عبد الله الحريري، طبيب وشاعر سوري من درعا، له ديواني شعر مطبوعين، والعديد من الدراسات والنصوص الأدبية.
مجلة أوراق- العدد16
أوراق الملف
من المفترض أن يتيح تقسيم خط الزمن فرصاً للمراجعة والتصحيح أو للتقييم في أسوأ الحالات، لكنه يصبح مؤلماً -إن لم نقل محرجاً- حين يشير إلى الانحدار المتسارع نحو القاع، ولعل هذا ينطبق بالفعل على ذكرى انطلاقة الثورة السورية في — من آذار عام 2011!
حتى منتصف 2018 لم تعن هذه الذكرى إلا مزيداً من التفاؤل، واسترجاعاً لذكرى الكثير من الشهداء، ووقوفاً أشد جرأة أمام الخيارات القادمة التي لم يكن من بينها احتمالية النجاة، حينئذ كان ما يزال في الأذهان هدف يمكن الوصول إليه وملامح قضية تتشكل، ولا أذكر أن اللوغو المطروح على صفحات التواصل الاجتماعي أو حتى الحسم النهائي لتاريخ انطلاقة الثورة عنى الكثير لمن كانوا هناك، لأنهم كانوا يكتبون الحدث والتاريخ باللحم الطري والدم الدافئ، وبعد أن دفعتهم آلة الحرب الروسية نحو نافذة إلى الشمال السوري ومن بعده إلى دول اللجوء، تفاجؤوا بواقع الحروب الافتراضية والمزادات الثورية، حيث وسائل التواصل الاجتماعي ساحة معركة، واللوغو أهم من صواريخ ستنغر، والاحتراب الإلكتروني على موعد انطلاق الثورة لا يقل جوهرية عن إسقاط النظام نفسه، فيتحول الثلث الأوسط من شهر آذار إلى ما يشبه موسم الأعياد التي لا يعرف لها رأس من عقب!
ألا ينم هذا الخلاف، خصوصاً بين النخبة المفترضة، عن صدوع مناطقية وأيديولوجية راسخة لا يمكن انسجامها؟ وكيف لمن لا يتفقون على تاريخ انطلاقة الثورة أن يتفقوا على شكل الدولة ونظامها السياسي فيما لو افترضنا سقوط النظام؟ وكيف لمؤسسات سياسية متعاقبة لم تستطع حسم تاريخ انطلاق الثورة أن تكون بديلاً عن نظام الأسد وقادرة على إدارة الدولة؟
لم تكن الجرأة والتضحية في مواجهة جهاز القمع المتغلغل كافية ليؤكد الجهد الثوري سمته الوطنية، إذ كان لا بد من الوعي المبكر والرؤية الواضحة والفعل الحاسم تجاه قضايا وطنية شديدة الحساسية، ولو كان كذلك لرأينا المحكمة الثورية بدلاً من المحكمة الشرعية، ولما نمت النوى الأولى للمجموعات المتشددة، ولما اختلطت الرايات واقتتل رفاق السلاح، ولما رأينا بعد إحدى عشرة سنة قادة كالحاليين لفصائل عسكرية تضم عشرات آلاف السوريين في شتى المناطق، ولا محاولات حوكمة وإدارة محلية أساسها الفساد وأسلوبها الفشل، وليس صحيحاً أن ترمي البنى السياسية والدينية المسؤولية على كاهل البنى العسكرية بالدرجة الأولى، فالكل وقع في مطب اليقين بالسقوط السريع للنظام والحلم بالمجد والسلطة عقب ذلك، وانسحب ذلك لسنوات بما يشبه الجزرة! فعلى الصعيد السياسي كانت المحاصصة والطعن والتخوين، الذي لم يكد ينجو منه أحد، وكذلك الارتهان الذي أسفر عن انقلابات عدة ابتدأت منذ البنى الأولى إلى تشكيل الائتلاف ثم هيئتي التفاوض إلى يومنا هذا، وقد أيدت شخصيات سياسية -ما زالت تحتفظ برمزيتها إلى الآن!- جبهة النصرة وأضفت عليها الوطنية وأيدت محاكمها الشرعية، وكان ذلك في الوقت الذي تغتال فيه جبهة النصرة الشباب الثوريين وتستهدف مجموعات الجيش الحر وتصف علم الثورة بالراية الكافرة (جهات عديدة فعلت ذلك ثم انخرطت في بنى المعارضة!). وإذ يتلاسن الآن بعض المعنيين بما صرحه وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم قبل أيام حول تحديد مدة الرئاسة في المجلس الوطني السوري فإنهم يغضون أنظارهم عن بقية الأسباب التي جعلت المعارضة (سَلَطة)، ومنها الاختراق لصالح النظام والمال والتجارة على حد قوله، والغريب أن يبرر بعضهم الاختراق بقوله: “وهذا طبيعي يحصل في كل الحكومات”، وإن كان كلامه صحيحاً فليس من الطبيعي ان يكون ذلك في أول جسم يتشكل عقب انطلاق ثورة دامية، ألا يعرف الأشخاص الذين شكلوا هذه الأجسام بعضهم؟! ناهيك عن ما يعنيه هذا التبرير من طبيعية وجود أتباع للنظام في أجسام المعارضة الحالية، بالإضافة لإمكانية اتهام أي أحد بذلك! تحديد مدة الرئاسة بثلاثة اشهر كان مهزلة تفضح بشكل سافر بواطن المتفقين عليه، ويمكننا ان نتحدث عن الاستقالات ايضاً بما تعنيه من اعتبار مقدميها لمهامهم على أنها وظائف، والغريب أن يتم هذا الربط بين الثورة والوظيفة والاستقالة، حتى لفظ مناصب مرفوض في ظرف الثورة، فهي مهام، وغالباً ما تكون صعبة، ولا تبرير للمستقيلين، فإذا اتهموا البقية بالتبعية أو الخيانة فقد كانوا معهم جنباً إلى جنب ولعلهم كانوا في نفس التحالفات، ولو لم يستقيلوا لما أفسحوا المجال لهم، والغريب في الاستقالات أنها لم تكن من منصب رئاسي فعلي إلا في حالة الشيخ معاذ الخطيب!
