سوسن جميل حسن، روائية وكاتبة سورية
أوراق 19-20
الملف
عندما باشرت بقراءة الدعوة للمساهمة في هذا الملفّ، هزّتني كلمة “خارطة”، بالرغم من أنها تعني الخارطة الثقافية والإبداعية ضمن “الجغرافية السوريّة”، لكنها استدعت واقعنا المرير بسواده وكل ما يحمل من خسران، إلى وعيي، وأدخلتني في حالة ارتياب موجع، ارتياب الذاكرة وهي تلملم صورا حارة نابضة، مزقتها الحرب، وما زالت تئنّ في خاطري، وخاطر الكثير من السوريين، يعذّبني العجز عن جمعها في “خارطة” لسورية التي كانت.
الرقّة “مدينة في شمال سوريا، عاصمة محافظة الرقة، تقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات، على بعد حوالي 160 كم شرق مدينة حلب”، ما أقصر هذا التعريف، الرقّة أكبر من ذلك بكثير، هذا ما عشته وعرفته ولمسته لمس القلب واليد يوم جئتها من مدينتي اللاذقية، رفقة الروائية الجميلة ماري رشو، صحبة الروائي والناقد نبيل سليمان، الذي أقلّنا بسيّارته، وهو من المؤسّسين الفاعلين لمهرجان العجيلي، كان هذا في نهاية العام 2010، وفي الثلث الأخير من كانون الأول، يوم نادانا مهرجان العجيلي السادس للرواية العربية، فاجتمعنا هناك، هذا الهناك الذي صار نائيا، مثلما لو أنّه كان حلما، فرّ من أعيننا عند أول رصاصة في صدر أحلام أبناء شعبنا عندما قالوا: لا..
هذه الـ “لا”، كانت سؤال المهرجان حينها، فاختراق المحظور في الأدب هو “لا” ممتدّة تهزّ عرش الطغيان بكلّ أشكاله، حالة من الرفض، رفض خنق الحرية، فكيف يكون إبداع بدون حريّة؟
إلى الرقّة إذن، بكل بهاء الأزمنة الغابرة، والزمن الحاضر، حينها، حيث يضجّ في صدري اسم أديبها الإنسان “عبد السلام العجيلي”، ويومض خطُّه في بالي على المكاتيب التي كان يرسلها إلى والدي الشاعر “جميل حسن”، عن طريق عنواني في مديرية الصحّة في اللاذقية، فأبتسم بحبّ لهذا الخط الذي نتشارك به، نحن الأطباء، كبصمة طريفة من بصمات المهنة.
إلى الرقّة إذن، التي قال فيها الراحل “أديبنا الإنسان” في كلمته التي أرسلها إلى المهرجان في دورته الأولى، قبل وفاته بفترة قصيرة: “جميل أن أكون مثالاً للإنجاز والمنجز الفكري والأدبي بين أهلي، وأن يتنادى المحبون من كل حدب وصوب وكأنني بالرقة تزحف إلى كل مدينة جاؤوا منها، وكأنني بنفسي أركب سيارتي وأزور مدائنكم التي أحبها كما أحبكم”. وبالفعل تنادى فيها المحبّون من كل حدب وصوب، هناك عرفت أحمد المديني، حبيب السالمي، هالة بدر، مي خالد، سيّد محمود، عمّار أحمد، علي بدر، وغيرهم كثيرون من مبدعي العربيّة، من سورية وخارجها، لا يتسع المجال لذكرهم جميعا، وتعرّفت إلى الجميلة الأديبة والأكاديمية شهلا العجيلي، ابنة الرقّة وعمّها الأديب الكبير، وكان حضور للأدباء الإيرانيين.
ماذا لو اقتصرت الشراكة والتفاعل على المنتج الثقافي فقط؟ أيّ حياة كانت ستحياها الشعوب، بعيدا عن السياسة وما تستخدم من أدوات وأساليب، ليس العسكرية فقط، بل استباحة المجال الحيوي، الثقافي والروحي، للمجتمعات؟
كان عنوان المؤتمر، في المحظورات الروائية، يتمحور حول أربع قضايا، ناقشها المدعوون من الأدباء من عديد الدول العربية وبعض الضيوف من دول أخرى، هذه القضايا أو المحاور تناولت المحظور اللغويّ، المحظورات الثابتة، والمتغيّرة، في الكتابة الروائيّة العربيّة، التقنيّات الروائيّة في مقاربة المحظورات، وأخيرا اختراق المحظورات وسياقات النزوع إلى العالميّة. عناوين أثارت فضولي المعرفي وأنا الوافدة حديثا إلى ميدان الكتابة الإبداعية، لم يكن قد صدر لي حينها غير روايتين، فقدّمت شهادتي الروائية عن تجربتي في هاتين الروايتين، استهلّيتُ الحديث فيها بمعنى أن يصمت الإنسان عنوة، وأن يكون خنق السؤال هو أوّل قيمة تربوية تغرز في عقول الأطفال، إلى أن يبدأ الإنسان بإدراك ذاته ويبدأ بالرفض، وكان أوّل محظور اخترقته حينها: السؤال.
