أحمد اسماعيل اسماعيل
قاص و كاتب مسرحي كُردي سوري، يقيم في ألمانيا.
أوراق 11
أوراق السرد
“كم هم غريبو الأطوار هؤلاء الكبار!”
همس ديار بذلك في نفسه وهو يشاهد رجالاً يدخلون إلى بيتهم بطريقة غريبة لم يعهدها من قبل، كانوا يصافحون والده الذي وقف في عتمة الليل، خلف باب الدار الذي تركه موارباً. ثم يتوجهون بسرعة وصمت إلى غرفة نوم والديه، الملاصقة للغرفة التي ينام هو وأخويه فيها، والواقعتان في نهاية الحوش، بعيداً عن باب الدار الخشبي، والمغطى بطبقة من الصفيح الذي أصابه الصدأ.
في غرفة نوم والديه، والتي يتم استخدامها لاستقبال الضيوف أيضاً، بدأ الرجال ووالده الذي انضم إليهم بعد أن أغلق باب الدار، بالحديث بصوت منخفض، فالوقت ليل، كما قال أحدهم، وآذان الليل كبيرة وتلتقط أدق الأصوات.
“لماذا يفعل الرجال ذلك، وهم في النهار يتحدثون بصوت عال، وغاضب دائماً؟!”
لقد كانت أذنا ديار مثل روحه المشوشة، ورغم صغر حجمهما، مثل آذان الليل، تحاولان هي أيضاً التقاط أدق الكلمات التي يتفوه بها هؤلاء الرجال، والتي كانت جديدة على أسماعه، إذ لم يسبق له أن سمع هذه الكلمات من قبل: الحزب، الرفاق، الثورة، المخابرات!
لماذا دخل هؤلاء الرجال إلى البيت بهذا الشكل غير المعتاد، خائفين وصامتين، وهم عادة لا يفعلون ذلك في النهار، بل يطرقون الباب بقوة، وبشكل متكرر أحياناً، ويلجأ بعضهم إلى نداء والده وهو مايزال خلف الباب، ويتبادلون النكات وعبارات الترحيب بأصوات عالية ومرحة وهم يدخلون؟!
ولما عجز عن فهم الحديث الدائر بينهم؛ وجه نظره إلى سحائب دخان السجائر التي كانت تتماوج في فضاء الغرفة، وتحت سقفها الواطئ الذي تسنده عوارض خشبية كبيرة، وترسم أشكالاً وهيئات كثيرة، لحيوانات كبيرة وأشباح غريبة.
هذه هي المرة الأولى التي يطلب فيها منه والده البقاء في البيت، واستقبال الضيوف، وذلك بعد أن طلب من أمه اصطحاب أخيه الصغير إلى بيت جده، وأن تنتظره هناك حتى يلتحق بها، ويعودوا جميعاً إلى البيت.
هل كتبت وظائفك؟
هل تدرس؟
احذر أن ترسب، سأعلقك حينها على سلم البيت مثل شاة مذبوحة.
تكاد هذه الكلمات أن تكون الوحيدة التي يسمعها من والده وهي تتكرر دائماً في كل لقاء يجمع بينهما، وعادة ما يكون هذا اللقاء أثناء تناول الطعام، حتى أنه استظهرها عن ظهر قلب، وكان يظن أن الآباء كلهم يفعلون ذلك مع أطفالهم، وإن العناق والقبلات التي لم يحظ بها من أبيه قط، هي فعل خاص بالأمهات والجدات.
كان الضيوف الجالسين على المهاد المفروشة على الأرض يتكئون على مخاد أسطوانية الشكل ومحشوة بالقطن، وكان بعضهم يجلس القرفصاء، أما والده الذي لم يجلس اليوم في صدر الغرفة، فقد كوَّم جسده الضخم قرب العتبة، وقد علت وجهه تعابير جديدة، غير قاسية هذه المرة!
لكزه والده فجأة وطلب منه، وبكلمات ودودة، أن يجلب الماء للضيوف، ويُعد الشاي، فهب واقفاً، وتوجه إلى المطبخ، سار نحوه بحذر، كما لو أنه يلعب الاستغماية في ليل الشارع.
كانت أمه قد هيأت الأواني المطلوبة كلّها في المطبخ: إبريق الشاي وكؤوس كثيرة وإبريق الماء والقدح الكبير، إضافة إلى منافض السجائر. داخله احساس بالفرح وهو يضع هذه الأدوات على سفرة صغيرة، وتخيل نظرة رضا في عيون والده، وراح يردد أحد الأناشيد التي كان قد استظهرها في المدرسة، وعندما همّ بمغادرة المطبخ وهو يحمل إبريق الماء، أصدر الباب صريراً أشبه بالأنين، وانبثق من خلاله وجه والده كمارد خرج من جوف الليل، ثم دخل إلى المطبخ بكامل جسده الضخم، وهمس في وجهه بصوت خرج من بين أسنانه الصفراء الكبيرة فحيحاً ممزوجاً برائحة الدخان، آمراً إياه بالتزام الصمت والكفّ عن النهيق، وبأنه سيقطع لسانه لو سمع صوته أحد الجيران.
