«أرجوك، أجلس فوق غطاء المرحاض. لا تحسب أني أجبرك. إني فقط أظنك سترتاح أكثر عليه، أنا أيضا سأجلب مقعدا وأضعه بجوار الباب، سأقص عليك أمرا ما. لا تُزَمجِر. سيسوءك هذا الحال، ولن تكتسب شيئا، وربما قد يرتفع ضغطك. أقسم لك.. سبق أن حدث هذا لي. هناك حكاية.. حكاية ما سأقصها عليك وأرغب في البوح بها. أرجوك، تأدب واصمت. إهدأ، توقف عن الضرب على الباب كأبله وأنصت بهدوء… أنا أعرف ما أقوله. كبار السن هم نبع المعرفة. قد يبدو لكم – وأتحدث عن معشر الشباب- أنه لا يمكن تعلُّم شيء من عجوزٍ في مثل سني. ثلاثة وتسعون عاما وعلى مشارف أربعةٍ وتسعين. عمر طويل.. أليس كذلك؟». (الرواية)
في تجربة جديدة؛ وبطرح مغاير لما هو معهود من نصوص سردية، يطالعنا الروائي الأرجنتيني فيديريكو جانمير بروايته «أخف من الهواء» ـ حصلت على جائزة كلارين للرواية سنة 2009، وترجمها محمد الفولي، وصدرت عن دار مسعى 2019 ـ مانحا سلطة كاملة للبطلة العجوز/ الساردة لنسج خيوط الرواية، وإدارة دفة أحداثها، سيجد القارئ نفسه -لا محالة – واقعا في شراك نسيجها العنكبوتي منذ الوهلة الأولى، ليعيش مع العجوز المسنة حياتها، معاناتها وآلامها، هواجسها، وعلاقتها العاطفية، وأفكارها.
الرؤية الفنية
من خلال المقطع الافتتاحي للرواية، نكتشف لاحقا أنه جزء من ثيمة النص وفكرته. فقد جسدت الرواية صراعا محتدما غير متكافئ إطلاقا، أدارته الساردة/العجوز ببراعة تامة، فبعدما حاول شاب يافع اعتراض سبيلها للسطو عليها، ينتهي به المطاف محتجزا في حمام، بعدما أوهمته بوجود المال هناك. ليجد نفسه مرغما على سماع حكايتها المثخنة بالمآسي والخذلان والحرية، حكاية ظلت حبيسة النفس أمدا طويلا، فكما تقول الثقة الزائدة تؤدي إلى سقوط السارق، فما على المراهق إذن سوى الاستماع إليها مرغما. فالمنطلق والمنتهى في الرواية هو الحمام، اللهم إلا مع بعض التحركات داخل المنزل. فمحدودية الأماكن والشخصيات، تعود لكون الرواية تعتمد بالأساس على صهوة الخيال، فالرواية عبارة عن مونولوغ مثير نجح جامبير في نسج تفاصيله.
تقنيات الكاتبة
لم يراهن جانمبو على تقنية كشف السر في الآخر، وإنما مصدر البراعة يكمن في الانتقالات السلسة بين الأزمنة: الماضي والحاضر. هذه التقاطعات أكسبت السرد دينامية وحيوية. أما عن نبرة الخطاب، فمن خلال المقطع أعلاه وعلى طول الرواية، نجدها تتلون بين استعطاف، وأمر، تارة بصوت هادئ، وأخرى بصوت قوي عال، بحسب نزعات سلوكية متباينة، وكأنها تعتمد آليات المثير والاستجابة. إلى جانب اللعب على وتر التقاطعات الزمانية، نجد هناك حركة تناوبية بين الزمان والمكان، فبينما نحن نتابع ما يحدث في البيت (وهو المكان)، تنتقل بنا الساردة إلى حقب زمانية متفاوتة كتشكيل للإطار التاريخي للحكاية (وهو الزمن). فاحتمال وجود حكاية أخرى أصدق، ما دامت الساردة خاضعة لسلطان الخيال. كما أن هناك خطين متوازيين في الحكاية حكاية الأم التي لم تنقض مع الأم، وإنما استمرت مع العجوز حتى تأتت لها فرصة البوح (المراهق الذي وجد نفسه مرغما على سماع الحكاية كشرط للإفراج عنه). في مشهد انقلابي مبهر بين الضحية والجلاد.
إضافة إلى اعتماد تقنية الحوار غير المباشر، فالصوت الوحيد في الرواية هو صوت العجوز، أما إجابات المراهق فتستنتج من كلامها، الشيء الذي جعل من الساردة/العجوز المتحكمة الوحيدة في مسارات السرد وسراديبه، فالقارئ، لا يتعرف إلى الشخصيات إلا ما تحكيه العجوز، هذه الطريقة زادت من حيوية السرد وعنفوانه، مع توسيع هامش التأويلات لدى القارئ لملء الفراغات لتخمين الدوافع والأسباب المسكوت عنها.
دهاليز المضمر
في الرواية روح تحاول الانسلاخ من آثار وبقايا وأفكار وطقوس وتقاليد وعادات بالية، خالية من أيّ معرفة حياتية، وهي مازالت متسلطة، ومن جوانب متعددة، المجتمع، الدين، التقاليد، وسلوكيات باتت غير مرغوبة في هذا العصر، ويجب أن تزول، طال أمد السكوت عنها، والرواية بما هي مادة ووسيلة للإيصال الثقافي، تعطي فرصة مواتية للبوح عبر الحكاية بلسان العجوز، ليكون هذا البوح الجارف تتويجا لمسار هذا النص. فسلسلة الانقلابات، التي وسمت الرواية بطابع التمرد، أسهمت بشكل بارز في تشكيل النص المضمر، لينبلج من بين ثناياه، ليوجه العملية السردية ككل، حيث الإدانة الواضحة للموقف من المرأة على وجه التحديد، لتقريب معاناتها بلغة شاعرية تجمع بين البساطة والعمق في آن، لتبيان كيف يتم التعامل معها بقسوة وعنف، هذا التعامل المدان تضرب جذوره في أعماق الماضي (حكاية الأم/ديليتا) مسلسل لم ينقطع مداه هناك، بل ظل مستمرا في نفس العجوز، حيث تتقافز في ذاكرتها صور الظلم والقهر والاغتصاب والفساد الأخلاقي «يبدو لي أنه حتى الرب نفسه في الوضع الحالي لا يستطيع تغيير هذا التعفن الشديد الذي آل إليه العالم. لا بد أن الوقت قد تأخر، فالرب قد فاض به الكيل منذ أمد من هذه الحماقة البشرية».