محمد العزو، ماجستير في الآثار وتاريخ الفنون الجميلة من تشيكوسلوفاكيا، كاتب وباحث في الآثار، وله كتاب بعنوان: “حضارة الفرات الأوسط والبليخ 2009”.
أوراق 19-20
الملف
المبحث الأول:
الرقتان بعيون شعراء العصرين “الأموي” و“العباسي“
الرقتان “البيضاء” و”الرافقة” العظيمتان تغنى بهما شعراء العصرين “الأموي” والعباسي، على طول امتداد عمرها المجيد المديد، منذ تشييد “الرقة البيضاء” في العصور السابقة على الإسلام، ومنذ أن شيد الخليفة “المنصور” رفيقة “الرقة البيضاء” أو “الرافقة” الإسلامية، حيث حفظت لنا الحوليات الأدبية أجمل الأبيات الشعرية الجميلة، والمعبرة لشعراء العصرين الأموي والعباسي، الذين قالوا بها أجمل الكلمات وأروعها، وأعذب المفردات وأصدق المعاني. الرقة تفاحة حمراء قالها شاعرها وابنها البار “ربيعة الرقي” في قصيدة يمزج فيها بين الوصف والغزل في ألفاظ رشيقة وجميلة يَصف فيها رياض “الرقة” وبساتينها الغناء:
وتفاحة غضة/ عقيقة الجوهر
تندت بماء الربيع/ في روضها الأخضر
فجاءت كمثل العروس/ في لاذها الأحمر
وعطاءات الله من الثمار خير وبركة، كذلك هي الرقة الحوراء تفاحة يانعة حمراء اخضلت بماء الربيع تشتهيها الانفس على مدى الأيام والسنين، ولما بنى الخليفة “المنصور” مدينة “الرافقة” بالقرب من “الرقة البيضاء”، وما لبثت هاتان المدينتان “الرقة البيضاء والرافقة”، أن اتصل بناؤهما، فأطلق عليهما معا اسم “الرقتين” قال البحتري:
لذكرى زمان بان منا بنظرة/ وعيش مضى بالرقتين رقيق
ومع مرور الزمن خربت “الرقة البيضاء”، وأخذت مدينة “الرافقة” إسمها ودورها، وصار يطلق عليها إسم “الرقة”، ولما بنى الخليفة “هشام” مدينة “واسط الرقة” على الضفة اليمنى “للفرات”، وحفر فيها قناتي “الهني والمري” ذكرهما الشاعر “جرير” في مدحه “لهشام” فقال:
أوتيت من حدب الفرات جواريا/ منها الهني، وسائح في قرقري
“الهني والمري” بقيا حتى العصر العباسي، وقد ذكرهما “الصنوبري”، فقال:
بين الهني إلى المري/ إلى بساتين النقار
فالدير ذي التل المكلل/ بالشقائق والبهار
الدير هو “دير زكى” ذي التل ويقصد به تل البيعة.
كون هذه الأماكن كلها متقاربة ومتصلة بجميع الرقات: الرقة البيضاء، والرقة السوداء، والرافقة، ورقة واسط. وقد ذكر الشعراء بعض الأماكن والمراكز المتصلة بالرقة، التي صار يطلق عليها إسم الرقة، مثل دير زكى وهو أحد أديار السريان الذي كان ملاصقا لتل البيعة من الجهة الشرقية، وقد مر ذكره عند الشاعر الصنوبري، كما ذكره الشاعر الأموي عبيد الله بن قيس الرقيات، الذي كان ينزل الرقة في بعض أيامه، فيقول:
أقفرت الرقتان فالقلس/ فهو كأن لم يكن به أنس
فالدير أقوى إلى البليخ كما/ أقوت محاريب أمة درسوا
وكان الخليفة “هارون الرشيد” قد نزل هذا الدير واستطابه وبر أهله، وقال فيه شعرا كقوله:
سلاما على النازح المغترب/ تحية صب به مكتئب
غزال مراتعه بالبليخ/ إلى دير زكى، فجسر الخشب
ولأبي بكر الصنوبري مجموعة من الأبيات الشعرية ومقطوعات في دير زكى، أوحت بها الطبيعة الجميلة المحيطة بهذا الدير، وبساتينه ونهيراته وأدب أهله فيقول:
اراق سجاله بالرقتين/ جنوبي صخوب الجانبين
كأنّ عناق نهري دير زكى/ إذا اعتنقا، عناق متيمين
أيا منتزهي في دير زكى/ ألم تك نزهتي بك نزهتين
أما الصالحية وهي حي من أحياء الرقة الجميلة تقع بجانب دير زكى من جهة الشرق، اختطها عبد الملك بن صالح الهاشمي من بني العباس، وكانت ذات بساتين وقصور جميلة، وقد ذكرها الشاعر منصور النمري في قوله:
قصور الصالحية كالعذارى/ لِبسنَ حليهن ليوم عرس
تقنعها الرياض بكل نور/ وتضحكها مطالع كل شمس
والبطياس والعوالي، وهما من أحياء الرقة واقعان بالقرب من دير زكى والصالحية شرقا لتجاورهما، وكانتا من الأحياء الجميلة وكلاهما من المنتزهات الريانة، وقد أغرت الشعراء وطلاب المتعة واللهو للتنعم بظلالها الوارفة ومياهها العذبة، فقال فيهما الصنوبري:
