سوسن جميل حسن
كاتبة وروائية، طبيبة سورية، تقيم في ألمانيا، صدر لها روايات: “حرير الظلام”، دار الحوار، اللاذقية ط1بعة أولى 2009، ط2 2011”. ألف ليلة في ليلة”، الدار العربية للعلوم ـ ناشرون، بيروت 2010. “النباشون”، دار الآداب، بيروت 2012. “قميص الليل”، دار نون، رأس الخيمة – الإمارات العربية المتحدة 2014. “خانات الريح” الهيئة المصرية العامة للكتاب 2017.
أوراق- العدد10
ملف أدب الشباب
عند الحديث عن أدب الشباب لا بدّ من التوقف عند سؤال أساسي يحدّد وجهة أي بحث، هل المقصود بأدب الشباب هو المنجز الإبداعي الذي يقدّمه أدباء في مراحل عمرية معينة تتراوح بين حدّين يمكن اعتبارهما حدّي الشباب؟ أم هو المنجز الأدبي الموجه إلى هذه الفئة العمرية والمنشغل بقضاياها؟ وعلى أي أساس يكون تصنيف الأدب الشبابي؟ هل يمكن اعتبار منجز ما، بعيدٍ عن روح العصر وقضاياه، أدبًا شبابيًا حتى لو قدّم من قبل أدباء شباب؟ وهل يمكن في المقابل أيضًا اعتبار أي عمل إبداعي ينتمي إلى روح العصر منجزًا شبابيًا حتى لو كان صاحبه كبيرًا في السن؟
أخمّن أن الدارس المهتم عليه أن يركّز جلّ اهتمامه على منتج الشباب، خاصة في هذه المرحلة التي تمور بالأحداث الدراماتيكية على مستوى العالم وعلى مستوى المنطقة العربية أيضًا، وما ينجم عنها من تغيّرات متسارعة في كل مجالات الحياة، ومن انهيار للكثير من المنظومات المعرفية والجمالية والقيمية، وأن جيل الشباب هو الأكثر تأثرًا، والأكثر تأثيرًا أيضًا. هذه المهمة موكلة إلى النقد، الذي هو بدوره، بالنسبة إلى منطقتنا، يمكن إخضاعه للنقد والتصنيفات، ولا يمكن عزله عن اللحظة الراهنة مثله، مثل الأدب، وأثره على هذا الحقل من النشاط الضروري من أجل تمتين وترسيخ كل أوجه الإبداع والتجارب الجديدة وأثرها في الثقافة بشكل عام. وهذه المهمة ليست سهلة لما أحدثته المرحلة من فوضى وتداخل في المنابر التي يطرح فيها الأدباء ما يكتبون، خاصة وفرة ما تقدمه الميديا المتعددة من مجالات متاحة للجميع، في كل ميادين وأصناف الإنتاج الأدبي، من شعر وقصة ورواية ومسرح ويوميات وخواطر وحتى ما يشبه أدب الرحلات. وهذا ما يوفّر للدارس والناقد قاعدة بيانات هائلة قد يحتاج لعمل فرق لإنجازها خاصة بعد عصر الرقميات وما قدم للأفراد من وسائل متنوعة للتعبير والمساهمة حتى صارت منبرًا لا يمكن تجاهله أو استثناؤه من الدراسة، وإذا كانت الوسائط التقليدية لنشر الإبداع قد ازداد عددها فهي لا تلبي طموح الوافدين إلى هذا الميدان من مختلف الفئات العمرية، ولها نواظمها الخاصة لإنجاز عملها قد لا تتيح لهذا الكم من رواد الكتابة الإبداعية فرصًا لتقديم منجزاتهم إلى الجمهور، ولكلٍّ مبرراتُه وأدواتُه من دور النشر الخاصة إلى الهيئات العامة التي تعنى بالنشر إلى الصحف والمجلات إلى الأنشطة الثقافية وصولاً إلى الجوائز التشجيعية، إذ لهذه المؤسسات أو الهيئات معاييرها، فهي بالنسبة لدور النشر الخاصة أنشطة اقتصادية استثمارية تتوخى الربح في النهاية، حتى لو كانت تستثمر في الثقافة، وغالبًا ما تخضع لشروط السوق، سوق صناعة الكتب، قليلة جدًا دور النشر صاحبة الرسالة إذا جاز التعبير، لذلك فإن ما تطرح في الأسواق لا يعبّر