك‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬أمّا‭ ‬الكرديّ‭ ‬فيسلبك‭ ‬ثمّ‭ ‬يقتلك‭ ‬لمجرّد‭ ‬المتعة‮»‬‭. ‬

ووجدت‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬الضروريّ‭ ‬التوقّف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحكم‭ ‬البائس‭ ‬الذى‭ ‬يجرّم‭ ‬شعباً‭ ‬برمّته‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬اتّهام‭ ‬عنصرىّ،‭ ‬وتساءلت‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬استقت‭ ‬هذا‭ ‬التخمين‭ ‬بأنّ‭ ‬الكرديّ‭ ‬قد‭ ‬يقتل‭ ‬لمجرّد‭ ‬المتعة،‭ ‬لأنّ‭ ‬هذا‭ ‬تعميم‭ ‬للتجريم‭ ‬والتأثيم،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أنّه‭ ‬لا‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬منطق‭ ‬كاتبة‭ ‬روايات‭ ‬الجريمة،‭ ‬وواقع‭ ‬أنّ‭ ‬الإجرام‭ ‬لا‭ ‬يرتبط‭ ‬بعرق‭ ‬أو‭ ‬هويّة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬إنسانيّة‭ ‬موجودة‭ ‬فى‭ ‬كلّ‭ ‬الأزمنة‭ ‬والأمكنة،‭ ‬ولدى‭ ‬كلّ‭ ‬الشعوب‭ ‬والأعراق‭ ‬بهذه‭ ‬النسبة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭. ‬

وهنا‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الفصل‭ ‬تحديداً‭ ‬أثرت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬والأسئلة‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬القتل‭ ‬وماهيته،‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتحوّل‭ ‬الإنسان‭ ‬البسيط‭ ‬العاديّ‭ ‬الذى‭ ‬يبدو‭ ‬طبيعيّاً‭ ‬لمَن‭ ‬حوله‭ ‬إلى‭ ‬قاتل؟‭ ‬وهل‭ ‬يتمّ‭ ‬صنع‭ ‬القتلة‭ ‬أم‭ ‬أنّهم‭ ‬متفشّون‭ ‬حولنا‭ ‬ويربضون‭ ‬بين‭ ‬ظهرانينا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعلم‭ ‬بهم؟‭ ‬ألا‭ ‬يحمل‭ ‬كلّ‭ ‬إنسان‭ ‬ندّاً‭ ‬قاتلاً‭ ‬فى‭ ‬داخله،‭ ‬قد‭ ‬يرتكب‭ ‬جريمة‭ ‬قتل‭ ‬لو‭ ‬وضع‭ ‬فى‭ ‬ظروف‭ ‬معيّنة،‭ ‬أو‭ ‬دفع‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬بطريقة‭ ‬ما؟‭ ‬

لا‭ ‬أعتقد‭ ‬أنّ‭ ‬تعميماتها‭ ‬كشفت‭ ‬خبايا‭ ‬نفسى،‭ ‬بل‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أحيل‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬مختلف،‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬إنسان‭ ‬مرشّح‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬قاتلاً‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يدرى‭ ‬ومن‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يخطّط،‭ ‬وأنّ‭ ‬الحياة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬قاسية‭ ‬لدرجة‭ ‬تجرّدك‭ ‬من‭ ‬إنسانيتك‭ ‬وتدفعك‭ ‬للانسلاخ‭ ‬عن‭ ‬ذاتك‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬وتجريمهم‭ ‬على‭ ‬الظنّ‭ ‬أو‭ ‬حصرهم‭ ‬فى‭ ‬زاوية‭ ‬القتل‭ ‬لمجرّد‭ ‬تكرار‭ ‬مقولة‭ ‬تبعث‭ ‬على‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬قوم‭ ‬بأكملهم‭ ‬وتشويه‭ ‬صورتهم‭ ‬بطريقة‭ ‬منفّرة‭. ‬

لكلّ‭ ‬إنسان‭ ‬جوانب‭ ‬معتمة‭ ‬فى‭ ‬داخله،‭ ‬أحياناً‭ ‬كثيرة‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬عنها،‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬اكتشفها،‭ ‬وهى‭ ‬تبقى‭ ‬قارّة‭ ‬فى‭ ‬أقصى‭ ‬الأعماق،‭ ‬ولكنّها‭ ‬قد‭ ‬تتفجّر‭ ‬فى‭ ‬مواقف‭ ‬بعينها،‭ ‬وقد‭ ‬تودى‭ ‬بصاحبها‭ ‬أيضاً،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬غضب‭ ‬كلّفت‭ ‬أناساً‭ ‬كانوا‭ ‬يبدون‭ ‬لغيرهم‭ ‬أمثلة‭ ‬فى‭ ‬التعقّل‭ ‬حيواتهم،‭ ‬وقضت‭ ‬عليهم،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬جنونية‭ ‬تسبّبت‭ ‬بإراقة‭ ‬دماء‭ ‬أو‭ ‬تضييع‭ ‬أموال‭ ‬وثروات‭..! ‬

الإنسان‭ ‬مزيج‭ ‬معقّد‭ ‬جدّاً‭ ‬من‭ ‬النقائض‭ ‬والأفكار‭ ‬والأحلام‭ ‬والكوابيس،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تفكيك‭ ‬هذا‭ ‬التعقيد‭ ‬ببساطة،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬نزع‭ ‬الدوافع‭ ‬أو‭ ‬فصلها‭ ‬عن‭ ‬بعضها،‭ ‬لأنّ‭ ‬تلاقى‭ ‬بعض‭ ‬النقائض‭ ‬قد‭ ‬ينزع‭ ‬مسمار‭ ‬الأمان‭ ‬النفسيّ‭ ‬عن‭ ‬بعضنا‭ ‬بشكل‭ ‬عشوائى‭ ‬وخطير‭. ‬

‭ ‬لاحظت‭ ‬حرصك‭ ‬على‭ ‬التمسك‭ ‬بنبرة‭ ‬تأملية‭ ‬متفلسفة‭ ‬فى‭ ‬النظر‭ ‬لتجربتك‭ ‬مع‭ ‬اللجوء،‭ ‬وقد‭ ‬ساعد‭ ‬هذا‭ ‬فى‭ ‬الخروج‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬الخاص‭ ‬للعام،‭ ‬لكن‭ ‬شعورى‭ ‬الشخصى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الخيار‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬الأجزاء‭ ‬بمثابة‭ ‬ميكانيزم‭ ‬دفاع‭ ‬للحد‭ ‬من‭ ‬الانسياق‭ ‬فى‭ ‬البوح‭. ‬هل‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬عليك‭ ‬مشاركة‭ ‬الآخرين‭ ‬هذه‭ ‬الخبرة‭ ‬الذاتية‭ ‬بلا‭ ‬تحفظات؟‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك،‭ ‬لماذا‭ ‬اخترت‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬تحديدًا؟‭ ‬ألم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الأسهل‭ ‬عليك‭ ‬تسجيل‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬روائيًا؟

ليس‭ ‬من‭ ‬السهولة‭ ‬أن‭ ‬يواجه‭ ‬المرء‭ ‬مخاوفه،‭ ‬وأن‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬هواجسه‭ ‬وأحاسيسه‭ ‬وما‭ ‬يعترك‭ ‬فى‭ ‬وجدانه‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬وتناقضات‭ ‬بصدق‭ ‬وصراحة،‭ ‬ولاسيّما‭ ‬أنّه‭ ‬يشرع‭ ‬أبواب‭ ‬حياته‭ ‬أمام‭ ‬الآخرين،‭ ‬ليكون‭ ‬موضوع‭ ‬بحث‭ ‬ودراسة‭ ‬وتأويل،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬بمكان‭ ‬إخراج‭ ‬التجربة‭ ‬الإنسانية‭ ‬من‭ ‬سياقها‭ ‬الذاتىّ‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬مفتوح،‭ ‬ومشاركة‭ ‬الآخرين‭ ‬بها،‭ ‬لأنّها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تساهم،‭ ‬ولو‭ ‬بجزء‭ ‬ضئيل،‭ ‬فى‭ ‬لفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬القضايا‭ ‬التى‭ ‬يتناولها،‭ ‬ويريد‭ ‬تسليط‭ ‬الأضواء‭ ‬عليها‭. ‬وهنا‭ ‬لا‭ ‬يمكننى‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬الكتابة‭ ‬بلا‭ ‬تحفّظات‭ ‬كانت‭ ‬غايتى،‭ ‬إنّما‭ ‬كنت‭ ‬منشغلاً‭ ‬بالتعبير‭ ‬عما‭ ‬أشعر‭ ‬به‭ ‬بصدق،‭ ‬وإشراك‭ ‬القرّاء‭ ‬ما‭ ‬عشته‭ ‬ومررت‭ ‬به‭ ‬وشهدت‭ ‬عليه،‭ ‬وكنت‭ ‬أسعى‭ ‬لأن‭ ‬أكون‭ ‬حرّاً‭ ‬مسئولاً‭ ‬فى‭ ‬كتابتى‭.‬

لم‭ ‬أنطلق‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬فضائحى،‭ ‬أو‭ ‬رغبة‭ ‬بالتعرية،‭ ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬مواجهة‭ ‬تحدّيات‭ ‬عديدة،‭ ‬منها‭ ‬مشقّة‭ ‬مواجهة‭ ‬الذات‭ ‬واسترجاع‭ ‬لحظات‭ ‬أو‭ ‬مواقف‭ ‬مريرة‭ ‬سابقة‭ ‬وإعادة‭ ‬عيشها‭ ‬عبر‭ ‬الكتابة،‭ ‬وربّما‭ ‬حمل‭ ‬ذلك‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬القسوة‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬بإرجاعها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬حاصرها‭ ‬أو‭ ‬أحرجها‭ ‬فى‭ ‬أوقات‭ ‬سابقة،‭ ‬والوقوف‭ ‬على‭ ‬تفاصيلها‭ ‬الدقيقة،‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬الإحساس‭ ‬بها‭ ‬قاهراً‭ ‬وقاسياً،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬وضعها‭ ‬فى‭ ‬إطار‭ ‬للتجربة‭ ‬الكتابية‭ ‬استلذاذاً‭ ‬بالألم‭ ‬أو‭ ‬الأسى،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬محاولة‭ ‬للتغلّب‭ ‬عليها،‭ ‬ووضعها‭ ‬فى‭ ‬سياقها‭ ‬والحدّ‭ ‬من‭ ‬تفاقمها‭ ‬وتراكمها‭ ‬فى‭ ‬النفس‭ ‬وتحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬كوابيس‭ ‬ملازمة‭ ‬لي‭. ‬

خبرة‭ ‬الكاتب‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تظلّ‭ ‬حكراً‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬ملزم‭ ‬بحكم‭ ‬الدور‭ ‬الذى‭ ‬اختاره‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬خبرته‭ ‬إلى‭ ‬قرّائه،‭ ‬ويبرز‭ ‬أن‭ ‬تجربته‭ ‬الإنسانية‭ ‬تتقاطع‭ ‬مع‭ ‬تجارب‭ ‬الكثيرين،‭ ‬وأنّ‭ ‬المصائر‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬البشر،‭ ‬ولا‭ ‬حرج‭ ‬فى‭ ‬تقديم‭ ‬حكاياتنا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬ترقيع‭ ‬أو‭ ‬تعتيم‭ ‬أو‭ ‬تعمية‭. ‬

اخترت‭ ‬كتابة‭ ‬السيرة‭ ‬لأنّها‭ ‬مباشرة،‭ ‬واضحة،‭ ‬لا‭ ‬تلجأ‭ ‬إلى‭ ‬أية‭ ‬تورية‭ ‬أو‭ ‬مواربة،‭ ‬وأردتها‭ ‬أن‭ ‬تنقل‭ ‬بعض‭ ‬الحكايات‭ ‬والمحطّات‭ ‬من‭ ‬رحلتى‭ ‬الحياتية‭ ‬إلى‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تحميلها‭ ‬لأيّة‭ ‬شخصية‭ ‬روائية‭. ‬الكتابة‭ ‬السيرية‭ ‬كاشفة،‭ ‬وحميمة‭ ‬ودافئة،‭ ‬وجدتها‭ ‬تعبّر‭ ‬عنّى‭ ‬وتوصلنى‭ ‬إلى‭ ‬القرّاء‭ ‬بشكل‭ ‬أسرع،‭ ‬وتقرّبنى‭ ‬منهم‭ ‬بشكل‭ ‬أكبر،‭ ‬أكون‭ ‬متقاطعاً‭ ‬معهم،‭ ‬وكأنّى‭ ‬أستعير‭ ‬لسانهم‭ ‬وأنا‭ ‬أحكى‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬معاناتى،‭ ‬ومن‭ ‬أفكارى،‭ ‬وأحلامى،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬الإنسانية‭ ‬المشتركة‭. ‬