إني طربت إلى زيتون بطياس/ فالصالحية ذات الورد والآس
من ينس عهدهما يوما فلست له/ وإن تطاولت الأيام بالناسي
يا موطنا كان من خير المواطن لي/ لما خلوت به ما بين جلاسي
أما البليخ ميناء حواضر التاريخ، وعوسج الماضي والحاضر، فقد تغنى به الشعراء وبما حوله من بساتين وحدائق غناء، وببساتين الزيتون، ومن هؤلاء الشعراء نذكر ابن أحمر الباهلي، والأخطل، وابن صفار، وأبي نواس، والبحتري، وابن الرقيات، ومسلم ابن الوليد، وأشجع السلمي. قالوا في البليخ شعراً جميلا تنبئ عما خلفه البليخ، بما حوله من أثر جميل في نفوس الزوار والمرتادين، ومن أجمل ما قيل في البليخ قول أبي نواس الذي عاش حول البليخ، ثم غادره وأهله إلى العراق مكرهين يقول:
على شط البليخ وساكنيه/ سلام متيم لقي الجماما
اما مسلم ابن الوليد فيقول:
ألم تر أني بأرض الشام/ أطعت الهوى وشربت العُفارا
لقد كدت من حب خمر البليخ/ أن أجعل الشام أهلا ودارا
وكان لقناة النيل حظ وافر في شعر محبي الرقة الحوراء، هذه القناة من أنهار الرقة، التي حفرها حمورابي في الالف الثاني ق.م من غرب الرقة، ثم جددها هارون الرشيد، وكان هذا النهر يروي مدينة الرقة أثناء ابتعاد الفرات جنوبا، ويروي المزارع شرق المدينة. قال فيه أبي بكر الصنوبري:
وقت ذاك البليخ يد الليالي/ وذاك النيل من متجاورين
ومن قرى الرقة القريبة التي تغنى بها الشعراء، وخلدوها بقصائدهم نذكر منها: دامان التي اشتهرت بتفاحها الاحمر، وكذلك موضع المديبر، وتل زاذان، ومرج الضيازين، والمازمان، والرابية، والرصافة، والمصلى، وغيرهما من المواضع الرقية، ومما ذكره الشاعر الصنوبري، وغيره من الشعراء. إذ يقول الصنوبري:
يضاحكها الفرات بكل فن/ فتضحك عن نضار ولجين
كأن الأرض من حمر وصفر/ عروس تُجتلى في حُلتين
هذا وقد سكن الرقة مجموعة من الشعراء، الذين قالوا بها اشعاراً جميلة، منهم الشاعر الملقب بأبي هِفان المهزمي، الراوية والعالم بفنون الشعر والأدب، ذكر الرقة البيضاء في قوله بمدح ابي العباس أحمد بن ثوابة الكاتب من كبار الولاة في العصر العباسي، فقال:
نفسي فداء أبي العباس من رجل/ لم ينسني قط في نأي
يقري، وبالرقة البيضاء منزله/ من بالعراقين من عجم ومن عرب
في القرن الرابع الهجري ظلت الرقة في أبهى حلتها، إذ بقيت محافظة على مكانتها كمدينة، ذات موروث كبير ومعمورة بخيراتها وأمجادها، مزهوة بأبنائها الكرام، الذين هم ينابيع الندى، هذا الإطراء الجميل بالرقة والرقيين، جاء على لسان الشاعر أبي فراس الحمداني بقوله:
المجد بالرقة مجموع/ والفضل مرئي ومسموع
إن بها كل عميم الندى/ يداه للجود ينابيع
وكل مبذول القِرى، بيته/ على عُلا العلياء مرفوع
وأثناء ثورة النزاريين على سيف الدولة وملاحقته لهم، حيث تابع مسيرته حتى نزل الرقة يريد الإيقاع ببني نمير وعفوه عنهم فيما بعد، حيث مدحه المتنبي بقوله:
ومال بها على “أرك“ و“عرض“/ وأهل الرقتين لها مزار
وأجفل بالفرات بنو نمير/ وزأرهم الذي زأروا خُوار
ومن الشعراء الذين ذكروا الرقة في شعرهم الشاعر عبيد الله بن قيس الرقيات القرشي، وكان من المناصرين للزبيريين، وقبل بلوغه سن الثلاثين ارتحل إلى الرقة، وهو في الرقة سمع بمقتل مجموعة من أهله في معركة الحرة، فرثاهم في قصيدة، ونقم على بني أمية. وبعد موت يزيد تحولت أرض الجزيرة إلى ميادين حروب بين قيس وتغلب، وبعد مقتل مصعب بن الزبير وزوال دولة الزبيريين، ناشد بن قيس الرقيات العفو من بني أمية، واستشفع إلى عبد الملك بعبد الله بن جعفر بن أبي طالب بعد ذلك مدح بن أبي طالب بقصيدة وهو في الرقة يقول فيها:
ذكرتك إذا فاض الفرات بأرضنا/ وجاش بأعلى الرقتين بحارها
وفي قصيدة مدح أخرى بها عبد العزيز بن مروان قال:
أهلا وسهلا بمن أتاك من الرقة/ يسري إليك في سخيه
ونرى شاعرنا يشير إلى ما أحدثته الفواجع والمواجع والحروب في الجزيرة الفراتية بقوله:
اقفرت الرقتان فالقلسُ/ فهو كأنه لم يكن فيه أنس