بالضرورة عن الحالة الإبداعية ومساهمات الشباب بشكل واسع، لأن فرصهم قليلة لديها باعتبار معظمها يفسح مجالاً أوسع للأسماء المكرّسة أو المشهورة. أما بالنسبة للهيئات العامة للنشر فهي مجال من المجالات العديدة المصابة بالترهل وتحكمها، ليس فقط البيروقراطية، بل أمزجة القائمين عليها، وتخضع كما غيرها من مؤسسات القطاع العام لآليات الإنتاج والإدارة في أنظمة حكم غضت الطرف عن الفساد إن لم تشجعه، وأبقت على عين الرقيب ساهرة لتصادر الرأي والتعبير وتحاصر الإبداع. أمّا بالنسبة للصحف والمواقع الإلكترونية والمجلات الثقافية فإن وصول الأسماء المغمورة إليها يعتبر عملية شاقة أيضًا، بالرغم من أنه يمكن اعتبارها منصة هامة للغاية في الوصول إلى القارئ والناقد في الوقت نفسه، وهذا أكثر ما تحتاجه العملية الإبداعية، فنشر قصيدة أو قصة قصيرة أو أي نص إبداعي آخر تتسع صفحات المجلات له أو الصفحات الثقافية للجرائد وملاحقها أو المواقع الإلكترونية يتيح مجالاً واسعًا أمامها للوصول إلى أكبر شريحة من القراء، أكثر من قدرة الكتاب المنشور على الوصول، ومع هذا نرى أن الفرص أمام إبداع الشباب تبقى قليلة.
يقول رولان بارت: في الحداثة تنفجر الطاقات الكامنة، وتتحرر شهوات الإبداع في الثورة المعرفية مولّدة، في سرعة مذهلة وكثافة مدهشة، أفكارًا جديدة وأشكالاً غير مألوفة، وتكوينات غريبة وأقنعة عجيبة، فيقف بعض الناس منبهرًا بها، ويقف بعضهم الآخر خائفًا منها، هذا الطوفان المعرفي يولّد خصوبة لا مثيل لها، ولكنه يُغرق أيضًا. فهل يصحّ القول عن اللحظة الراهنة بكل ما تحمل من متناقضات؟ الثورة المعرفية المعاصرة هي نتاج الثورة الرقمية وما نجم عنها من عولمة للعالم دفعت بالكثير من الشعوب غضة العود إلى ركوب أمواج محيط شرس كان مصير بعضها الغرق لعدم قدرتها ركوب الأمواج او مقارعتها، ومن بين الشعوب التي ساهمت الثورة الرقمية والانفتاح في دفعها إلى الثورة على واقعها، الشعوب العربية، وما كان من احتجاجات منحت العقد الأخير عنوانه الحارق، مقارعة استبداد وتدمير أوطان وتقسيم وحروب ومدّ ديني متطرف ومصادرة الحريات والمصائر وتهجير ولجوء وانسداد الأفق، وجد الشباب العربي نفسه أمام معضلات شبه مستحيلة، خاصة بالنسبة للشباب السوري، فما عاشه ويعيشه السوريون يتسم بإيقاع سريع وفوضى رهيبة وعنف غير مسبوق، وتحطيم لليقينيات، نجم عنه متغيرات سريعة على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، مما يجعل الصدمة كبيرة ومحاولة التحرر منها ومواجهتها جمعيًّا أمرًا شبه مستحيل، خاصة بعد فشل ما سمي بالربيع العربي، والنتائج الكارثية التي نجمت عن حرف الثورات، التي كان شعلتها الأولى شبابية، عن مسارها وأهدافها وانزلاق البلاد إلى الحروب البينية وتدخل قوى خارجية وما نجم عن ذلك من تقسيم ومناطق نفوذ واحتلالات وتهجير، وضياع الأهداف. لذلك فإن متابعة ما يكتب السوريون، خاصة من هم في عمر الشباب، قد تخطّى التجارب الجماعية وراح يعبّر عن نفسه بالتجارب الموغلة في ذاتيتها، وهذا مؤشّر كبير على أثر الأحداث العاصفة في الوعي وفتح قنوات مع الذات لخلق وعي جديد بها، على حساب اضمحلال وتراجع القضايا الكبرى والإيديولوجيات.