فى‭ ‬الحقيقة‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الأسهل‭ ‬تدوين‭ ‬التجربة‭ ‬روائياً،‭ ‬لكنّنى‭ ‬لم‭ ‬أخض‭ ‬الطريق‭ ‬السهل،‭ ‬ولم‭ ‬أرد‭ ‬لتجربتى‭ ‬أن‭ ‬تتخفّى‭ ‬خلف‭ ‬أقنعة‭ ‬الرواية‭ ‬والشخصيات‭ ‬الروائية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬أجزاء‭ ‬وتفاصيل‭ ‬منها‭ ‬تتسرّب‭ ‬إلى‭ ‬رواياتى،‭ ‬بصيغة‭ ‬أو‭ ‬أخرى،‭ ‬ككلّ‭ ‬الروائيين‭ ‬الذين‭ ‬تتوزّع‭ ‬بعض‭ ‬التفاصيل‭ ‬من‭ ‬حياتهم‭ ‬أو‭ ‬بعض‭ ‬حكاياتهم‭ ‬وأفكارهم‭ ‬فى‭ ‬رواياتهم،‭ ‬وعلى‭ ‬شخصياتهم،‭ ‬تكون‭ ‬خميرة‭ ‬حياتية‭ ‬وروائية‭ ‬لهم‭. ‬اخترت‭ ‬خوض‭ ‬مغامرة‭ ‬المكاشفة،‭ ‬وكنت‭ ‬أعى‭ ‬خطورة‭ ‬المسألة،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أننى‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬كتبت‭ ‬عدة‭ ‬روايات‭ ‬وبعض‭ ‬الدراسات‭ ‬والكتب‭ ‬النقدية،‭ ‬وكنت‭ ‬أدرك‭ ‬خطورة‭ ‬التأويل‭ ‬والتحليل،‭ ‬لكنّ‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يشكّل‭ ‬عائقاً‭ ‬أمام‭ ‬رغبتى‭ ‬بنقل‭ ‬تجربتى‭ ‬فى‭ ‬الغربة‭ ‬واللجوء‭ ‬للآخرين‭. ‬ولا‭ ‬أزعم‭ ‬أنّ‭ ‬الأمر‭ ‬كان‭ ‬سهلاً‭ ‬أو‭ ‬بسيطاً،‭ ‬لأنّنى‭ ‬كنت‭ ‬أدرك‭ ‬مشقّة‭ ‬التعبير‭ ‬المباشر‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬التمرير‭ ‬بفلترة‭ ‬روائية،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬تحوير‭ ‬أدبيّ،‭ ‬بحيث‭ ‬تضع‭ ‬بيد‭ ‬الآخرين‭ ‬مفاتيح‭ ‬شخصيتك‭ ‬ونفسيتك‭. ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬أيّ‭ ‬اعتراف‭ ‬من‭ ‬تردّد‭ ‬أو‭ ‬تحفّظ،‭ ‬لكن‭ ‬كان‭ ‬السؤال‭ ‬كيف‭ ‬أوظّف‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عراقيل‭ ‬فى‭ ‬درب‭ ‬الكتابة‭ ‬السيرية‭ ‬كروافع‭ ‬لها،‭ ‬عبر‭ ‬الصدق‭ ‬والصراحة‭.. ‬ويبقى‭ ‬الحكم‭ ‬للقرّاء‭ ‬فى‭ ‬التقييم‭. ‬

‭ ‬تكتب‭ ‬بضمير‭ ‬المخاطب‭ ‬عن‭ ‬اللحظات‭ ‬المحرجة‭ ‬فى‭ ‬تجربة‭ ‬اللجوء‭ ‬ألهذا‭ ‬علاقة‭ ‬أيضًا‭ ‬بصعوبة‭ ‬الكتابة‭ ‬الذاتية‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬التجربة؟

الأنا‭ ‬هنا‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬إطارها‭ ‬الضيّق‭ ‬والمحدود،‭ ‬تتقمّص‭ ‬الآخر‭ ‬فى‭ ‬مختلف‭ ‬أطوارها‭ ‬وتحاكيه‭ ‬فى‭ ‬مساراتها،‭ ‬الأنا‭ ‬تصبح‭ ‬عتبة‭ ‬للتماهى‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬تخبره‭ ‬أنّه‭ ‬ليس‭ ‬بمنجى‭ ‬عن‭ ‬خوض‭ ‬تجربة‭ ‬مماثلة،‭ ‬وأنّه‭ ‬ليس‭ ‬محصّناً‭ ‬ضدّ‭ ‬أيّة‭ ‬تجربة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مذلّة‭ ‬أو‭ ‬صادمة‭ ‬أو‭ ‬قاهرة،‭ ‬وأنّ‭ ‬الأنا‭ ‬هى‭ ‬أنوات‭ ‬متعدّدة‭ ‬فى‭ ‬الواقع،‭ ‬لأنّ‭ ‬ما‭ ‬مررتُ‭ ‬به‭ ‬مرّ‭ ‬به‭ ‬كثيرون‭ ‬غيرى،‭ ‬لم‭ ‬تتح‭ ‬لهم‭ ‬الفرصة‭ ‬للتعبير‭ ‬عنها،‭ ‬فكان‭ ‬الشعور‭ ‬بأنّ‭ ‬استدراج‭ ‬الضمير‭ ‬المخاطب‭ ‬إشراك‭ ‬للقارئ‭ ‬فى‭ ‬التجربة،‭ ‬أو‭ ‬إحالتها‭ ‬إليه،‭ ‬وكذلك‭ ‬كما‭ ‬تفضّلتِ،‭ ‬ربّما‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التخفّف‭ ‬غير‭ ‬المباشر‭ ‬من‭ ‬القهر‭ ‬الذاتىّ‭ ‬الذى‭ ‬تستعيده‭ ‬ذكريات‭ ‬التجربة‭ ‬بقسوتها‭ ‬وعذاباتها‭. ‬

الحرج‭ ‬يلازم‭ ‬اللاجئين‭ ‬فى‭ ‬حلّهم‭ ‬وترحالهم،‭ ‬يشعر‭ ‬كثيرون‭ ‬منهم‭ ‬فى‭ ‬أنفسهم‭ ‬بأنّهم‭ ‬ملطخون‭ ‬بلطخة‭ ‬تسم‭ ‬كيانهم‭ ‬وتصم‭ ‬أرواحهم،‭ ‬يعيشون‭ ‬غريبين‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم،‭ ‬محاولين‭ ‬تلبّس‭ ‬شخصية‭ ‬أخرى،‭ ‬أو‭ ‬ارتداء‭ ‬أقنعة‭ ‬كثيرة‭ ‬فى‭ ‬الخارج،‭ ‬ثمّ‭ ‬إلقاءها‭ ‬حين‭ ‬يكونون‭ ‬وحدهم،‭ ‬ما‭ ‬يبقى‭ ‬حواجز‭ ‬كثيرة‭ ‬متشاهقة‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬واقعهم‭ ‬الجديد،‭ ‬وملجئهم‭ ‬الذى‭ ‬يفترض‭ ‬أنّه‭ ‬ملاذهم‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬والرعب‭ ‬والقهر‭ ‬والسجن،‭ ‬هنا‭ ‬تتحوّل‭ ‬المفاهيم‭ ‬وترتدى‭ ‬الكوابيس‭ ‬حللاً‭ ‬أخرى‭ ‬غريبة‭ ‬وجديدة‭ ‬كذلك‭. ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬كانت‭ ‬الكتابة‭ ‬عبر‭ ‬تحميل‭ ‬الآخر‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬الحكاية‭ ‬إشعاراً‭ ‬بوحدة‭ ‬الحال،‭ ‬وتأكيداً‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬واحد‭ ‬منّا‭ ‬يتجرّع‭ ‬نصيبه‭ ‬من‭ ‬الأسى‭ ‬والوحشة‭ ‬والنفى‭ ‬على‭ ‬طريقته،‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يكتوى‭ ‬بنيران‭ ‬الغربة‭ ‬واللجوء،‭ ‬وإن‭ ‬قيّض‭ ‬لى‭ ‬أن‭ ‬أعبّر،‭ ‬أو‭ ‬أمتلك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬البوح‭ ‬والاعتراف،‭ ‬فلا‭ ‬يعنى‭ ‬أنّ‭ ‬الأنا‭ ‬انفصلت‭ ‬عن‭ ‬الآخر،‭ ‬بل‭ ‬هى‭ ‬جزء‭ ‬منه،‭ ‬ومتّحدة‭ ‬معه‭ ‬فى‭ ‬الهمّ‭ ‬والمصير‭. ‬

