سوزان خواتمي
روائية سورية
مجلة أوراق العدد 12
قصص
لم أكن دقيقاً في مواعيدي كالذين يحاسبون أنفسهم إذا ما حدث وتأخروا.
مهرولاً كنت أشق طريقي في عتمة خفيفة بين ظلال رمادية حتى انقطعت أنفاسي. ألهث في سباق غير منصف مع عقارب الساعة، كما لو أني تأخرت عن..!
عن ماذا..؟
لا أذكر، ولكنني أبدو مستعجلاً. ليست عادتي، فأنا أتلكأ. أهدر الوقت، ثم… أستميت في الوصول، وهذا ما يجعلني ضائعاً بين فريقين: الملتزمون بلا هدف، والمتأخرون بلا سبب.
كان بيني وبين الوصول دقائق فحسب حين ارتطمتُ به كتفاً بكتف. الظلام ابتلع جزءاً من ملامحه. تبينتُ على نحو خاطف لحيته الكثة وبيجامته الرياضية ماركة أديداس. لم أكن متأكداً. اعتذرتُ “آسف”
ناولته عداد السرعة الذي سقط من يده، لوهلة بدا لي من ذلك النوع الذي يحسب خطواته، ربما كان رياضياً محترفاً. منحني ابتسامة نضرة أشرق بها وجهه. لون التراب في عمق عينيه عقد لساني. كان عجوزاً وشاباً في الوقت ذاته. لا أدري إن كان لذلك تفسيراً..! شيئاً فشيئاً اتضحت ملامحه؛ وسيمٌ بعينين صغيرتين ثاقبتين، وتغضنات تحيط حواف ابتسامته. أطال النظر، فارتجفت.
عرفته. اعتاد أن يظهر على نحو مفاجئ ومتكرر، محتفظاً بصمت وقور وكلمة قاطعة لا تُرد، يكفي أن يمد يده ليلتقطنا فرادى أو جماعات. لم يتراجع مرة عن نفخ الهواء البارد في وجوهنا. أينما حلّ، فثمة حزن مديد، وثقب في القلب.
أول ما تبادر إلى ذهني أن أطلق ساقيّ تسابق الريح، فالهريبة غنيمة، لكن أية فائدة ترجى من قدمين تسمرتا بصمغ غير مرئي. فقدتُ قدرتي على الابتعاد عنه ولو خطوة. ماذا لو ابتعد هو!
أردت أن أرجوه.. أن أتوسل إليه.
وجيب خافت في صدري كان أعلى من صوتي. الخوف لبد بيننا، ورائحة حريرية تفوح منه تسلبني إرادتي. مد يده مصافحاً، امتقعت وترددت، في النهاية عليه ألا يتوقع أن أضع يدي في كفه بهذه البساطة، إن فعلت سيسحبني إلى عالم لم يرجع منه أحد، لا.. لا لن يحدث ذلك، فأنا ما زلت في ريعان شبابي، والتقاؤنا ليس إلا محض صدفة يمكنني تلافيها.
أخيراً، نطقت في محاولة لتشتيت ذهنه:
–لا تشبهُ الموت.
-وهل للموت شكل؟
-لا أعرف، إلا أن هيئتك لا توحي …
-إذن أنت ممن يصدقون الإشاعات.
الاستدلال يؤدي إلى النتائج – ها أنا أتفلسف في موقفي الحرج دون داع-
– أنت تفطر قلوبنا حين تقبض أرواح من نحبهم، لهذا اعذر تصوراتي السيئة عنك.
شيء من التأدب لا يضر- قلت لنفسي.
قال وهو يسترجع يده التي ظلت تتأرجح في الفراغ بيننا طوال ذلك الوقت:
– لا تخف مني يا فتى. الحياة هي المخيفة، وأنا أقوم بواجبي ليس إلا.
– لكني مستعجل وعليّ الوصول، أرجوك.
لم أكن بحاجة للرجاء، فالرجل بدا مسالماً. ابتسم ابتسامة عريضة حتى بانت أضراسه.
- – اذهب. لكنك ستندم.
ربت كتفي بلطف، وقطع لي عهداً بأنه لن يقترب مني حتى أدعوه.
– وهل سأدعوه؟ قلت لنفسي.
ما الذي جاء به إليّ، أم أنني الذي ارتميت في دربه..!
لديّ خطط مؤجلة بعدد شعر رأسي وعليّ إنجازها، وأمامي حياة طيبة لأعيشها، فأنا أحب نادية التي تبادلني الحب أضعافاً مضاعفة -هكذا أظن- كنت قد وعدتها بأن نتزوج يوماً ما دون تحديد موعد أتورط بتنفيذه، فمازلت مولعاً بحريتي، والوقت ما زال مبكراً لأدفن في حفرة سيئة التهوية. تزعجني الأماكن الضيقة، وأنا أشتهي المزيد من قبلات نادية المسروقة، وصندويشات الشاورما التي لا أشبع منهما، وهناك قميصي الأزرق المكوي جيداً استعداداً لمناسبة طارئة، ومجموعة الأغاني الممغنطة التي أحب سماعها قبل أن أنام، كما أن أوراقي جاهزة فور أن تفتح الحدود في وجه السوريين، سأحصل على الفيزا وأسافر للعمل في دبي، يقال عنها أنها نبع فلوس لا ينضب.