ولم تكن المؤسسة الدينية بحال أفضل، فرموز دينية هامة انساقت تجاه دعم عربي لتشكيلات عسكرية إسلامية على حساب المجالس العسكرية التي كانت فاعلة آنذاك، وعلى الرغم من فشل مشاريعهم التي مولت بمبالغ طائلة، إلا أنهم لم يعترفوا -وربما لم يعوا- أنهم ساهموا في إضعاف المجالس العسكرية وفي إضعاف الهوية الوطنية وأكدوا سردية النظام عن الدافع الطائفي للثورة والإرهاب. مواقف كثيرة مرت بها الشخصيات الدينية الأبرز والتجمعات الأبرز، وعلى رأسها المجلس الإسلامي السوري، لم تستطع فيها التوفيق بين الشرعي والوطني، ولم تُوفَّق كثيراً إلى الأوقات المناسبة لبياناتها التي امتازت بالانتقائية والتأثر بمزاج الشارع بشكل عام، فنرى بيانات صارمة في بعض القضايا بينما تغيب عن القضايا الطارئة التي يعتبر فيها البيان بمثابة فتوى شرعية، في حين يتلاشون كأن لا وجود لهم في القضايا التي تشتبك فيها مصالح البلدان المضيفة لهم، ومن المؤسف ان المراجعات التي يمكن أن تخوضها التيارات الدينية لا تتضمن في طياتها المحاسبة والإعفاء أو تغيير الأفراد، إذ لا تخفى هالة التقديس التي تحاط بها رموزها، وليس الحديث هنا في معرض المهاجمة بقدر ما هو بمعرض الأسف على غياب دورها المهم الذي كان من الممكن أن يؤسس لهوية وطنية يشكل انفتاح الأغلبية باباً له بدلاً من أن تغلقه أحقية الأغلبية.
صحة كل شيء، وخطأ كل شيء، كانت السمة العامة خلال السنوات الصعبة، فالرمز في عين البعض متفّه في عين البعض الآخر، والوطني مخوّن وبالعكس، وصاحب القرار مطعون به، والمُحافِظ مدعشن أو مأخون، واليساري منحل والعلماني مكفر، وبذلك تفرّغ الثورة من قياداتها المحتملة، ولا يبقى أمامها إلا الانقياد لمن تفرضهم الدول أو لشخصيات من النظام نفسه! ألم يكن الضابط أنور رسلان المحكوم في ألمانيا مسؤولاً عن ملف الأمن والاستخبارات في جولة جنيف الثانية عام 2014 وكان اثنان من كبار المعارضة مشرفين على الوفد؟ وألم يكن المرشح لقيادة (المجلس العسكري الانتقالي) ضابطاً منشقاً عن النظام وليس له أي فعل ثوري وابن واحد من الضباط البناة لنظام الأسد؟ وألم يشغل مراكز قيادية في صفوف المعارضة منشقون شغلوا مناصب متسلسلة عبر سنوات طويلة مع النظام؟
إذا كان ذلك كذلك، لماذا ثار السوريون؟ ما الذي أرادوه بالفعل؟ هل من الطبيعي أن يخوّن الأشخاص أو يُزكّوا بسهولة فائقة كما حصل ويحصل؟ وهل الانشقاق بحد ذاته، يعتبر قفزاً من مركب النظام أم فعلاً ثورياً أصيلاً؟ وهل المعارضة بوابة توبة والعمل فيها يعطي صكوك براءة؟ وهل صحيح أن الموت يَجُبُّ ما قبله، حتى وإن كان تفضيل حذاء عنصر الأمن على الضحايا أو على إرادة أحد؟ هل كانت هناك معايير ثورية واضحة تحدد الخط الفاصل بين الثوري وغير الثوري، وبين الخائن والوطني، وبين العميل وذي الولاء…؟
في الذكرى الحادية عشرة للثورة السورية يجب أن يطلق السوريون أحكامهم على قضايا مهمة:
الأولى أن العسكر لم يكونوا أكثر الجهات خطأ، بل يشاركهم في ذلك البنى السياسية التي انكشف أخيراً أن لا صقور فيها ولا حمائم، وأنها اعتراك مبكر على السلطة وإن كانت سلطة خلّبية، فبعد أن كسر الصقور انتقاداتهم لسياسة الحمائم فدعوا إلى مؤتمر الدوحة الأخير كلاً من منصتي موسكو والقاهرة، ورئيس الائتلاف الوطني المعارض ورئيس الهيئة العليا للمفاوضات ورئيس اللجنة الدستورية ورئيس الحكومة السورية المؤقتة، ولم تخلص مخرجات المؤتمر عن شيء بخصوص بنية الائتلاف أو الحكومة المؤقتة أو اللجنة الدستورية، واكتفى منسقوه بإفراغ جعبة بعض المجتمعين من الانتقادات اللاذعة في جلسة مغلقة، نخلص أن ما سُرّب من اجتماع الائتلاف المعارضة، قُبيل اجتماع الدوحة، مع ممثلي الخارجية التركية صحيح بحرفيّته، وأن كل أفعال المعارضة ومعارضة المعارضة مبرمجة دولياً، وأنه لا صقور ولا حمائم في قوس قزح المعارضة السورية، وأنهم دجاج ليس إلا.