فالدير أقوى إلى البليخ كما/ اقوت محاريب أمة درسوا
وهذا الشاعر الكبير أبي تمام الطائي في القرن الثالث الهجري، كان يتردد على الرقة من الموصل يمدح أجوادها فيقول في إحدى مدائحه:
بالشام أهلي، وبغداد الهوى، وأنا/ بالرقتين، وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت/ حتى تشافه بي أقصى خرسان
والشاعر البحتري وهو في الرقة مدح بني ناجية، وهم قوم من أجواد العرب، ووصفه لمرابع الرقة التي نزلها وطاف بها، حيث يسترسل في وصف مروج الرقة الخضراء وجمال الطبيعة فيها التي تختال كالفتاة الناعمة الحسناء في حللها الزاهية المزركشة فيقول:
والرقة البيضاء كالحور التي/ تختال بين نواعم أقران
من أبيض يقق، وأصفر فاقع/ في أخضر بهج، وأحمر قان
ضحك النهار بأرضها، وتشققت/ فيها عيون شقائق النعمان
وها هو البحتري يمدح أبو سعيد الثغري أحد قواد جيش المعتصم وهو في الرقة، في قصيدة قال فيها:
ما للجزيرة والشام تبدلا/ بك يا بن يوسف ظلمة بضياء
نضب الفرات وكان بحرا زاخرا/ واسود وجه الرقة البيضاء
وكان البحتري وهو بالرقة قد وقف على أعمال فيها بعض المنغصات، التي تسيئ إلى جمهرة الناس وتستهين بمصالحهم، فكتب بشكوى إلى الخليفة المتوكل لرفع الظلامة، وتحقيق العدل والإنصاف، وهذا ما عبرت عنه قصيدة للخليفة يقول فيها:
اعير بريد الرقتين غضاضة/ بمظطرب الكفين، رخو البنائق
نعي العدل، شرقي البلاد، بجوره/ وباع الناس ثم بدانغ
كانت هذه شكوى على صاحب البريد بالرقة، أما ابا بكر الصنوبري الذي تغنى كثيرا بالرقة، وقد سكن الرها أيضا، وكان يجتمع في دكان سعد الوراق مع مجموعة من أدباء الشام، والصنوبري صاحب الزهريات والروضيات الرقية، نقتطف من ديوانه ازاهير الرقة وورودها، حيث أنه رأى العيش في الرقة أطيب عيش وفي هذا المعنى يقول:
خلع ابن الصنوبري العذارا/ وغدا، فهو لا يرى ذاك عارا
وجدير بصفوة العيش من/ كانت له الرقة المصونة دارا
غازلتنا غزلانها عن عيون/ سلبتنا الأسماع والأبصارا
ما رأينا من قبل تلك ظباءُ/ أبرزت من جيوبها أقمار
وفي قصيدة أخرى يصف الطبيعة بأزهارها وأشجارها وحدائق رياضها الغناء في الرقتين بقوله:
سقى جنبات الرقتين مزمجر/ سكوب العزالي كلما عن بارقة
ترى الزهر كالحلي إذا بدا/ يلوح عليه دره وعقائقه
وغصن على غصن تميله الصبا/ كما مال إلف نحو إلف يعانقه
حدائق روض يحسر العين حسنها/ وما كان حسن الروض لولا حدائقه
ومن أجمل ما قاله الصنوبري أبيات غزلية رقيقة، نفذ وانتقل منها إلى الإشادة بطباع أهل الرقة الظريفة، حيث يقول:
بأبي من لو أنني ذبت ضرا/ فيه، ما قلت إنني ذبت ضرا
من له الجلنار أصبح خدا/ وله الأقحوان أصبح ثغرا
طرة قد يخالها الليل ليلا/ وجبين يخاله الفجر فجرا
رقة الرقتين فيه، وظرف/ الرافقين يقطر قطرا
طاف هذا الجمال في الخلق حتى/ حين صار الجمال فيه استقرا
وأنشد الشاعر أحمد بن سيار فقال:
زمن بأعلى الرقتين قصير/ لم يثنه للحادثات غرير
اما الشعراء من أبناء الرقة، فكانت الرقة في عيونهم الأم الحنونة، التي حمتهم مفضلين إياها على سائر المدن، شاعرها المجيد ربيعه الرقي قال عنها:
حبذا الرقة دارا وبلد/ بلد ساكنه ممن تود
ما رأينا بلدة تعدلها/ لا، ولا أخبرنا عنها أحد
إنها برية بحرية/ سورها بحر، وسور في الجدد
تسمع الصلصل في أشجارها/ هدهد البر، ومكاء غرد
لم تضمن بلدة ما ضمنت/ من جمال، في قريش وأسد
مازال مجال القول عن الرقة وتراث الرقة الشعري كبيراً، وكثيراً من الأشعار قد ضاعت ولم يصلنا إلا النادر القليل، ومع ذلك نقول إن التراث الذي عرفته الرقة في عصورها الزاهرة، كان تاج آخر يزين مفرقها، وعقد جميل يرصع جيدها، وإن ما ذكرناه عن كيف بدت الرقة في عيون شعراء أزمانها المجيدة؟، نبع كاف لإرواء ذلك الماضي الزاهر، الذي يزداد ألقا، كلما تم العثور على كتب جديدة منسية، وكلما ساعدنا النبع المتدفق على إظهار دواوين من الشعر خافية.