قال له ذلك وانقلب عائداً بسرعة إلى الغرفة، يسير على رؤوس أصابع قدميه الكبيرتين، وانقلب حال ديار أيضاً، وانطفأ حلم الفوز بنظرة رضا.
كان باب غرفة الضيوف مغلقاً حين وقف أمامه حاملاً في كلتا يديه أبريق الماء والقدح الكبير، الخاص بشرب الماء، واحتار ماذا يفعل ليفتح الباب، وخاف أن يغضب والده لو ناداه طالباً منه فتح الباب، فقد يلتقط أحد الجيران صوته كما قال له والده، وقرر بعد تردد، أن يدفع الباب بكوعه، فأحدث ارتطام الباب بالحائط صوتاً تردد صداه في عتمة الحوش. ومرة أخرى انتصب والده في مدخل الباب مثل مارد، وجذبه إلى الداخل بكفه الكبيرة. وفي الغرفة التي وقف على عتبتها خائفاً وخجلاً، فوجئ بالرجال وقد تحولت وجوههم كلها إلى وجه واحد، وعيون كثيرة مفتوحة على اتساعها، تحدق فيه بهلع.
“يا إلهي ماذا يحدث لوجوه الرجال في الليل؟!”
لم يدرْ كم من الوقت مرَّ وهو واقف في العتبة كتمثال تنضرم في داخله نيران الحيرة والخوف، حتى سمع صوت والده الذي عاد رقيقاً هذه المرة أيضاً، يطلب منه تقديم الماء للضيوف، الذين عادت إليهم وجوههم السابقة؛ وجوه وعيون وأفواه تردد الكلمات الغريبة ذاتها: الثورة، الحزب. الرفاق، الديكتاتور.
قدم الماء للضيوف فرداً فرداً، ثم جلس في مكانه، بين والده والعتبة، وراح يصيخ السمع إلى الحديث ذاته مرة أخرى، وكاد أن يعاود النظر ثانية إلى سحائب الدخان التي كانت ملأت فضاء الغرفة وهي تتلون وتتشكل في هيئات غريبة، غير أن يد والده التي امتدت إليه، جعلته يجفل بخوف، غير أن هذه اليد التي لم يسبق لها أن امتدت نحوه سوى بالضرب، شرعت تفرك رقبته وتمسد شعر رأسه، حتى جعلته مثل سحائب الدخان، يتحول إلى طائر يحلق عالياً، وإلى كائن آخر، قوي وسعيد..وبين اليقظة والمنام؛ الفسحة ذات الهواء المسكر، سمع صوتاً يقول: لقد نام الولد، خذه إلى فراشه.
في النوم الذي انزلق فيه كزورق ينساب على صفحة مياه نهر، شاهد والده وهو يحتضنه بحب، ويقبض على كمشة من كراته الزجاجية الصغيرة، لا ليبوبخه ويضربه كما فعل حين سمع ذات مرة صوت رنينها في جيبه، بل ليضع واحدة منها بين أصابعه ويقذفها نحو كرة أخرى ألقى بها بعيداً عنه، ليركض هو، هنا وهناك، يلتقط الكرات المبعثرة ويقدمها لوالده بسرور وفرح، ثم شاهد والده يلعب معه بالكرة، كان هو حارس المرمى، ووالده يهاجم المرمى ويقذف الكرة نحوه بقوة، وكان أخوه الصغير يركض مثله في باحة الدار، ويلتقط الكرات.
انتفض فجأة على لكزات متتابعة في خصره، ورؤية وجه والده وهو يتقلص ويتمدد أمام عينيه المتسعتين وقد امتلأتا بتعابير غريبة، جعلت ضربات قلبه تزداد، ولسانه يُصاب بالتخشب، غير أن صوت والده الذي كان يهمس، مطالباً إياه أن ينهض ويفتح الباب، جعله ينهض كمن يستيقظ من كابوس، ويسير كالمسرنم نحو باب الدار مزوداً بتحذيرات والده: انتبه، لا تقل شيئاً، لا تسمح بالدخول.
كان الطرق المتواصل على باب الدار قد أحال وجوه الرجال كلها إلى تماثيل من شمع، وطبع عليها تعبير واحد، أشبه بالعلامات التي تظهر على وجوه التلاميذ المشاغبين حين ينهال المعلم على أكفهم الصغيرة بعصاه الغليظة، وأنداحت الدهشة أكبر وهو يجد التعبير ذاته وقد انطبع على وجه أبيه أيضاً!
“هل يحول الليل وجوه الرجال إلى وجه واحد كبير، مثل وجوه التلاميذ المذنبين؟”
عندما وصل إلى باب الدار وقد ملأ فضاء الحوش بفرقعات حذاء والده الذي انتعله، ووقف خلفه، سأل عن الطارق، فجاءه من خلف الباب صوت يعرفه جيداً:
-افتح يا ديار، أنا خالتك حسنة.
