مصطفى الولي، كاتب وقاص وناقد فلسطيني سوري.
مجلة أوراق – العدد 14
الملف
القصد في الخطاب السياسي السوري هو ماتعلنه القوى والأحزاب والشخصيات المحسوبة على المعارضة من مواقف ورؤى. ولعل الصفة المشتركة للخطاب- الخطابات، هي غياب النقد الذاتي، بشكل عام، ونكران مسؤولية الأطراف عما انتهت إليه الثورة السورية من( هزيمة- فشل- إحباط- إجهاض)، حتى أن تلك الخطابات، في بعض منها، ترفض الإقرار بفشل الثورة، وتكابر في الإصرار على اعتبار أن الثورة باقية ومستمرة.
ما نقرأه أو نسمعه في تلك الخطابات، عموما، حيث لابد من استثناءات، يشف منه “الدفاع الذاتي” وليس “النقد الذاتي”، فيتحول الدفاع هنا إلى إلقاء المسؤولية على الأطراف الأخرى، أو على مجهول لم يتم تسميته أو تحديده، ودائما تحضر في هذه الحالات مقولة “أن للنصر آباء كثر أما الهزيمة فهي يتيمة”. وفي تجذير لهذه المقولة، يتناسب مع خصوصية هزيمة الثورة السورية يمكن القول: “تبدو الهزيمة لقيطة”. هكذا يبدو لكل متابع للطروحات النقدية المندرجة في خطابات الغالبية العظمى من القوى السورية المعارضة.
لا تنطلق الضرورة في إجراء عملية النقد الذاتي للخطاب السياسي السوري، من اعتباره رافعة للعودة بالثورة مباشرة إلى مسارها الصحيح، وإنهاء هزيمتها في الوقت الراهن أو المدى المنظور، إلا أنه- النقد- ضروري طالما التناقضات بين الشعب والسلطة لازالت موجودة، وإن اتخذ التعبير عنها مظاهر مختلفة عن المرحلة السابقة.
كما أن سوريا، بكامل موجودها البشري ومساحتها الجغرافية، أصبحت اليوم محتلة من قوى دولية وإقليمية مما يغير من طبيعة المهام الملقاة على عاتق القوى التي تعلن تمثيلها لمصالح الشعب السوري، ويجعلها أكثر تعقيدا وصعوبة.
بداية تجب الإشارة إلى حقيقة أن القوى السياسية السورية المعارضة، جميعها، تفاجأت بانفجار الثورة في آذار 2011، وحاولت، في أفضل الأحوال أن تتلاقى معها، من خلال مواكبة أحداثها وتطوراتها التي لم تكن واردة في الحسبان “العسكرة، التدخلات الخارجية، وحشية القمع التي مارستها سلطة الأسد”. لكن درجة التلاقي والالتحام، بين الشارع الثائر وبين القيادات السياسية، لم تصل إلى ولادة قيادة سياسية معبرة عن الشارع وقادرة على توجيه فعالياته وقيادة حركته في صراع مرير ومعقد بمواجهة سلطة متمرسة في القمع، ولها أدواتها الأمنية والسياسية، التي تأسست منذ 1970، وتجددت في حزيران من العام 2000 بعد موت مؤسسها حافظ أسد.
في حينه سارع عدد من الأحزاب والقوى لتشكيل مراكز مرجعية للتعبير عن الحاجة للتغيير. أبرز إطارين كانا “هيئة التنسيق” و”المجلس الوطني” الذي تحول لاحقاإلىي “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والعارضة”.
الأول أراد التغيير بالإصلاح التدريجي، والثاني أراد الإطاحة بالسلطة القائمة. ولم يكن الخلاف بينهما في لحظة تشكلهما يدور حول العسكرة والسلمية، لاحقا برز هذا الخلاف مع تصاعد عمليات الفصائل المسلحة التي أعلنت ضرورة الدفاع عن الشعب والرد على القمع وإسقاط السلطة بقوة السلاح.
الطرفان كانا يتوهمان، كل بتحقيق هدفه وبأدواته. وتبين أن غياب المعرفة للأبعاد الإقليمية والدولية كان مشتركا بينهما. ظنّ الأول أن موسكو ستلوي ذراع السلطة، وتفرض عليها تقديم تنازلات إصلاحية، وتوهم الثاني أن دول الخليج وأميركا وتركيا سيقومون بدور مباشر في تخليص سوريا من سلطة الاستبداد.
في هذه الأثناء، أخذت الهوة تتعمق بين فئات الشعب، وبين القوى التي تعلن نفسها قيادة للمعارضة، واستثمرت هذا الواقع القوى الأصولية “الإسلام السياسي”، وراحت توجه مسارات الصراع بعيدا عن الأهداف التي سعت لها الثورة في القضاء على الاستبداد، وأسست لاستبداد جديد، يحمل الظلامية ويقضي على التطور الديمقراطي المنشود للشعب السوري. وكان أن قوَضت قوى الإسلام السياسي أفق أي بناء جديد للمجتمع السوري، وعمّقت حالة الانقسام العامودي بين فئات الشعب. واللافت أن القوى “العلمانية- والديمقراطية” داخل الائتلاف الوطني لم تقم كما يجب بوضع حد لدور قوى الإسلام السياسي، بل سايرتها وترددت في نقدها، و لم تتمكن من إعادة صياغة العلاقة معها وفق أسس تغلق الطريق عليها وتضع حداً لهيمنتها على “الفضاء السياسي” لقوى المعارضة.