لك المجد يا حوراء.
المصادر:
*- ديوان ابن قيس الرقيات 100/99
*- طبقات الشعراء د. تحقيق عبد الستار فراح. دار المعارف 1956م.
*-أ حسن التقاسيم للمقدسي ص385. ط 1906م.
*- كتاب “مدن فراتية” عبد القادر عياش.
* – الرقة درة الفرات، مجموعة من الباحثين السوريين، دمشق. 1993م.
المبحث الثاني:
“هارون الرشيد” وأيام العروس في “الرقة“
تمتعت “الرقة” أيام الرشيد بعصر مجيد، لمع فيه كوكب سعدها ويا ليته يلمع اليوم، وشع نجم حضارتها وتعددت أسواق نهضتها الأدبية، فدعا المؤرخون والمفكرون ذلك العصر باسم “العصر الذهبي”، وذلك تعظيماً لقدر رجال ذلك العصر وتمييزاً له عن سائر العصور الأخرى.
ويقول الراحل “مصطفى الحسون” (.. وإذا كان الفرنسيون قد عظموا ملكهم “لويس الرابع عشر” الذي كان بحق، أكبر عاهل في أوروبا في عصره، فإنه يحق لنا نحن العرب والمسلمين أنْ نتفاخر بالخليفة “هارون الرشيد”، الذي سبق الملك “لويس الرابع عشر” بألف سنة تقريباً). وإذا ما طاب لنا الحديث عن بلاط “الرشيد”، فإنَّ الحديث عنه يطول ويطول، فقد اجتمع في بلاطه عباقرة عصره وعصر من سبقوه، ويحضرني من أسماء الأدباء والشعراء وقادة الفكر الذين اجتمعوا في بلاط “الرشيد”، “أبو العتاهية” و”أبو نواس” و”مروان بن أبي حفصة” و”الكسائي” و”يحيى بن المبارك اليزيدي” و”كلثوم بن عمرو العتابي” و”الأصمعي” وغيرهم.
وفي دراسة للمرحوم الشاعر “مصطفى الحسون”، في مجلة الحوليات الأثرية، المجلد /31/ عام /1981/م، ص /146/ يقول: «..وقد أطلق الفرنسيون على عصر “لويس” اسم “عصر الشمس والنور”, كما أطلقت العرب اسم “العروس” على أيام “هارون الرشيد” في “بغداد” و”الرافقة” أو “الرقة”، لجمالها وبهجتها، وفي العلم والأدب والفن فيها. على أنَّ ما اجتمع في بلاط “الرشيد” من العباقرة والقادة أكثر مما اجتمع في قصر “لويس”، رغم الفارق في الزمن».
لقد أدار “الرشيد” دولته بكل عظمة واقتدار، وسار على نهج السلف من الخلفاء المسلمين الأقوياء مثل جده الخليفة “المنصور”، وما كان الخليفة “هارون الرشيد” كما يصفه أعداء العرب والمسلمين بالمسرف ولا بالبخيل بل كان عادلاً، قاد أمته نحو العزة والفخار، وبهذا الصدد يقول المؤرخ “ابن طباطبا”: (.. ولم يجتمع بباب خليفة من العلماء والشعراء والفقهاء والقراء والكتاب والندماء والمغنين ما اجتمع على باب “الرشيد”). وكان يصل كل واحد منهم أجزل صلة، ويرفعه إلى أعلى درجة، وكان فاضلاً شاعراً وراوية للأخبار والآثار والأشعار، صحيح الذوق والتمييز، مهيباً عند الخاصة والعامة، وكان يوفر الطقوس الجميلة، فيما يخص نمط حياته اليومية في إدارة شؤون الحكم، فكان يهتم اهتماماً كبيراً بتنسيق مواكبه اليومية بشكل لائق وجميل، بحيث يعكس سلوكاً حضارياً قلَّ ما نعرفه عند أي حاكم آخر.