الثانية ضرورة الانتباه إلى العطب في بنية وآلية تفكير المؤسسة الدينية، وأنها لم تنهض بالأعباء الجسيمة بقدر ما انساقت إلى مطامح واهمة لا تختلف كثيراً في جوهرها بين التيارات الدينية المتباينة، حتى أنها لم تأخذ دورها على الأرض لتحقيق أحلامها تلك، وعلى القائمين على تلك المؤسسات أنفسهم الانتباه إلى ضرورة التفكير بشكل مختلف في تكوين الهوية السورية، فهم جزء منها لا هيئة تشريعية وحيدة لها، ويخضعون للمساءلة والعقاب مثلهم مثل حملة السلاح ومثل السياسيين، وارتهانهم لجهات أخرى مضر بالمصلحة الوطنية أكثر من غيرهم، ولعلهم سيواجهون انتقادات أكبر ومواقف أكثر جذرية إذا لم يستطيعوا، في الوقت القريب، التأسيس لعلاقات تشاركية وتفاعلية بينهم وبين الآخر السوري.
الثالثة، بالإضافة للمصائب الثلاث التي منيت بها الثورة السورية: العسكر – السياسيون – رجال الدين، فقد منيت أيضاً بأسوأ الحلفاء، ورغم أنهم لا يتساوون بالسوء إلا أنه لم يعد من المقبول أن يتحاذق السياسيون على المنكوبين من أبناء شعبهم بأوصاف مثل: (موقف ثابت – حققنا غايتنا – لقاء مثمر ..إلخ)، فقد صارت كذبة العالم عليهم أكثر من أن تغطى، لا الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن ولا أمريكا ولا الغرب ولا أي من الاصدقاء قام بخطوات جدية لإسقاط النظام ولا حتى لإعفاء الشعب السوري من فاتورة مجانية من ملايين الضحايا، بل على النقيض من ذلك فقد غالوا في الإيهام وكأنهم شركاء في المجزرة، ورغم ذلك ما زال انخداع السياسيين أو خداعهم لنا مستمراً!
الرابعة، أنه من الصعب الآن البحث عن معالم الثورة في الواقع الموبوء بأمراء الحرب والسياسيين الفاسدين والبنى الأهلية والمحلية الطفيلية ورجال الدين المنتفعين والواهمين، ولا يعني هذا أن كل شيء قد انتهي، وأن كل شيء ذهب سدى، لأن حركة الزمن مستمرة ومنطقه بالتغير ثابت، لكن الذي يجب أن يتغير معه هو نحن، بحساسيتنا لتعريف الـ نحن، والعودة إلى الدوافع الأولى للثورة ونبش جوهرها واكتشاف العلاقة فيما بيننا على هذه الأسس، بعيداً عن الانقسامات الحالية، وبعيداً عما رسخته إحدى عشرة سنة من مفاهيم ومواقف مغلوطة شاركت في آثامها وسائل إعلامية كان من المفترض انها ثورية.
من المؤسف أن يكون الوقوف أمام الذكرى 11، بما يحويه هذا الرقم من انتصاب، رخواً وعقيماً كخصوبة العُجُز، حتى تُفقد الرغبة بالوصف كأضعف الإيمان، ولا ينقطع الأمل إلا إذا لم نجد أي خيط يربطنا ببعض، في شمالي سورية وجنوبها وشرقها وغربها ووسطها، وحين لا نملك عمق هذه البلاد التاريخي والثقافي فهذا يعني أننا لسنا من صلبها وأن على سورية السلام.