‭ ‬فى‭ ‬كتابها‭ ‬‮«‬بعد‭ ‬جنازة‮»‬‭ ‬عن‭ ‬وجيه‭ ‬غالى‭ ‬كتبت‭ ‬ديانا‭ ‬أتهيل،‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬المعاناة‭ ‬فى‭ ‬المنفى،‭ ‬أن‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ممتنًا‭ ‬على‭ ‬الدوام‭. ‬وفى‭ ‬كتابك‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬توقع‭ ‬الآخرين‭ ‬منك‭ ‬فى‭ ‬بلد‭ ‬اللجوء‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬سعيدًا‭ ‬بالضرورة‭ ‬لانتقالك‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬يعتبرونه‭ ‬جحيمًا‭ ‬إلى‭ ‬الجنة‭. ‬هل‭ ‬مصير‭ ‬اللاجئ‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬محاصرًا‭ ‬بسوء‭ ‬الفهم‭ ‬وبتوقعات‭ ‬الآخرين‭ ‬منه‭ ‬وصورهم‭ ‬النمطية‭ ‬عنه؟‭ ‬وكيف‭ ‬يمكنه‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الدائرة‭ ‬العبثية؟

اللاجئ‭ ‬بالفعل‭ ‬محاصر‭ ‬بسوء‭ ‬الفهم،‭ ‬أو‭ ‬إساءة‭ ‬الفهم،‭ ‬فى‭ ‬الواقع‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان،‭ ‬ويكون‭ ‬مطالباً‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬بتأكيد‭ ‬استحقاقه‭ ‬بالتواجد‭ ‬فى‭ ‬ملجئه،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يبلور‭ ‬أية‭ ‬صيغة‭ ‬طبيعية‭ ‬للتعايش‭ ‬المفترض،‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬غيتوهات‭ ‬غير‭ ‬معلنة‭ ‬للاجئين‭ ‬ضمن‭ ‬المدن،‭ ‬تكون‭ ‬مرتعاً‭ ‬للفقر‭ ‬وما‭ ‬يخلّفه‭ ‬من‭ ‬مشاكل‭ ‬اجتماعية،‭ ‬أى‭ ‬يكون‭ ‬عليه‭ ‬دفع‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الضريبة‭ ‬المعنوية‭ ‬بحيث‭ ‬يمثّل‭ ‬السعادة،‭ ‬أو‭ ‬يبقى‭ ‬فى‭ ‬زاوية‭ ‬الامتنان‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يواصل‭ ‬عيشه‭ ‬من‭ ‬دونها‭. ‬

هناك‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬البلد‭ ‬ممّن‭ ‬يحمّلون‭ ‬اللاجئين‭ ‬أعباء‭ ‬المشقّات‭ ‬التى‭ ‬يتعرّضون‭ ‬لها‭ ‬فى‭ ‬حياتهم،‭ ‬يجدونهم‭ ‬مزاحمين‭ ‬لهم‭ ‬على‭ ‬فرص‭ ‬العمل،‭ ‬وفرص‭ ‬التطوير،‭ ‬ويكون‭ ‬حصره‭ ‬وتقييده‭ ‬فى‭ ‬خانتَىْ‭ ‬الشكّ‭ ‬ووجوب‭ ‬الامتنان،‭ ‬وافتراض‭ ‬السعادة‭ ‬باعتباره‭ ‬ناجياً‭ ‬من‭ ‬جحيم‭ ‬الحرب،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬مآسى‭ ‬بلاده‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تزايله‭. ‬

يحرّر‭ ‬اللجوء‭ ‬اللاجئ،‭ ‬نسبياً،‭ ‬من‭ ‬مخاوف‭ ‬معينة‭ ‬تلازمه‭ ‬فى‭ ‬بلده،‭ ‬وبخاصة‭ ‬فى‭ ‬أجواء‭ ‬الحرب‭ ‬حيث‭ ‬الموت‭ ‬المجانى‭ ‬معمّم‭ ‬بطريقة‭ ‬عشوائية،‭ ‬لكنّه‭ ‬يضعه‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬مخاوف‭ ‬جديدة‭ ‬بحكم‭ ‬الواقع،‭ ‬فيقع‭ ‬تحت‭ ‬أسرها،‭ ‬وكأنّه‭ ‬يغدو‭ ‬رهين‭ ‬المخاوف‭ ‬مجتمعة،‭ ‬يعيش‭ ‬حرّيته‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬يتح‭ ‬له‭ ‬عيشها‭ ‬والتمتّع‭ ‬بها‭ ‬فى‭ ‬بلده،‭ ‬وهنا‭ ‬يكون‭ ‬فعل‭ ‬تحرّر،‭ ‬كما‭ ‬يقع‭ ‬فريسة‭ ‬هواجس‭ ‬ووساوس‭ ‬جديدة،‭ ‬وهنا‭ ‬يكون‭ ‬بؤرة‭ ‬تشتّت‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتخطر‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬فى‭ ‬أوقات‭ ‬سابقة‭. ‬

كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للاجئ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬التوقعات‭ ‬التى‭ ‬يفترض‭ ‬أنّه‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يقيّد‭ ‬بها،‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬استلاب‭ ‬الكينونة‭ ‬معادلاً‭ ‬للجدارة‭ ‬بالعيش‭ ‬فى‭ ‬المجتمع‭ ‬الجديد،‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬الواقع‭ ‬منسلخ‭ ‬عن‭ ‬عالمه‭ ‬وملقى‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬جديد‭ ‬مختلف،‭ ‬ويطالب‭ ‬بالتعامل‭ ‬وفق‭ ‬منظومته‭ ‬القيمية،‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬الاندماج‭ ‬المزعوم‭ ‬سوى‭ ‬حيلة‭ ‬غير‭ ‬مجدية‭ ‬واقعياً،‭ ‬والأمثلة‭ ‬كثيرة‭. ‬