التفت نحو باب الغرفة، ونظر نحو بابها بعينين متسائلتين، فلم يقع بصره على والده، الذي كان قد وقف خلف النافذة الغارقة في العتمة، يطل برأسه من زاوية منها، ويوزع نظراته بقلق بين الباب وديار. وعاد الطرق مرة أخرى، وكررت الجارة في إلحاح فتح الباب، وكاد الوالد أن يغادر مكانه، ويخرج من الغرفة، ويصفع ديار المتردد بعد أن نفد صبره، ويفتح الباب.
لكن دياراً فتح الباب، وبرز من خلاله وجه جارتهم، التي مدت عنقها إلى الداخل، ونظرت في عتمة الحوش، ثم نقلت نظراتها النهمة إلى باب غرفة الوالدين، ودمدمت بكلمات قليلة، سألها ديار عن حاجتها، فردت بسؤال عن مصدر دمدمات رجال تنبعث من بيتهم في هذا الليل!
فرد ديار وهو يصطنع النوم.
-لا أحد يا خالة، الجميع نيام.
-وهذه الأحذية الرجالية أمام باب الغرفة، لمن هي؟
أشارت الجارة بيدها إلى الأحذية المتناثرة أمام الباب مثل أحذية المصلين في جامع الحي، تثاء وقال بصوت ممطوط:
-إنها أحذية أولاد خالتي، وهم نيام عندنا.
وأغلق الباب. ودخل إلى المرحاض الملاصق لباب الدار، وبقي فيه للحظات، كانت طويلة بالنسبة لوالده والضيوف، وحين خرج منه بعد أن أفرغ مثانته، وعاد إلى الغرفة، فوجئ بالوجوم يسود فيها، وبالجميع في حالة صمت، سرعان ما انفجروا في ضحكة خرساء، وضحك والده أيضاً بسرور. ثم ضمه إلى صدره وقبَّله، وقال له أحد الرجال:
-ابنك ذكي جداً يا رفيق.
وأضاف آخر:
-إنه ممثل.
وردد بعضهم بإعجاب: نعم، سيصبح ممثلاً كبيراً.
ووافق والده على ذلك وهو يربت على كتفه.
“يحب الرجال الأطفال الذين يكذبون في الليل!”
لايعرف متى غادر هؤلاء الرجال الذين أحبوا كذبوه، ولا متى عادت أمه وأخوه من بيت جده، ولكنه في الصباح الباكر، وعندما دخل إلى المدرسة وهو يكاد يطير من شدة الفرح، أخبر أكثر من زميل له في الصف عما حدث ليلة أمس، وأقسم إن قبلة والده له لم تكن حلماً، بل حقيقة، حتى أنه، هو والرجال الضيوف، قالوا عنه إنه ذكي، وإنه سيصبح ممثلاً.
-ممثل؟!
كانت هذه الكلمة جديدة عليه وعلى التلاميذ في صفه، فلم يسبق لأطفال صغار في حي شعبي فقير يقع في طرف المدينة، أن شاهدوا مسرحاً، أو حضروا فيلماً في السينما، كما كان يفعل قلة من الكبار في الحي، وبعض الفتية الأشقياء، الذين كانوا يقلدون أبطال الأفلام الهندية والكابوي، وعندما تساءل أكثر من طفل عن معنى ممثل، وعجز عن الإجابة، توجه أحد التلاميذ بالسؤال إلى المعلم.
وكان على ديار إعادة رواية ماحدث ليلة أمس لمعلم الصف، وبتفصيل زائد: وجوه الرجال، وأوامر أبيه، ثم القبلة على وجهه، وأحاديثهم التي لم يفهم منها شيئاً: الرفاق، الثورة، المخابرات، ملا مصطفى، وكلمات أخرى مشابهة لم يحسن نطقها.
وبناء على طلب معلمه، كرر الرواية ذاتها في الإدارة. أمام مدير المدرسة، ففعل ذلك بفخر وسعادة، زادتا حين وصفه كل من المعلم والمدير بأنه أعظم ممثل.
“المعلمون في المدرسة يحبون الكذب، ويثنون عليه بكلمة ممثل!”
عندما عاد إلى البيت، بعد الانصراف من المدرسة، وهو يكاد يطير من شدة الفرح، ليخبر أمه بإعجاب المدير والمعلم به، وبأنهما وصفوه، مثل أبيه وضيوف الأمس، بأعظم ممثل، وجدها تبكي بحرقة:
-لقد اقتحم رجال مسلحون المنزل قبيل قدومك، واقتادوا والدك في سيارة عسكرية.
مضت سحابة ذلك النهار وهو يشاهد أمه تبكي، وترفع يديها إلى الأعلى بالدعاء على أولاد الحرام وهي تحدج جارتهم بنظرات ذات معنى، وكانت هذه الجارة الجالسة قبالة أمه، تنظر حولها بعيون ملؤها الدهشة والفضول، وتردد كلمة آمين كلما رفعت أمه يديها إلى السماء بالدعاء على أولاد الحرام.
وفي الليل الذي هبط نسراً جائعاً على المدينة، وجثم، كان عليه أن يصبح فيه ممثلاً.