في إحدى المرات دخلت متجرًا صغيرًا للمواد الاستهلاكية في برلين، من لكنتي الألمانية سأني الشاب البائع: أنت من أين؟ أخبرته بأنني سورية. تهللت أساريره وأخبرني أنه سوري أيضًا وصل إلى ألمانيا خلال رحلة لجوء استغرقت أربع سنوات من عمره بين تركيا واليونان وألمانيا. أخبرني أنه يجيد اللغات وقد تعلم التركية واليونانية والألمانية خلال تلك الفترة، طلب مني طلبًا مثيرًا فقط لمجرد كوني سورية، قال لي: خالة، منشان الله، تحت إيدك شي بنت سورية مناسبة حتى أخطبها؟ بدي أتزوج، الحمد لله مو ناقصني شي، عندي دخل بشتغل كل النهار، وعندي سكن. دار حديث بيننا عن الارتباط وتخلله سؤال لماذا لا يرتبط بفتاة ألمانية؟ فهو شاب وقادر على الاندماج في المحيط الجديد خاصة انه يجيد اللغة، فكان رده أنه يفهم الاندماج من وجهة نظره الخاصة فهو لا يتخلى عن هويته، سألته عن الهوية وكيف يفهمها فقال لي: أنا لا آكل لحم الخنزير ولا أشرب الكحول ولا أستطيع ان أقبل بفرض أمور كهذه علي، قلت له لا أحد يفرض عليك وفي المقابل عليك أن تقبل بقناعات الآخرين. وبعد تشعب الحديث أكثر عبّر لي بحزن وصراحة أنه لا يستطيع العيش بطريقة حميمة في علاقة من هذا النوع مع شريكة لا يفكر بلغتها أو يحلم بلغتها، قال لي أريد فتاة نتحادث معًا بلغتنا، أناجيها في لحظاتي الحميمة بلغتنا، أنا أشعر بوحدة قاتلة وأكثر ما أحتاج هي تلك الفتاة. هذا الموقف جزء من مواقف كثيرة تعبّر عن معاناة الشباب السوري في المنفى، فالثقافة منفى واللغة منفى، والمنفى يحتاج إلى لغة يعبّر بواسطتها عن ذرواته الوجدانية، لذلك يمكن فهم ازدياد الإقبال على الشعر بعد سنوات الجحيم السوري، خاصة للشباب في الخارج، في دول اللجوء، تتراوح معاناتهم بين منفى وآخر، وملجأ وآخر، فسكان المخيمات في دول اللجوء غير سكان الدول الأخرى التي منحت اللاجئ مأوى ودخلاً يكفيه للعيش وضمانًا صحيًا ووفرت له سبل التعلّم والتعليم لأجل فرص العمل، حتى الشباب في الداخل السوري لهم منفاهم غير المرتبط بمفهوم المنفى المكاني أو الجغرافي.
لا بدّ من متابعة مواقع التواصل الاجتماعي، كمنبر موازٍ للمنابر التقليدية، فهي تغصّ بمساهمات شبابية، قليل منها استطاع أصحابها الوصول إلى عالم النشر وقدّم أعمالاً أدبية، والكثير لا يتوفر بين يديه أي إمكانية أو فرصة لطرح ما تجود به قريحته الأدبية غير هذه المواقع والمجموعات التي تتشكل تحت عناوين عديدة ومتنوعة كلها تهتم بالأدب ومتخصصة بفروعه، فهناك عدد كبير من المجموعات المختصة بالرواية، ومثلها مختصة بالشعر، وهناك مجموعات تختص بالنقد، إلى جانب بقية فروع الإبداع الفني والثقافي والفكري وغيرها. ما يمكن ملاحظته، عدا الإقبال الواسع على الرواية باعتبارها منتج العصر الأدبي الأكثر رواجًا، لكن أيضًا يمكن ملاحظة الإقبال الكثيف على الشعر، بعدما تم تراجعه في العقود الأخيرة لصالح الرواية، كذلك القصة القصيرة.