الصور‭ ‬النمطية‭ ‬والأحكام‭ ‬المسبقة‭ ‬تكون‭ ‬مقاتل‭ ‬للعقل‭ ‬والفكر‭ ‬والمنطق،‭ ‬تسجن‭ ‬الآخرين‭ ‬فى‭ ‬قفص‭ ‬الاتّهام،‭ ‬ولا‭ ‬تفكّ‭ ‬قيود‭ ‬التأثيم‭ ‬عنهم‭ ‬بسهولة،‭ ‬ولعلّ‭ ‬الأخطر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الاستحسان‭ ‬فرديّاً‭ ‬والعقاب‭ ‬غير‭ ‬المعلن‭ ‬جماعياً‭. ‬مثلاً‭ ‬حين‭ ‬يحقّق‭ ‬أحد‭ ‬اللاجئين‭ ‬إنجازاً‭ ‬علمياً‭ ‬أو‭ ‬أدبياً‭ ‬أو‭ ‬حياتياً‭ ‬ما،‭ ‬يعزى‭ ‬السبب‭ ‬إلى‭ ‬الترقية‭ ‬والتأهيل‭ ‬اللذين‭ ‬حصل‭ ‬عليهما‭ ‬فى‭ ‬ملجئه،‭ ‬يكون‭ ‬تنسيب‭ ‬الفضل‭ ‬بطريقة‭ ‬ما‭ ‬للنظام‭ ‬الجديد‭ ‬الذى‭ ‬أخرجه‭ ‬من‭ ‬القاع‭ ‬ومنحه‭ ‬الفرص‭ ‬لتأكيد‭ ‬ذاته‭ ‬والتفوّق‭ ‬فى‭ ‬ميدانه،‭ ‬أما‭ ‬حين‭ ‬يجرم‭ ‬أحدهم‭ ‬فإنّه‭ ‬يستجرّ‭ ‬الغضب‭ ‬على‭ ‬الشريحة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التى‭ ‬ينتمى‭ ‬إليها،‭ ‬وعلى‭ ‬الخلفية‭ ‬التى‭ ‬ينحدر‭ ‬منها‭ ‬بصيغة‭ ‬من‭ ‬الصيغ‭. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أبداً‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬العبث‭ ‬والضياع‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬تبديد‭ ‬الأوهام‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مختلف‭ ‬الأطراف،‭ ‬وتفهّم‭ ‬الأسباب‭ ‬والوقائع‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬أيّ‭ ‬تقديس‭ ‬أو‭ ‬تدنيس‭. ‬وهذا‭ ‬بدوره‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬مؤسساتى‭ ‬متكامل،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يستغرق‭ ‬وقتاً‭ ‬ليس‭ ‬بالقصير‭. ‬التعرّف‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬والعلم‭ ‬به،‭ ‬من‭ ‬ممهّدات‭ ‬كسر‭ ‬العزلة‭ ‬وإذابة‭ ‬الجليد‭ ‬بين‭ ‬القواقع‭ ‬البشرية‭ ‬التى‭ ‬تتشكّل‭ ‬فى‭ ‬الملاجئ‭ ‬والمهاجر،‭ ‬بحيث‭ ‬يسعى‭ ‬كثيرون‭ ‬لعيش‭ ‬ماضيهم‭ ‬فى‭ ‬حاضرهم‭ ‬ومستقبلهم‭ ‬وحياة‭ ‬أبنائهم‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يتكيّفون‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬فيزداد‭ ‬اغترابهم‭ ‬عن‭ ‬محيطهم،‭ ‬فيتوارثون‭ ‬الغربة‭ ‬ومزاج‭ ‬المنفيين‭ ‬واللاجئين‭ ‬عن‭ ‬ذويهم‭ ‬بجانب‭ ‬ما‭. ‬

‭ ‬ألا‭ ‬يتناقض‭ ‬هذا‭ ‬مع‭ ‬إشارتك‭ ‬إلى‭ ‬اللجوء‭ ‬كفعل‭ ‬تحرير،‭ ‬حيث‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬اللجوء‭ ‬حررك‭ ‬من‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأوهام‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تستوطن‭ ‬خيالك‭ ‬وتفكيرك؟‭ ‬أفهم‭ ‬تمامًا‭ ‬ما‭ ‬تعنيه،‭ ‬لكن‭ ‬ألّا‭ ‬يشكِّل‭ ‬تصنيف‭ ‬اللاجئ‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬التكبيل‭ ‬بالمثل؟

اللجوء‭ ‬ليس‭ ‬تعريفاً‭ ‬مقيّداً‭ ‬ومحصوراً‭ ‬بمفهوم‭ ‬وحيد،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬منفتح‭ ‬على‭ ‬تأويلات‭ ‬فكرية‭ ‬وحياتية‭ ‬وواقعية‭ ‬كثيرة،‭ ‬فتراه‭ ‬فعل‭ ‬تحرّر‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬المواقف،‭ ‬كما‭ ‬تراه‭ ‬عتبة‭ ‬للتكبيل‭ ‬بأطر‭ ‬محددة‭ ‬موضوعة‭ ‬ثابتة‭ ‬راسخة‭ ‬وكأنها‭ ‬قوانين‭ ‬طبيعية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تخطيها،‭ ‬مع‭ ‬أنّنى‭ ‬أؤمن‭ ‬أنّ‭ ‬الإنسان‭ ‬فى‭ ‬حياته‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬تجارب‭ ‬غريبة‭ ‬عجيبة،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ردود‭ ‬أفعاله‭ ‬واستجاباته‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتباينة،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬وضع‭ ‬فى‭ ‬الموقف‭ ‬نفسه،‭ ‬أو‭ ‬تعرّض‭ ‬للموقف‭ ‬نفسه‭ ‬عدّة‭ ‬مرّات،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للقياس،‭ ‬ومفتوحة‭ ‬دوماً‭ ‬على‭ ‬المستجدّات‭ ‬التى‭ ‬تروم‭ ‬فهم‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬المعقّدة‭ ‬التى‭ ‬تبقى‭ ‬قارّة‭ ‬مجهولة‭ ‬تفاجئنا‭ ‬بالاكتشافات‭ ‬كلّ‭ ‬مرّة‭. ‬

الحياة‭ ‬تفاجئنا‭ ‬كلّ‭ ‬مرّة‭ ‬بمستجدات‭ ‬عن‭ ‬أنفسنا‭ ‬وفى‭ ‬داخلنا‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬لنعرف‭ ‬عنها‭ ‬شيئاً،‭ ‬والإنسان‭ ‬كائن‭ ‬ملغز‭ ‬يضجّ‭ ‬بالغرائب‭.‬

على‭ ‬الصعيد‭ ‬الشخصى‭ ‬تحرّرت‭ ‬من‭ ‬أية‭ ‬عقد‭ ‬دونية‭ ‬أو‭ ‬تفوّق،‭ ‬أحاول‭ ‬العيش‭ ‬فى‭ ‬المجتمع‭ ‬الجديد‭ ‬بأريحية،‭ ‬أنتحى‭ ‬لنفسى‭ ‬زاويتى‭ ‬الحياتية،‭ ‬أحترم‭ ‬خصوصيات‭ ‬الآخرين‭ ‬ولا‭ ‬أبادر‭ ‬بإطلاق‭ ‬الأحكام‭ ‬عليهم،‭ ‬ولا‭ ‬أسعى‭ ‬لتغييرهم،‭ ‬أتقبّلهم‭ ‬كما‭ ‬هم،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬أية‭ ‬وصاية‭ ‬أو‭ ‬بطريركية،‭ ‬ومادام‭ ‬أنّ‭ ‬المرء‭ ‬ملزما‭ ‬بدائرته‭ ‬وتفاصيله‭ ‬وعالمه‭ ‬فإنّه‭ ‬يحدّ‭ ‬من‭ ‬الاحتكاكات‭ ‬غير‭ ‬المرغوبة،‭ ‬والتى‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬عليه‭ ‬بالسلب،‭ ‬أو‭ ‬تضعه‭ ‬فى‭ ‬خانة‭ ‬الاتهام‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬ولا‭ ‬يدرى‭. ‬

