عبير حسن علَّام، شاعرة لبنانية
أوراق 19- 20
الملف
لطالما احتضنتْ سوريا المهرجانات والفعاليَّات الثقافية، وكانت البحر الذي تصبُّ فيه جميعُ روافد الفكر والأدب والثقافة من البلدان كافَّةً لِتُعيدَ توزيع ثمارها على العالم أجمع.
وقد كان لِمحافظة الرقَّة نصيبٌ لا يُستهانُ به من العمل الفكريﱢ والنشاط الثقافيﱢ المُواكِب له. المفارقة الجميلة والممتعة هنا في كَونِ الرقَّة محافَظةً يغلبُ عليها الطابع الريفيُّ ولم تغزُها نهضة المدن، لكنَّها مع ذلك أسهمت إسهامًا بعيدًا وموغِلًا في المشهد الثقافيﱢ السوريﱢ.
هو ذا العرسَ الأدبيَّ والثقافيَّ الذي كان يُعقَدُ سنويًّا تحت عنوان “مهرجان العُجَيلي للرواية”. ذلك العرس الذي كان لي شرف المشاركة في نسخته الرابعة (2-5/12/2008) التي ما زالت ذكرياتها نسائمَ تهلُّ على روحي بين الفينة والأخرى وتوقظ شوقًا لا يخبو إلى سوريا، لكنَّني أداريه عمدًا خلف الضلوع كي لا يضوع مع كلﱢ نبضٍ ويُهيّج أحزاني والألم.
نعم، الألم. الألم لِما آلت إليه سوريا وما آلت إليه محافظة الرقَّة الرائعة بِفُراتها العظيم ونسائمه العليلة، بِناسها الطيّبين المضيافين، بأدبائها ومُفكّريها ومُثقَّفيها (الروائية والناقدة “شهلا العُجَيلي” على سبيل المثال لا الحصر)، بطبيبها الأديب الفذﱢ “عبد السلام العُجَيلي” (رحِمَه الله) الذي قصدتُ بيته ولا تزال إلى اليوم أحجار ذلك الحيﱢ تروي لقلبي أجمل القصص كي يستكين. حتى الفندق الذي نزلنا فيه لم يكن بتلك الصورة النمطية التي نعرفها عن الفنادق؛ أنتَ تشعر أنك نازلٌ بين أهلك. بل إنَّ تفاصيل الحياة اليومية البسيطة تتهادى هناك بإيقاعٍ متميّز؛ ففي مطعم ذلك الفندق الواقع في الطبقة الأخيرة منه -تلك المُطلَّة على الأرض الخصبة الساحرة- لِوجبة الإفطار نكهةٌ خاصَّةٌ وجَوٌّ لا يُنسى. لِذا ما زالت صُوَر وجبة الإفطار الأخير هناك مع صوت فيروز وسحر المكان لا تفارق ذاكرتي.
وكان لي كذلك مع مركز المحافظة في الرقَّة محطَّاتٌ وذكرياتٌ عصيَّةٌ على النسيان: الاحتفاليات والمعارض والنشاطات التي تتتابع بلا توقُّفٍ؛ كمعرض الرسم الذي زرناه على هامش المهرجان وغيره الكثير… كلُّ ذلك في غضون ثلاثة أيَّام. وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ على الروح السورية المُثابرة التي لا تني تبذل قصارى جهدها في تكريم الفكر والأدب والفنﱢ والاهتمام بها وترسيخ تقليد الاحتفاء بها في سلوك أجيال الغد. هنالك كان لي شرف التعرُّف إلى أسماء كبيرة في عالم الأدب من نُقَّاد وأدباء وأساتذة جامعيين قدِموا من بلدانٍ عربية وأجنبية، ولا زالت تربطني بهم أواصر صداقةٍ متينة حتى اليوم. لكنَّ ما لفتني على نحوٍ خاصﱟ كان ظاهرةً غير متوقَّعة (على الأقلﱢ بالنسبة لي في سنّي الفتيﱢ آنذاك وحداثة عهدي بالمؤتمرات)، تلك الظاهرة تتمثَّل في أنَّ مهرجان العُجيلي لم يكن مقصد المعنيين بالشأن الأدبيﱢ أو الثقافيﱢ أو الفنّيﱢ وحدهم.. لقد أبهرَني أهلُ الرقَّة بأنَّهم –على اختلاف أطيافهم ومستويات ثقافتهم وتعليمهم- يشاركون جميعا في ذلك العرس! لقد اجتمعوا بنا وتعرَّفوا إلينا واستضافونا في بيوتهم حول ولائم باذخة تعكس كرم أخلاقهم وطيب معشرهم حتى يحزَّ في نفسك أنَّك تغادرهم وتغادر الرقَّة الأصيلة. غادرتُها ذلك اليوم بغصَّةٍ عميقةٍ وحرقةٍ لن أنساها. إلَّا أنَّ الغصَّة اليوم أكبر بما لا يُقاس، والحرائق بداخلي لا تطفئها مياه الكَون ما لم تعُد سوريا إلى سابق مجدِها وما لم تعُد الرقَّة تُصدﱢر إلى العالم فكرًا وفنًّا وثقافةً، رسالةَ رُقيﱟ وحضارة. يحزُّ في نفسي ويكسر قلبي ألمٌ رهيبٌ منشأه أنَّني لم أقصد الرقَّة بعد ذلك ولم أتعلَّل بمياه فراتها، وأنَّها باتت معقلًا للحركات التكفيرية ثمَّ لقوَّاتٍ عسكرية أجنبية. ليست هذه الرقَّة كما تعلمون وأعلم. ولن تكون كذلك. وبي يقينٌ لا يتزعزع بأنَّها لا بُدَّ ستكسر القيد وتسترجع مجدها وتشرق شمساً من جديد.