وقد عُرف “الرشيد” بميله وحبه للصيد، وموكب اللعب بالصولجان، وموكب الطراد، وكان الفضاء الواسع بين “الرقة البيضاء” و”الرافقة” مكان (المنطقة الصناعية) الحالي، الذي يمتد شمالاً حتى منطقة “القصور العباسية”، على شكل ميادين مخصصة لمواكب العرض العسكري والطراد واللعب بالصولجان وبقية النشاطات والهوايات التي كان يهواها الخليفة “الرشيد”، ويذكر المسعودي بأنَّ “الرشيد” كان مواظباً على الحج، ومتابعاً للغزو، وأنه كان مهتماً ببناء الحصون والثغور، ومدَّن المدن وحصنَّها، فكانت الرقة آنذاك أكثر مدن الحافة رقياً وتحضراً، وكان أول من لعب بالصولجان، وأول من لعب بالشطرنج من خلفاء “بني العباس”، وكان يهتم كثيراً باللاعبين، وأجرى عليهم الرزق، ونقرأ في كتاب الأغاني لـ”أبي فرج الأصفهاني”: مجلد /14/ قولٌ لـ”علي بن الخليل”:
تحكي خلافته ببهجتها
أنق العروس، بليلة العرس
أما السيدة “زبيدة بنت جعفر” زوجة الخليفة “هارون الرشيد”، فقد وصفها المؤرخون أنها كان, حسنة السيرة في الجد والهزل، فأما الجد والآثار الجميلة التي تشهد على حسن سيرتها، فيظهر ذلك في حفرها لعين “المشاش” في “الحجاز”، فقد مهدت الطريق لماء هذه العين واستجرتها من مسافة عشرين كم إلى مكة، رغم كل الصعاب المتمثلة بالوديان والجبال ووعورة الأرض. كما أنَّ السيدة “زبيدة” قد أقامت الكثير من محطات الاستراحة، وحفر الآبار على طريق الحج المعروف بدرب “زبيدة” الممتد من “الكوفة” ب” العراق” حتى مدينة “الربذة” الأثرية” و”المدينة المنورة”. ومما يجدر ذكره حفرها للآبار والبرك الكثيرة بالحجاز والثغور، وما بذلته من مال لأهلِ الفاقة من المعروف والخصب، كما أن السيدة” زبيدة” أقامت النواعير لرفع الماء من الفرات لإرواء الأراضي الزراعية التي كانت تحيط ب”الرقة السمراء”.
ومما ينسب إلى الخليفة “الرشيد”، أنّ ماء الشرب كان يرسل إليه في قوارير زجاجية من “المدينة المنَّورة” وهو في “الرقة”، هذا الخبر يذكره “القزويني” في كتابه (آثار البلاد، وأخبار العباد)، وكان “الرشيد” يعشق ركوب الخيل والطراد، وكانت “الرقة” منذ العصر الأموي مشهورة بتربية الخيول العربية والعناية بها، وكانت ميادين السباق في “الرقة” و”الرصافة” و”الكرخ” (كرخ الرقة) قائمة منذ أيام الخليفة الأموي “هشام بن عبد الملك”. وفي عهد “الرشيد” خصصت للخيل الحقول الخضراء مثل (حقل الضيازن)، وكان لدى “الرشيد” من جيادها عدد كبير جداً. ويذكر المؤرخون ومنهم “د. الجومرد” أنّ “هارون الرشيد” كان يقيم سباقاً لخيله، وكان يجريها مع خيول الأمراء والوزراء، ويخصص لها الجوائز المادية المجزية. وقد بلغ عدد الخيول العربية الأصيلة في “الرقة” أيام “الرشيد” المئات.
ويذكر “الأصفهاني” صاحب كتاب “الأغاني” أنّه كان في “الرقة” أيام “الرشيد” الكثير من الحقول والاصطبلات لتوليد عتاقها، وتربيتها، وكانت مهمة الإشراف على هذه الخيل والعناية بها مُناط بأمهر الأخصائيين العرب، ويذكر “الجومرد”: (أنَّ عددهم بلغ المئات، وكان لهم بيت مال خاص يشرف على الشؤون المالية، ولهم أيضاً رؤساء تبوأوا مكانة مرموقة بين رجال الحاشية، وفي مقدمتهم “دفافة العنسي الرقي”، الذي كان يدعى صاحب خيل الرشيد).
كان “الرشيد” يتخذ من “الرافقة” “الرقة” مكاناً آمناً، وفي الأيام والشهور التي لا يكون فيها غازياً أو حاجاً، يقوم بممارسة هوايته المفضلة التي هي في الوقت نفسه جزء من النظام الإداري، وتقليد سار عليه “الرشيد”، مثل العروض العسكرية التي كانت تنظم في ميادين الرافقة “الرقة” وتنسيق المواكب، وإظهارها بالمظهر اللائق بشخصه من لباس وسلاح وكوكبة الحرس وفرق جنود المشاة. ومن الأمور الطريفة التي تروى عن “الرشيد” أنه أجرى الخيل يوماً في “الرصافة، وكان يجلس في صدر السبق، فلما توافت إليه الخيل كان في المقدمة فَرَسَان، فلما تأملهما قال: «فرسي والله، وفرس ابني “المأمون”، قالوا: فلما قدمتا وهما في مقدمة الخيل، وكان فرس “الرشيد” السابق وفرس ابنه “المأمون” الثانية، فقد سر بذلك، فلما انقضى السباق وتفرق المجلس, وهمّ “الرشيد” بالانصراف طلب “الأصمعي” مقابلة الخليفة، وقال: لدي شيء من أمر الفرسين، وأريد أنْ أبوح به للخليفة. وقام “الفضل” بإخبار أمير المؤمنين قائلاً: يا أمير المؤمنين: هذا “الأصمعي” يريد أنْ يبلغ سيدي أمير المؤمنين شيئاً من أمر الفرسين، قال أين هو؟! فلما دنى”الأصمعي” قال الخليفة: ما عندك من أخبار جديدة يا “أصمعي”؟ قال يا أمير المؤمنين، مجلس السباق في هذا اليوم، كنت فيه أنت وابنك في فرسيكما، كما قالت الخنساء:
جارى أباه فأقبلا وهمـا
يتنازعان ملاءة الخفْـــر
وهما كأنهما، وقد بـرزا
صقران قد حطا على وكر
برزت صفيحة وجه والده
ومضى على غلوائه يجري
أولى، فأولـى أن يقاربـه
لولا جلال السن والكبـر
ويذكر الدكتور “عبد الجبار الجومرد” في كتابه “هارون الرشيد”، طبعة بيروت /1956/ م، أنه كان لـ”الرشيد” هوايات كثيرة، منها أنه كان يهوى ركوب “الحراقات” من السفن المزينة في نهر الفرات، عندما يكون في “الرقة”، وأفضل وقت عنده لذلك هو الليل حيث يكون النهر والماء راكداً، و”الحراقات” مزدانةً بالأنوار، حيث تشكل مع أنوار القصور المنعكسة على ماء النهر لوحة تشكيلية بديعة المنظر. ويذكر المؤرخون العرب أنّه كان في دار “الرشيد” الكثير من الجواري الحسان، ومنهن”ماردة” أم ولده المعتصم، ويقال إنَّ “الرشيد” قد خلفها في “الرقة” في أحد سفراته إلى “بغداد” فمرة اشتاق إليها فكتب قائلاً:
سلام على النازح المغترب
تحيـة حب بـه مكتئب
غزال من مراتعه بالبليخ
إلى دير زكى فقصر الخشب
أيا من أعاق على نفسـه
بتخليفه طائعاً مـن أحـب
سأستر والستر من شيمتي
هوى من أحب عن لا أحبد..
ومنهن أيضاً “هيلانة” الرومية، وأنّه “الرشيد” حين ماتت حزن عليها حزناً شديداً، وقال فيها قصيدة رثاء مطلعها:
أف للدنيـا وللزينـة فيهـا والأثـاث
إذ حثى الرب على هيلانة في الحفرة حاث
وقال “الرشيد” لـ”لعباس بن الأحنف”، قل يا “أحنف” شيئاً على موت “هيلانة” فأنشد قائلاً:
أيهدي ضياء بعد هيلانة البلى
أراني ملقى من فراق الحبائب
ولما رأيـت الموت لابـد واقعاً
تذكرت قول المبتلى بالمصائب
لعمرك ما تعفو كلـوم مصيبـة
على صاحب ألا فجعت بصاحبٍ
وهكذا نجد أنَّ جلَّ المؤرخون والباحثون العرب والأجانب، يؤكدون ويثبتون، ونحن نعتقد ذلك أيضاً، أنَّ أيام “الرشيد” في “الرقة” وفي “بغداد” وفي كل أرض الخلافة هي بحق، كما يقول المرحوم الحسون: (أيام العروس). وهذه الصورة تبدو لنا، نحن أبناء الألفية الثالثة بعد الميلاد، أن أيام “الرشيد” كانت أيام جد وفرح وسرور، ولكي نكون بعيدين عن التعصب والفخار لهذا الخليفة العربي الأصيل، فإننا نؤكد أيضاً أنّ هذا القول ليس نابعاً من تتبعنا لحياة “الرشيد” الخاصة، بل أيضاً من تتبع حياة رعية “الرشيد” العامة، القاطنة في كل الأقاليم القريبة والبعيدة، والقوميات المتعددة في أنحاء الخلافة.
وإذا كانت العرب قد سمت أيام “الرشيد” بـ”أيام العروس”، فلأن أيام خلافة “الرشيد” كانت أيام خيرٍ وأيام عطاءٍ وأيام خصبٍ وأيام الأمن والعدالة. وتتحدث المراجع التاريخية عن فترة خلافة “الرشيد” واهتمامه وعنايته بأمور الزراعة والصناعة اليدوية داخل البلاد، وإقامته للجسور وحفر الأقنية والترع والجداول الواصلة بين الأنهار. حتى أنَّ البلاد أصبحت شبكة من المياه ترتوي منها الحقول والبساتين والمزارع.
وعمل “الرشيد” على رفع الضرائب عن الفلاحين تشجيعاً وتقوية لهم، ويروى عن “الرشيد” أنه في أحد المرات التي كان يتفقد فيها أحوال الزراعة والزراع، قد مر مع حاشيته بحوش كبير على الضفة اليسرى لنهر الفرات تكثر فيه الأشجار المثمرة وتغريد الأطيار، عند موضع يقال له اليوم “طاوي رمان”، فلما قرع الحراس باب هذا الحوش فتح الباب على مصراعيه، فاستقبلتهم صبية حسنة المنظر والجمال، ودعتهم للجلوس وشرب الماء، ثم أنها قدمت لهم طبقاً مليئاً بفاكهة الرمان الكبيرة، فأمسك الخليفة الرشيد حبة كبيرة من حبات الرمان وقال: ما شاء الله، ثم أنّه شكر الصبية وذهب مع حاشيته دون أن تعرف الصبية أنّه الخليفة “هارون الرشيد”، وفي الحول القادم مرَّ “الرشيد” على نفس الحوش واستقبلته الصبية ذاتها وقدمت له طبقاً من الرمان لكنه لم يكن بجودة رمان السنة الفائتة، فلما سألها الخليفة لماذا ثمر هذا البستان خاوياً هكذا؟ فأجابته أنَّ كثرة الضرائب في هذا العام أثقلت كاهلنا، ويقال أنَّ الخليفة “الرشيد” امتعض من ذلك وأمر بإلغاء الضرائب عن الفلاحين والزراع.