يبدو‭ ‬أن‭ ‬البشر‭ ‬يحتاجون‭ ‬للتصنيف‭ ‬فى‭ ‬واقعهم،‭ ‬كى‭ ‬يسهل‭ ‬عليهم‭ ‬التعاطى‭ ‬مع‭ ‬غيرهم،‭ ‬بحيث‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬سمات‭ ‬عامة‭ ‬للأصناف‭ ‬المحددة،‭ ‬وتكون‭ ‬هناك‭ ‬صور‭ ‬وشخصيات‭ ‬مفتاحية‭ ‬للتواصل‭ ‬معها،‭ ‬ما‭ ‬يسهل‭ ‬عزلها‭ ‬أو‭ ‬دمجها‭ ‬والتفاهم‭ ‬معها،‭ ‬وهذا‭ ‬قد‭ ‬يصحّ‭ ‬جزئياً،‭ ‬لأنّ‭ ‬كلّ‭ ‬بيئة‭ ‬تضفى‭ ‬على‭ ‬أبنائها‭ ‬سمات‭ ‬بعينها،‭ ‬مع‭ ‬اختلافات‭ ‬وفروقات‭ ‬فردية،‭ ‬لكن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬سمات‭ ‬غالبة،‭ ‬أو‭ ‬سلّم‭ ‬قيم‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬توسيع‭ ‬الرقعة‭ ‬المشتركة‭ ‬وتعزيز‭ ‬التواصل‭ ‬والتفاهم‭. ‬التصنيف‭ ‬نفسه‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬بعض‭ ‬التفاصيل‭ ‬الإيجابية‭ ‬أحياناً،‭ ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يشتمل‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحكام‭ ‬المكبّلة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬كذلك‭ ‬تغيير‭ ‬آليات‭ ‬التفكير‭ ‬والتصنيف‭ ‬ببساطة،‭ ‬يبدو‭ ‬أنّ‭ ‬الزمن‭ ‬بتراكماته‭ ‬يشكّل‭ ‬مفتاحاً‭ ‬للتغيير‭ ‬المأمول‭. ‬

‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬تجربة‭ ‬اللجوء‭ ‬كفعل‭ ‬تحرير‭ ‬وثورة‭ ‬تنطبق‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬النساء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الظاهرة‭ ‬التى‭ ‬أشرت‭ ‬إليها‭ ‬فى‭ ‬كتابك‭ ‬والمتمثلة‭ ‬فى‭ ‬نيل‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬لحقوقهن‭ ‬بانتقالهن‭ ‬إلى‭ ‬دول‭ ‬غربية؟

نساء‭ ‬كثيرات‭ ‬عشن‭ ‬فى‭ ‬ظلّ‭ ‬ظروف‭ ‬عصيبة‭ ‬وقاسية‭ ‬جدّاً،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬القمع‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬السلطة،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬قمع‭ ‬اجتماعيّ‭ ‬مضاف‭ ‬للنساء،‭ ‬حيث‭ ‬البيئة‭ ‬تلعب‭ ‬دوراً‭ ‬فى‭ ‬اضطهادهنّ‭ ‬بطريقة‭ ‬تبدو‭ ‬معها‭ ‬وكأنّها‭ ‬نمط‭ ‬طبيعىّ‭ ‬من‭ ‬أنماط‭ ‬الحياة‭ ‬فى‭ ‬بلداننا،‭ ‬وكان‭ ‬يطلب‭ ‬منهنّ‭ ‬التكيّف‭ ‬مع‭ ‬القمع‭ ‬والاضطهاد،‭ ‬والانصياع‭ ‬لما‭ ‬يمارس‭ ‬بحقّهنّ‭ ‬من‭ ‬تعسّف‭ ‬وغبن،‭ ‬وتقبّله‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬محاولات‭ ‬تمرّد‭ ‬أو‭ ‬ثورة‭ ‬أو‭ ‬مجابهة،‭ ‬وكان‭ ‬نصيب‭ ‬من‭ ‬يقرّرن‭ ‬التمرّد‭ ‬والثورة‭ ‬من‭ ‬القسوة‭ ‬بمكان‭ ‬أنّ‭ ‬يصبحن‭ ‬عبرة‭ ‬لأخريات‭ ‬كى‭ ‬لا‭ ‬يفكّرن‭ ‬بسلك‭ ‬أيّ‭ ‬سبيل‭ ‬لكسر‭ ‬هيمنة‭ ‬الفحول‭ ‬عليهنّ‭. ‬

كان‭ ‬هناك‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الزيجات‭ ‬التى‭ ‬تمّت‭ ‬بحكم‭ ‬الإكراه،‭ ‬أو‭ ‬بحكم‭ ‬الظروف‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬الحقّ‭ ‬فى‭ ‬اختيار‭ ‬شريك‭ ‬حياتهنّ،‭ ‬ولا‭ ‬بالاعتراض‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يتمّ‭ ‬اختياره‭ ‬لهنّ،‭ ‬ما‭ ‬زرع‭ ‬بذور‭ ‬التفتّت‭ ‬الأسرىّ‭ ‬والاجتماعىّ،‭ ‬حتّى‭ ‬قبل‭ ‬تشكّل‭ ‬الأسرة،‭ ‬وحين‭ ‬وصل‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬النساء‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا،‭ ‬حيث‭ ‬الاستقلالية‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬وحيث‭ ‬القوانين‭ ‬تحمى‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬العنف،‭ ‬وتوفّر‭ ‬لها‭ ‬الحماية‭ ‬والرعاية،‭ ‬تبدّلت‭ ‬الظروف،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬الحاجة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعية‭ ‬مفروضة‭ ‬عليها،‭ ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬ممّن‭ ‬كانوا‭ ‬أقوياء‭ ‬فى‭ ‬واقعهم‭ ‬السابق،‭ ‬بحكم‭ ‬طبيعة‭ ‬البلاد‭ ‬وثقافتها،‭ ‬حاولوا‭ ‬مواصلة‭ ‬أسلوب‭ ‬الهيمنة‭ ‬والتحكم‭ ‬القديم‭ ‬نفسه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدركوا‭ ‬أو‭ ‬يتفهّموا‭ ‬أنّ‭ ‬العالم‭ ‬تغيّر‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنسائهم‭ ‬ولهم،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬التعاطى‭ ‬بذاك‭ ‬الأسلوب‭ ‬مجدياً،‭ ‬بل‭ ‬إنّه‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬عامل‭ ‬تدمير‭ ‬إضافىّ‭ ‬للزواج‭. ‬

للأسف‭ ‬أنّه‭ ‬فى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬كان‭ ‬نيل‭ ‬المرأة‭ ‬لحقوقها‭ ‬المسلوبة‭ ‬ضرباً‭ ‬من‭ ‬تشتيت‭ ‬لمّ‭ ‬أسرهنّ،‭ ‬ويكون‭ ‬الضحية‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬الأطفال،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬يكون‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬جدوى‭ ‬تربية‭ ‬الأطفال‭ ‬فى‭ ‬بيئة‭ ‬لا‭ ‬تتوافر‭ ‬فيها‭ ‬شروط‭ ‬الحرية‭ ‬الشخصية‭ ‬والحقوق‭ ‬الإنسانية‭ ‬الأساسية،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬لصالحهم‭ ‬أم‭ ‬أنّه‭ ‬يشوّه‭ ‬دواخلهم‭ ‬بطريقة‭ ‬فجّة‭ ‬ويخرّب‭ ‬علاقتهم‭ ‬مع‭ ‬عالمهم‭ ‬ومحيطهم‭. ‬لكلّ‭ ‬فعل‭ ‬تمرّديّ‭ ‬أو‭ ‬ثوريّ‭ ‬ضريبته،‭ ‬وليس‭ ‬بمقدور‭ ‬الجميع‭ ‬التكفّل‭ ‬بدفع‭ ‬تلك‭ ‬الضريبة‭ ‬التى‭ ‬قد‭ ‬تكلفهم‭ ‬الكثير‭ ‬أحياناً‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬المعنوى‭ ‬قبل‭ ‬المادّىّ،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فرض‭ ‬خيارات‭ ‬بعينها‭ ‬على‭ ‬زى‭ ‬شخص،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬رجلاً‭ ‬أم‭ ‬امرأة،‭ ‬لذا‭ ‬يما‭ ‬يزال‭ ‬قسم‭ ‬من‭ ‬الزيجات‭ ‬التى‭ ‬بنيت‭ ‬على‭ ‬أخطاء‭ ‬متراكمة‭ ‬مستمرّة،‭ ‬ويتحمّل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬قسطاً‭ ‬من‭ ‬مشقّات‭ ‬الاستمرار‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حماية‭ ‬أسرهنّ‭ ‬وأطفالهنّ‭ ‬من‭ ‬التفتّت‭ ‬أو‭ ‬التشتّت،‭ ‬وهذا‭ ‬قرار‭ ‬خطير‭ ‬بدوره،‭ ‬لكن‭ ‬تعلّمنا‭ ‬التجارب‭ ‬احترام‭ ‬خيارات‭ ‬الآخرين‭ ‬وقراراتهم‭ ‬التى‭ ‬يجدونها‭ ‬أكثر‭ ‬ملاءمة‭ ‬لحياتهم‭. ‬