شأن الأدب أن يخوض كفاحًا مستمرًا في سبيل الحرية، وهذا ما كان في زمن الاستبداد عندما كان الطغاة يغلقون أبواب الثقافة بقبضات من حديد ويسجنون الفكر في أقفاص لا ترحم في محاولة لترويض الخيال وخنق الأسئلة. لكن هل يبقى السؤال على حاله بعد اندلاع الثورات ومآلاتها الراهنة؟ لقد صارت المعارك أشرس، فلم تعد تقتصر على مقارعة الاستبداد السياسي بشكل خاص كما كان قبل الثورة، وإنما في مقارعة أشكال عديدة من الاستبداد بعضها أعتى من الاستبداد السياسي مما أوصل الشباب إلى قاع سحيق من الخيبة والهزيمة، لتأتي المنافي بكل أنواعها وتضعهم في مواجهة أسئلة وجودية مع ازدياد تحطم اليقينيات امام هول الراهن.
ويبقى السؤال الذي يطرح باستمرار: هل من الممكن أن تخرج أعمال إبداعية هامة ولافتة في ظل أوضاع خطيرة وتحولات مربكة؟ يمكن أن يترك الجواب للزمن وتراكم التجارب الإبداعية، لأن الأقلام يزداد نزيفها مع تدفق شلالات الدم، وفي هذه الظروف العاتية وما يتأجج من استعار في المشاعر والعواطف من الطبيعي أن يكون هناك انحدار ثقافي بقدر معين، فهذا شأن الثورات التي لم تكن على طول تاريخها “معقمة” كما لو كانت منتجًا مخبريًا، والبراهين متوفرة لمن يريد أن يطلع ويقارن، فبعد الثورة الفرنسية التي نجم عنها حروب كان هناك انحدار ثقافي لكن الثقافة نهضت مرة أخرى وتشكلت تيارات حديثة وازدهرت الحركة النقدية. يمكن القول إن الثورة أثناء نشاطها يمكن أن تنتج أدبًا ثائرًا يشبه الثورة في فورانها وفوضاها وصخبها، لكن ليس بالضرورة “أدب الثورة” المرجو، فهذه الثورة التي تبدو أنها تسير إلى المجهول تخلق في كل يوم واقعًا جديدًا ومجتمعات جديدة وثقافة بديلة.
أمام الدارس كمّ هائل من المساهمات والمنتج الأدبي الشبابي، كثير منه على مواقع التواصل الاجتماعي وفي المدونات الإلكترونية، خاصة الشعر الذي يحمل دائمًا بواكير التغيير في الأدب، ليس فقط التجديد، وإنما التغيير بما تحمل الكلمة من معنى، فمنه ومعه تنطلق المفردات وتعيد ترتيب أماكنها في مراتع اللغة، وهو الأسرع إلى التفاعل والانفعال بالحدث وراهنيته، ومن خلال تراكماته الكمية يمكن استخلاص ملامح الأدب المواكب للعصر، عصر العالم بشكل عام، والعصر العربي والسوري منه تحديدًا بشكل خاص. وفي هذا المجال أتمنى على الهيئات الضالعة بمسؤولية النشر، الخاصة أو العامة، أن تلتفت إلى أدب الشباب، والشعر منه تحديدًا، صونًا للمواهب الإبداعية الواعدة، وحماية لها من الانزلاق إلى المجموعات التي تروّج للرداءة بكل ما تعنيه الكلمة، ولها متابعوها ومريدوها، والتي تنشر الأدب، والشعر منه أكثر من غيره، من دون مراعاة الحد الدنى من المعايير اللغوية والنحوية والثقافية والشعرية، وهي تعقد الندوات مستفيدة من خدمة البث التي تقدمها المنصات وتمنح جوائز تقديرية، من دون مراعاة الحد الدنى من النقد، وهذا ما يساعد في ضياع المواهب الحقيقية وتبديد التجارب الواعدة وترويج الرداءة.