وعمل “الرشيد” أيضاً على حراسة طرق التجارة بين المدن والأقاليم، وأمر بإنشاء المحطات والآبار عليها، ونُظمت هذه الطرق تنظيماً جيداً، فانتعشت بذلك التجارة انتعاشاً كبيراً، وعمت الخيرات أنحاء الخلافة، وتواردت ثروات طائلة إلى بيت المال من الخراج والضرائب، وكل هذه الأموال كانت ترفد بيت المال مما انعكس إيجاباً على عامة الناس.
وفي هذه الفترة المشرقة والمتألقة من التاريخ العربي الإسلامي، كانت مدينة (الرافقة) “الرقة” من أهم مدن الخلافة آنذاك، وهي كالخود كما يصفها “البحتري”، ويقول “الحسون” “رحمه الله”: «… بين أترابها في أعراس التاريخ، حتى ملأت ببلدانها الخمسة السهل الواقع عند ملتقى الفرات من البليخ». وكان لـ”لرقة” حظ كبير لوجود “الرشيد” فيها مدة طويلة من أيام خلافته، إذ أنه جلب معه أعلام عصره، من مفكرين وكتاب وشعراء ومغنين، ويقول المرحوم “مصطفى الحسون” في مقالة له نشرها في (مجلة الحوليات الأثرية)، مجلد/31/ 1981/ م ص/150/: «.. فإنه يمكننا أنْ نجيز لأنفسنا القول بأن “الرقة” قد عرفت في هذه الحقبة التاريخية الزاهرة جداً أجواءً من “حياة ألف ليلة وليلة”».
لقد عاشت “الرقة” أيام “الرشيد” ليالي أنس وطرب، طرب “إبراهيم الموصللي”، وابنه “إسحاق” وصوت “ابن جامع”، ونغم “إبراهيم بن المهدي”، وغيرهم من أعلام الطرب والفن والغناء. ومن العازفين الذين عاشوا في “الرقة” “زلزل” و”برصوما” وعازف الناي “زنام” ويقول البحتري:
وعود “بنان” حين ساعد شدوه
على نغم الألحان ناي “زنام“
وما تزال أطلال قصر”الرشيد” (قصر السلام) في الرافقة “الرقة” باقيةً إلى يومنا هذا بالقرب من “تل البيعة”، حيث وقفت عند فنائه الوفود من كل حدب وصوب، وعلى رأسهم الشعراء والفقهاء والرواة والعلماء والإخباريون، وغيرهم من علماء ذلك الزمان.
المبحث الثالث:
طقوس الرعي والمراعي في “الرقة“
كانت المراعي في منطقة “الرقة” بدءاً من القرن السابع عشر، وحتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، تشكل مساحة واسعة من المساحة الإجمالية للمحافظة، وكانت عملية الرعي بحد ذاتها، تشكل خلال فصلي الخريف والربيع في عمق منطقة “الرقة”، وخاصة في جهة الشمال أسعد الأوقات وأجملها بالنسبة للرعاة، وحسب رأي الرعاة فإنّ فصل الخريف يعتبر أفضل فصول السنة بالنسبة لهم، حيث يجدون فيه متعة العيش بعيداً عن صخب القرية والمدينة، وحيث توجد مساقط الماء والكلأ، وتلبس الأرض حلة خضراء تزينها الأزهار والورود من كل لون وصنف. ويبدأ كبار السن في نزل الرعاة بتفحص السماء، فإذا هطل المطر في العشر الأواخر من شهر أيلول اطمأن الرعاة واستبشروا خيراً بهطول المطر في هذا الموسم، أما في حالة عدم هطول الأمطار في الفترة الآنفة الذكر، فإنّ الرعاة ينتقلون إلى حسابات أخرى، إذ أنهم يبدؤون بمراقبة السماء من بداية شهر تشرين الثاني، على أمل رؤية ومضات من البرق وسماع صدى الرعد من بعيد، مما يعني أنّ المطر سيهطل ولو بعد حين بمشيئة الله، ومهما كانت كمية الأمطار الهاطلة في أي سنة من السنوات، فإنّ فترة الرعي في فصل الخريف تعتمد على نوعية هذه الأمطار التي تهطل في المنطقة الجزيرة الواقعة على يسار نهر الفرات، أو في منطقة الشامية الواقعة على يسار نهر الفرات، وعلى الأوقات التي تهطل فيها الأمطار.