‭ ‬ما‭ ‬تقييمك‭ ‬لمشهد‭ ‬الأدب‭ ‬السورى‭ ‬حاليًا؟‭ ‬وأى‭ ‬تغييرات‭ ‬أحدثتها‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬الأخيرة‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرك؟‭ ‬هل‭ ‬بإمكاننا‭ ‬الآن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أدب‭ ‬منفى‭ ‬أو‭ ‬أدب‭ ‬شتات‭ ‬سورى‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬فى‭ ‬مرحلة‭ ‬البدايات؟

من‭ ‬الصعب‭ ‬على‭ ‬أىّ‭ ‬كاتب‭ ‬أو‭ ‬ناقد‭ ‬تقييم‭ ‬الأدب‭ ‬السوريّ‭ ‬فى‭ ‬العقد‭ ‬الأخير،‭ ‬بعد‭ ‬انطلاق‭ ‬اندلاع‭ ‬شرارة‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬فى‭ ‬سوريا،‭ ‬لأنّه‭ ‬من‭ ‬الشساعة‭ ‬بمكان‭ ‬يصعب‭ ‬معه‭ ‬الإلمام‭ ‬به،‭ ‬أو‭ ‬رصد‭ ‬مختلف‭ ‬النتاجات‭ ‬التى‭ ‬صدرت‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ – ‬المحنة،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬أنا‭ ‬موقن‭ ‬به،‭ ‬هو‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬تفجّراً‭ ‬فى‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبيّ‭ ‬السورىّ‭ ‬بمختلف‭ ‬أجناسه،‭ ‬وهذا‭ ‬الكمّ‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يخلّف‭ ‬نوعاً‭ ‬لافتاً‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يثرى‭ ‬المكتبة‭ ‬الأدبية‭ ‬العربية‭ ‬والعالمية‭. ‬

لم‭ ‬ينل‭ ‬الأدب‭ ‬السورى‭ ‬الحديث‭ ‬بعد‭ ‬حظّه‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬والدراسة‭ ‬والنقد‭ ‬والاحتفاء‭ ‬والتقدير،‭ ‬وكان‭ ‬الاحتفاء‭ ‬الصحافيّ‭ ‬فى‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬يغطّى‭ ‬بعض‭ ‬الفراغ،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يكفى‭ ‬لتمثيل‭ ‬المشهد‭ ‬الرحب‭ ‬بالإصدارات‭ ‬المميزة،‭ ‬ولا‭ ‬لتغطيتها‭ ‬بالمتابعة‭ ‬والمراجعة‭ ‬والتحليل‭. ‬

لا‭ ‬شكّ‭ ‬أنّ‭ ‬مَن‭ ‬غادر‭ ‬سوريا‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬يكتب‭ ‬بحرّية‭ ‬أكبر،‭ ‬وهذا‭ ‬مفهوم‭ ‬بحكم‭ ‬الواقع،‭ ‬ومعروف‭ ‬لمن‭ ‬عاش‭ ‬فى‭ ‬ظلال‭ ‬حكم‭ ‬استبداديّ،‭ ‬حيث‭ ‬يسود‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الترميز‭ ‬والتلغيز،‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬المساءلة‭ ‬والمعاقبة،‭ ‬حيث‭ ‬كلّ‭ ‬قول‭ ‬قابل‭ ‬للتأويل‭ ‬بشكل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يودى‭ ‬بقائله،‭ ‬ويكون‭ ‬الإبداع‭ ‬الجريء‭ ‬المواجه‭ ‬المعرّى‭ ‬الفضّاح‭ ‬مكبّلاً‭ ‬بالخوف‭ ‬الذى‭ ‬يشلّ‭ ‬الطاقات‭ ‬الإبداعية‭ ‬ويقصيها‭ ‬إلى‭ ‬ركن‭ ‬الانزواء‭ ‬لتبقى‭ ‬مسكونة‭ ‬بالترويع‭ ‬المناقض‭ ‬للتحليق‭ ‬الحرّ‭ ‬الذى‭ ‬يستوجبه‭ ‬الإبداع‭. ‬

أعتقد‭ ‬أنّه‭ ‬بعد‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬تراكم‭ ‬النتاجات‭ ‬الأدبية‭ ‬السورية‭ ‬فى‭ ‬الخارج،‭ ‬بات‭ ‬بإمكاننا‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أدب‭ ‬شتات‭ ‬سوريّ،‭ ‬أدب‭ ‬متحرّر‭ ‬من‭ ‬أغلال‭ ‬الرعب‭ ‬والخوف،‭ ‬لكنّه‭ ‬يستعيد‭ ‬مناخاتهما‭ ‬فى‭ ‬مختلف‭ ‬تفاصيله،‭ ‬ويحاول‭ ‬تفكيك‭ ‬المنظومة‭ ‬المتراكمة‭ ‬منذ‭ ‬عقود،‭ ‬والتى‭ ‬قادت‭ ‬البلاد‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬التفتّت‭ ‬والخراب‭ ‬الذى‭ ‬نشهده‭. ‬

المنفى‭ ‬متواصل‭ ‬يغيّر‭ ‬أرديته‭ ‬فقط،‭ ‬فحين‭ ‬كنّا‭ ‬فى‭ ‬الداخل‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬منفى‭ ‬قاسٍ‭ ‬يغلّف‭ ‬كياننا‭ ‬ويحاول‭ ‬تجريدنا‭ ‬من‭ ‬كينونتنا‭ ‬نفسها،‭ ‬عبر‭ ‬تغريبنا‭ ‬عن‭ ‬واقعنا،‭ ‬والآن‭ ‬وبينما‭ ‬نحن‭ ‬فى‭ ‬المنافى،‭ ‬نعاود‭ ‬استرجاع‭ ‬ذاك‭ ‬المنفى‭ ‬لنحيا‭ ‬منافينا‭ ‬المركّبة‭ ‬ونسعى‭ ‬لتفكيكها‭ ‬وفهم‭ ‬أنفسنا‭ ‬فى‭ ‬محطّاتها‭ ‬المختلفة‭ ‬بين‭ ‬الأمس‭ ‬واليوم‭. ‬