أريد أن أسبح مع الدلافين، وأن أحضر حفل باليه لأتلمى بأقدام تمشي على أطراف أصابعها، وأن أجلس في مقعد متقدم أمام كونشرتو لفرقة عالمية على أقل تقدير، لا يمكن أن أموت بهذه البساطة وأنا لم أتعد العشرينات. جدي توفي بعد أن دخن آلاف علب السجائر، واحتفل بميلاد كل أحفاده، ثم مات مطمئناً على ذريته.
*****
– كان كابوساً يا صديقي. استيقظت والعرق يتصبب من كل قطعة من جسمي. وأضفت إمعاناً في خلق تأثير يشد انتباهه: خفت.
– ليس شيئاً جديداً عليكم. أنتم الرماديون بلا موقف خلقتم لتخافوا.
تحاشيت نقاشاً عقيماً، فقلت:
– لا أحب الموت..
رشقني ناصر بنظرة ساخرة، وأجابني بتلقائية: ومن يحبه!
لم أحظ بتعاطفه رغم كابوسي المؤثر، وحالة الرعب التي وصفتها له. تقتلني لا مبالاته.
يقول لي ناصر بأني أسوأ من يروي القصص، إذ عادة ما تتناثر جملي دون ترتيب وتختلط البداية مع النهاية، حتى تفقد تماسكها. كل ما حصلت عليه غيمة من دخان نارجيلته نفثها في وجهي قائلاً: نجوتَ إذن!.
– نعم، بل وأكثر من ذلك؛ أستطيع الآن أن ألقي بنفسي تحت عجلات سيارة دون أن يمسني سوء، فالرجل قطع على نفسه عهداً.
– لا أنصحك بالتجربة.
– أنت لا تصدقني ها..! يا زلمة لقد (زمطت) من بين يديه مثل الشعرة من العجين.
– وما علاقة الموت هنا؟
– الحرب والموت شقيقان، هكذا ببساطة.
-أها!!
رغم صداقتنا منذ أيام الطفولة صارت لقاءاتنا تتناقص دون تعمد، فناصر معارض وأنا كما يصفني من زمرة الرماديين الجبناء، وحين نلتقي تطول بيننا فترات صمت نرتاح إليها، فلا نتشارك إلا بالطاولة التي بيننا، كل منا ينشغل بهاتفه النقال. أحياناً تتطاير كلماتنا مشتتة تعلق في هواء مدينة تفوح منها رائحة البارود.
كأننا كنا نتقصد توفير طاقتنا على الكلام، لتتحول إلى قدرة على الركض كلما سمعنا أزيز الرصاص الذي لا يفرق بين آرائنا أياً تكن.
الحي بأكمله إذا ما أضفنا الشوارع الخلفية والأزقة يبدو فاقداً للوعي، فمنذ اختلط فيه الغرباء وأصحاب البزات العسكرية، والحذر والقلق يطوفان بأرجل خشبية. المنازل أيضاً خائفة، ومصاريع النوافذ العتيقة تُسند رأسها إلى الجدران تترقب الدمار، إن لم يكن من هنا، فمن هناك.. بعد كل برميل متفجرات لا يعترف أحد بمصدره تختلط الجثث متشابكة برؤوس طائرة وأجساد مهروسة.
رن هاتفي النقال، أعرف المتصل دون أن أرى الاسم، انسحبت وأنا أرفع كفي مودعاً ناصر.
أترك المقهى عائداً إلى البيت، فأمي لا يغمض لها جفن قبل أن تترس الباب بكنبة ثقيلة وتحصي رؤوسنا فوق الوسائد. تؤنبني” الشوارع ليست آمنة، يرضى عليك لا تتأخر”.
عشرة أمتار كانت تفصلني عن باب العمارة ونافذة غرفتي، والتعريشة حول إطارها، فوق أسلاك الغسيل لمحت بنطال أختي الصغيرة، وحجاب أمي، وجوارب أبي مثل غربان تصطف الواحد تلو الآخر.. ماءت قطة وركضت أمامي. دوى انفجار.
طرت في الهواء، عندما رفعت رأسي وجدت منزلنا معجوناً كعلبة كرتون، انطلقت زمامير سيارة الاسعاف، خرج الجيران من بيوتهم ببيجاماتهم، آخر ما سمعته عويل وأصوات مختلطة. ينادون بعضهم، يتفقدون أولادهم. حملوني فوق المحفة أنزف. شظية اخترقت عمودي الفقري، وجروح خطيرة في الوجه. يقول الطبيب: لا فائدة.
مقعدٌ ومشوهٌ.. ساكنٌ كجثة تتردد أنفاسها بأسنان مثلمة لا تغري بالقبل. أدركت أني لم أمت.
ربما لو لم ألتق بناصر، أو لو لم أنتظر رنين الهاتف لأنهض، ربما لو أني لم أرتطم به كتفاً بكتف، ربما لو كنت أكثر انتباهاً.. فلم أرجُه.
…..