ومع نهاية فصل الخريف، يبدأ الرعاة بتدوين حسابات جديدة في أجندتهم، إذ نراهم يتتبعون أخبار المطر عن طريق إرسال فرق استطلاع إلى المناطق البعيدة، وخاصة إلى المناطق القريبة من الخط المطري في الشمال السوري، كما أنّ الرعاة يبدؤون في هذه الفترة بالسؤال للحصول على معلومات دقيقة من الناس القادمين من الجنوب، من مناطق مثل بادية الرصافة ومن “رحوب” ومناطق جبل البشري الغني بالمراعي الربيعية والصيفية. وفي حالة توفر معلومات متضاربة عن كمية هطول الأمطار في المناطق البعيدة، فإنّ أهل المشورة من الرعاة يقومون بإرسال من يستطلع الأمر على أرض الواقع. ومع بداية شهر كانون الثاني يبدأ الرعاة بتتبع أخبار الهطولات المطرية في مناطق الحدود الإدارية للمحافظة، ويبدؤون بتحركات حذرة في مناطق الرعي وخاصة حول أبار الري مثل “بير المويلح” و”بير حنظل”، وهذه الآبار في الغالب تكون آبار خاصة أو مشتركة بين أفراد العشيرة الواحدة، وأحياناً يفرض العرف العشائري على أن تكون الآبار مشتركة بين كل الرعاة الذين يشكلون فصيلاً واحداً، وفي حالة حدوث سنوات عجاف في منطقة “الرقة”، يقوم الرعاة باستكشاف حالة الهطولات المطرية في المحافظات المجاورة، وبذلك يحددون اتجاه هجرتهم الرعوية الشتوية.
ينصب الرعاة بيوتهم (بيت الْشَعَرْ) المصنوع من شَعَرْ الماعز وفقاً لبرودة الطقس، ويرتب النزل في العادة على أن تكون البيوت إما في اتجاه الشرق، أو الجنوب للحصول قدر الإمكان على أشعة الشمس الدافئة، وتنصب الخيام عادة في وقت الضحى، حيث تتابع الماشية الرعي حتى وقت الظهيرة، حيث يتم حلب الغنم بربط الأغنام بواسطة (حبل الشباك)، وهي متقابلة الواحدة تعانق الأخرى بشكل طولاني، حيث تبدأ الحلابات بحلب الماشية حتى النهاية، ثم كل واحدة منهن تعود بشكل حر وإفرادي، كي لا يفسد الحليب، ولكنهن حين يجئن من النزل لحلب الماشية، فإنهن يجئن بشكل جماعي.
في المساء قبيل غروب الشمس هناك حلبة ثانية للماشية حديثة الولادة، حيث نرى الحلاّبات يكررن نفس الحركة ونفس المسار الذي قمن به وقت الظهيرة من ذات اليوم نفسه، وبعد أنْ تنتهي الحلاّبات من حَلْبْ الماشية، يقوم الرجال بإطلاق البهم أو الطليان المكون من الخراف الصغيرة حديثة الولادة كي ترضع حليب الأمهات، وبعد انتهاء مدة الرضاعة تُبعد الخراف عن أمهاتها، حيث تنتشر الماشية بعيداً عن النزل لتبدأ مرحلة جديدة من الرعي، وهكذا تتكرر هذه العملية حتى تُفطم الخراف، ويحل الربيع بحلة جديدة، حيث يتغير وجه الأرض، ويظهر نبات جديد وتبدأ مرحلة رعوية جديدة، حتى أنّ الماشية نفسها تلبس حلة جديدة، وذلك بعد أن يُقص صوفها بالكامل ضمن طقوس مشهورة ومعروفة عند الرعاة.. وفي هذه المرحلة يبدأ الرعاة بجني ثمن الصوف واللبن (الخاثر) “الزبادي” والجبن، وفي الصيف تباع الذكور من الخراف، أما الإناث فتوضع في السرح، وتتهيأ للتلقيح من قبل الذكور (الكباش)، حيث أنها تعيش بعد ذلك مرحلة الولادة والأمومة. وما أن يحل الصيف، حتى نجد كامل الرعاة، قد عادوا بماشيتهم إلى أرض الزور، وإلى الأراضي التي تم فيها جني محصول القمح والشعير، حيث تبدأ الماشية برعي بقايا عيدان الحبوب التي يسميها أهل “الرقة” بـ(الْسَفِير)، وما أنْ تنتهي الماشية من رعي عيدان القمح والشعير، حتى يبدأ جني محصول الذرة الصفراء والبيضاء ومن بعده القطن، حيث تظل الماشية ترعى بقايا المحاصيل حتى يبدأ فصل الخريف، ومعه تبدأ دورة جديدة من الهجرة إلى المراعي في الشمال أو الجنوب.
في فترة ما بعد الثمانينيات من القرن الماضي، تقلصت مساحات أراضي الرعي بسبب التوسع في استصلاح الأراضي المعدة للزراعة، ومع حلول سنوات قحط متتالية انخفضت أعداد الماشية، وتعرض الرعاة إلى محن ومآسٍ، بسبب غلاء واحتكار مادة العلف، مما جعل تربية الماشية في منطقة “الرقة” تقف عند حدود خط الخطر.
بقي أن نشير إلى أنّ للرعاة ثقافتهم الخاصة المتمثلة بالرعي الذي يشكل الوحدة الاقتصادية الرئيسة للإنتاج والاستهلاك، وكذلك التبادل المتواضع عن طريق أسواق بلدة “الرقة” آنذاك، وكان أغلب التجار هم من مدن كبيرة مثل “حلب” و”حماة”، ومع تطور مدينة “الرقة” ونموها أصبحت العلاقات الاقتصادية بين الرعاة والمجتمع المديني تشكل العنصر الأساسي في ثقافة مجتمع الرعاة الرقي.