لفتني وانا أمشي في شوارع المدينة، ومتابعة أنشطة سكانها وحركة الناس في أسواقها أنها تتميز بمناخ اجتماعي هادئ ومسالم، فكنت أرى النساء بلباس مدني سافرات الرأس، بجانب أولئك اللواتي يلبسن اللباس التقليدي أو المحافظ، وأدهشني في الوقت نفسه، ذاك الاحتفاء البهيج بضيوف المهرجان، من قبل المجتمع الأهلي، لم يكن الأمر يقتصر على مهرجان العجيلي فقط، بالرغم من مكانته الخاصة في نفوس أهل الرقّة، وكونه أيقونة يفخرون بها، بل احتفاؤهم بضيوف المهرجانات الأخرى أيضا، وما أكثرها، هذا ما لمسته أيضا في مهرجان الشعر من قبل، في العام نفسه، عندما رافقت أختي المغنيّة والموسيقيّة “بادية” المدعوّة إليه للمشاركة في حفل موسيقي، في المرتين كان التنظيم رائعا، وكانت مبادرات الأهالي طاغية، في دعم الأنشطة من جهة، وفي الاحتفاء بالضيوف بكرم يغمرهم، ما زالت في بالي تلك الدعوة الكريمة لنا في بيت أحد إخوة الشاعر الراحل، ابن الرقة إبراهيم جرادي، حيث المناسف العامرة، إلى جانب الأطباق الأخرى من عدة مطابخ سورية، كرم نبيل ونبيه.
ماجد رشيد العويّد، واستقباله لنا في بيته بفرح كان يشعّ من عينيه وقلبه، حمّود الموسى دائم الحركة والابتسام والتأهيل، وغيرهم كثيرون، بتنا نبحث عنهم في الفضاء الأزرق، مثلما يبحثون عنّا، بعد أن بدّدتنا الحرب في بقاع الأرض.
النزهات والسهرات على ضفاف الفرات، كانت ملامح الشحّ بدأت تظهر عليه، بعد أن أقامت تركيا عديد السدود تعترض مشواره إلى سورية ومن بعدها العراق، زيارة قلعة جعبر وسدّ الطبقة، الذي تحوّل اسمها إلى الثورة، كفعل استباحي مارسته سلطة البعث على المجال العام، فبدّلت الأسماء لتنحرف بداية التاريخ بالتدريج ويصبح البعث والعسكر هما أوّله، وهما حجر الأساس في بناء سورية.
تؤلمني هذه الذكريات، في حمأة الراهن الحارق، فالرقّة صارت بعيدة، نأت مثلما تنأى الكثير من المناطق، فتبدو الخارطة السورية مثل قطع البازل العتيقة، الرقة بغناها الطبيعي والاقتصادي والإثني، تنهار باكرا، مثلما لو كان مصيرها مرسوما ومحتوما، في أقل من أربع سنوات، تناوبت أربع سلطات السيطرة سياسياً وعسكرياً عليها، من سيطرة النظام إلى الجيش الحر وسطوة الفصائل الإسلامية الباكر عليه، إلى تنظيم الدولة، وبدأت عملية إقصاء وجه الثورة المدني، لتُعلن الرقة عاصمةً للدولة الإسلامية بدلا من أهليّتها لتكون عاصمة للثقافة السورية والعربية، فيختفي الأب باولو دالوليو، يختفي عبد الله خليل، فراس حاج صالح، الطبيب إسماعيل الحامض، وكل من ينتمي إلى الوجه المدني للثورة، واستباحوا الحياة كلّها، وأكثر ما استباحوا المعالم الحضارية والثقافية للمدينة، باكرا اعتدوا على مرسم الفنان والأديب أيمن ناصر وحطموا أعماله الفنية كلها، وتمترس مقاتلوها الوافدون من كل بقاع الأرض في أرجائها، يرهبون الناس ويحاصرون حياتهم للخضوع إلى شريعتهم، ثم يبدأ التحالف الدولي عملياته في محاربة التنظيم، داعما قوات سورية الديموقراطية “قسد”، التي صارت الرقة تحت سيطرتها، وصارت، تحت القصف من الجو، مدينة مدمّرة، مهجورة، يئنّ تاريخها من هول ما يحدث، ويهجرها غالبية نخبها بين نزوح داخلي ولجوء.
الرقّة التي كانت تذبح بصمت، تعيش اليوم أزمة هويّة، شأنها شأن العديد من المناطق السورية، بل شأن سورية ممزقة الأوصال كلّها، وكأن صوت المتنبي ما زال يتردّد في أرجائها: ولكنّ الفتى العربي فيها، غريب الوجه واليد واللسان.