إن الإقرار الجريء والحاسم بهزيمة الثورة السورية، رغم عظمتها وتضحيات أبناء الشعب السوري العظيم خلال عقد كامل من الزمن، يجب أن يشكل نقطة الانطلاق في النقد الذاتي الذي تحتاجه المعارضة بتعبيراتها كافة. من اليسير أن يُقدِم طرف ما على نقد السياسة العامة للتشكيلات المعارضة، ومثل هذا النقد العمومي يمكن أن يحيل إلى “دفاع ذاتي” من هذا التيار أو سواه إن لم يبدأ من نقد الذات الحزبية المتعينة. فالمطلوب نقداً ذاتياً لا يراوغ أو يتغطى بالأزمة الشاملة ليبرئ “ذاته” وهو ما يتحول إلى مشجب لتعليق أزمته الذاتية عليه.
في دعوتنا للنقد لا نقصد إقصاء طرف ليكون كبش فداء يتحمل مسؤولية هزيمة الثورة. الجميع مسؤول عن مآلات الوضع الثوري الذي لا يمكن تجاهل ما لحق به من إحباط وتفكك وانقسامات. غير أن درجة المسؤولية لا توزَع بالتساوي بين الأطراف داخل الائتلاف، وفي إطارات المعارضات الأخرى، على صغر حجمها وتأثيرها. ولأن الغرض من المراجعة النقدية الصريحة والواضحة والمعلنة، لا ينطلق- أو يجب- أن لا ينطلق من تصفية حسابات تنظيمية أو أيديولوجية، بقدر ما يتأسس افتراضاً على إخراج المعارضة، وعبرها ومعها، الواقع الشعبي الذي لحقت به كوارث على كل المستويات، من أزمته الشاملة والمقيمة، فيصبح الإقدام عليه وممارسته هو المقياس لجاهزية الأطراف وامتلاكها المؤهلات اللازمة للتصدي لدورها في المرحلة الجديدة، فأوضاع سوريا اليوم ليست هي ذات الأوضاع في 2011 وحتى 2018، والمهام الواجب الاستعداد لها مختلفة عن مهام المرحلة الأولى لانطلاق الثورة.
لقد قيل الكثير عن سوريا التعددية والمدنية والديمقراطية، ولتجسيد مصداقية هذا الكلام، يجب أن تكون علاقات قوى المعارضة البينية، وداخل كل طرف، قائمة على قبول التعدد والمدنية والديمقراطية، هذا إذا أرادت أن تحفظ مكانتها المناسبة في التعبير عن حركة الشعب السوري في المرحلة الراهنة والمقبلة.
ومن الضروري أيضاً أن يتضمن الدستور المقترح لسوريا الجديدة، سوريا كدولة مواطنة حقيقية، صمامات الأمان لقطع الطريق على محاولات الانقضاض على الدستور، أو على بنوده الأساسية، كما حصل في مصر وتونس بشكل جلي وواضح. وفي هذا المجال ليس القصد قطع الطريق على اتجاه بذاته، فكما أن قوى الإسلام السياسي تلعب في هذا الحقل، فقوى أخرى، لسبب أو آخر، وبذرائع يمكن استخدامها، ليست محصنة من العقلية الاستئصالية والإقصائية.
وفي موضوع التعددية والتنوع لا تتحدد الأمور بالقوى السياسية، فالتنوع والتعددية تحيل أيضاً إلى حقوق المواطنة المتساوية بعيدا عن التمايز القومي والإثني والديني والمذهبي. وهذه القضايا لا يتم الركون فيها إلى الاتفاقات بين القوى السياسية، ولا إلى النوايا المعلنة من القيادات الحزبية. الضمانة في ذلك تأتي من قواعد ثابتة للدستور، لا يجوز المساس بها أو تعديلها، وهو ما يصطلح عليه “المبادئ فوق الدستورية” أو “القوانين الدستورية الأساسية”، الأمر الذي تحتاجه سوريا المستقبل، وتلتزم به القوى الساعية لبناء الدولة السورية الجديدة، بعد تخليص البلد من سلطة الاستبداد.
على ما تقدم، فإن المراجعة النقدية الجذرية للوقوف على أسباب الفشل الذي لحق بالثورة السورية، لا تتوقف على نقد الماضي، فهي مراجعة تتوخى التأسيس الجديد للحركة السياسية السورية الديمقراطية، بما تستوجبه رؤاها وأفكارها وطروحاتها من مقومات تضمن تطور الحياة للفعل السياسي السوري الديمقراطي. ومنه يصبح جَسر الهوة بين الشعب والحركة السياسية أمراً ممكنا، وتتراجع محاولات الاحتكار السياسي للفضاء العام في المجتمع. ولأن المشكلات هي جزء من طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية، يصبح تدارك تفاقمها وتطاولها لتتحول إلى أزمة، رهناً بطبيعة القوى السياسية وعلاقاتها ومواثيقها واتفاقاتها.
فليكن البحث عن تجاوز أزمة المعارضة السياسية، على محورين. نقد التجربة الماضية والقائمة حتى اليوم، وصياغة الرؤى والأفكار لمواكبة المرحلة الجديدة. وأولاً وقبل كل شيء: الإقرار بهزيمة الثورة أو، للتخفيف من وقع المفردات، فشلها.
ومن غير المعقول أن تكون الهزيمة “لقيطة”.