‭ ‬من‭ ‬أعذب‭ ‬أجزاء‭ ‬الكتاب‭ ‬بالنسبة‭ ‬لى‭ ‬ذلك‭ ‬الجزء‭ ‬الذى‭ ‬تتحدث‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬أسلافك؛‭ ‬الجد‭ ‬والجدة‭ ‬وعلاقة‭ ‬الحب‭ ‬العاصفة‭ ‬والمتمردة‭ ‬التى‭ ‬جمعتهما،‭ ‬وبالأساس‭ ‬كون‭ ‬الجد‭ ‬من‭ ‬النازحين،‭ ‬وكيف‭ ‬صمم‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬فى‭ ‬عامودا‭ ‬كى‭ ‬يظل‭ ‬يرى‭ ‬أضواء‭ ‬مدينته‭ ‬الأصلية‭ ‬وهو‭ ‬الذى‭ ‬عاش‭ ‬متوهمًا‭ ‬أن‭ ‬عودته‭ ‬إليها‭ ‬قريبة‭. ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬يعنيه‭ ‬هذا‭ ‬الشتات‭ ‬العائلى‭ ‬المتكرر‭ ‬من‭ ‬جيلٍ‭ ‬لآخر‭ ‬بالنسبة‭ ‬لك؟‭ ‬وإلى‭ ‬أى‭ ‬مدى‭ ‬يختلف‭ ‬لجوء‭ ‬السورى‭ ‬الكردى‭ ‬عن‭ ‬لجوء‭ ‬مواطنه‭ ‬السورى‭ ‬العربى؟

انتقل‭ ‬جدّى‭ ‬لأبى‭ ‬من‭ ‬قرى‭ ‬ماردين‭ ‬فى‭ ‬تركيا‭ ‬إلى‭ ‬بلدة‭ ‬عامودا‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تعتبر‭ ‬امتداداً‭ ‬لما‭ ‬نسمّيه‭ ‬بالكردية‭ ‬‮«‬برّية‭ ‬ماردين‮»‬،‭ ‬أى‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬يبتعد‭ ‬عن‭ ‬قريته‭ ‬سوى‭ ‬بضعة‭ ‬كيلومترات،‭ ‬وكانت‭ ‬الحدود‭ ‬حينها‭ ‬بصورتها‭ ‬الحالية‭ ‬المشدّدة‭ ‬بين‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬تركيا‭ ‬وسوريا‭ ‬أقلّ‭ ‬شراسة‭ ‬وإيذاء،‭ ‬وكان‭ ‬التنقّل‭ ‬بين‭ ‬الحدود‭ ‬ميسّراً‭ ‬وسهلاً‭ ‬لأبناء‭ ‬المنطقة‭ ‬ممّن‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬امتدادات‭ ‬عائلية‭ ‬فوق‭ ‬الخط‭ ‬وتحت‭ ‬الخط‭. ‬وهذا‭ ‬تعبير‭ ‬مترجم‭ ‬حرفياً‭ ‬عن‭ ‬الكردية‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬المناطق‭ ‬الكردية‭ ‬التى‭ ‬تكون‭ ‬شمال‭ ‬الخط‭ ‬الحدودى‭ ‬فى‭ ‬تركيا،‭ ‬وإلى‭ ‬المناطق‭ ‬الجنوبية‭ ‬التى‭ ‬توجد‭ ‬شمال‭ ‬سوريا،‭ ‬ويقصد‭ ‬بالخط‭ ‬الحدودى‭ ‬هنا‭ ‬خط‭ ‬حديد‭ ‬بغداد‭ – ‬برلين‭ ‬الذى‭ ‬أصبح‭ ‬حدّاً‭ ‬فاصلاً‭ ‬بين‭ ‬سوريا‭ ‬وتركيا‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭. ‬

وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬كان‭ ‬جدّى‭ ‬نازحاً‭ ‬من‭ ‬قريته‭ ‬لبلدة‭ ‬قريبة‭ ‬منه،‭ ‬فى‭ ‬المنطقة‭ ‬نفسها،‭ ‬وبين‭ ‬الشعب‭ ‬نفسه،‭ ‬لم‭ ‬يتكبّد‭ ‬مشقّة‭ ‬الترحال‭ ‬والانخراط‭ ‬فى‭ ‬بيئة‭ ‬جديدة‭ ‬وتعلّم‭ ‬لغة‭ ‬أو‭ ‬ثقافة‭ ‬جديدة،‭ ‬وظلّ‭ ‬مسكوناً‭ ‬بحلم‭ ‬العودة‭ ‬لقريته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يصفّى‭ ‬حساباته‭ ‬هناك،‭ ‬ويمهّد‭ ‬لعودته‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أيّة‭ ‬عداوات‭ ‬أو‭ ‬مواجهات‭ ‬مع‭ ‬السلطة‭ ‬أو‭ ‬مع‭ ‬خصوم‭ ‬من‭ ‬بنى‭ ‬جلدته‭. ‬

أمّا‭ ‬اللجوء‭ ‬بمعناه‭ ‬الحديث‭ ‬فقد‭ ‬بدأ‭ ‬بين‭ ‬الأكراد‭ ‬قبل‭ ‬العرب‭ ‬فى‭ ‬سوريا،‭ ‬حيث‭ ‬لجأ‭ ‬عشرات‭ ‬الألوف‭ ‬من‭ ‬الأكراد‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬فى‭ ‬الثمانينيات‭ ‬والتسعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وظلّت‭ ‬الأعداد‭ ‬تتزايد‭ ‬سنة‭ ‬بعد‭ ‬سنة،‭ ‬لأنّ‭ ‬الظروف‭ ‬كانت‭ ‬تزداد‭ ‬قسوة‭ ‬وفظاعة‭ ‬على‭ ‬الأكراد‭ ‬السوريين‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬النظام‭ ‬وأجهزته‭ ‬الأمنية‭ ‬القمعية‭. ‬فى‭ ‬حين‭ ‬أنّ‭ ‬لجوء‭ ‬العرب‭ ‬السوريين‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬المكونات‭ ‬السورية‭ ‬بدأ‭ ‬بعد‭ ‬سنة‭ ‬‮٢٠١١‬وأصبح‭ ‬قضية‭ ‬عالمية‭ ‬متعدّدة‭ ‬الأبعاد‭. ‬

فى‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن‭ ‬يتساوى‭ ‬اللاجئون‭ ‬جميعاً‭ ‬فى‭ ‬الاغتراب‭ ‬وقسوة‭ ‬المنافى،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬لاجئ‭ ‬مفضّل‭ ‬على‭ ‬آخر،‭ ‬لأنّ‭ ‬لكلّ‭ ‬منهم‭ ‬نصيبه‭ ‬من‭ ‬الخذلان‭ ‬والأسى‭ ‬والقهر،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬مفاضلة‭ ‬بين‭ ‬الضحايا،‭ ‬لأنّ‭ ‬الهمّ‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يسمح‭ ‬بترف‭ ‬المفاضلة‭ ‬أو‭ ‬التفضيل‭. ‬الكلّ‭ ‬نال‭ ‬قسطه‭ ‬القاهر‭ ‬من‭ ‬النزوح‭ ‬واللجوء،‭ ‬ولا‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬كردىّ‭ ‬أو‭ ‬عربىّ‭ ‬أو‭ ‬أىّ‭ ‬سورىّ‭ ‬آخر‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭. ‬

*المصري اليوم