أنور بدر
رئيس التحرير
افتتاحية العدد:
“أقوى من النصرِ المبينِ هزيمةٌ
لا شيء يُحزِنُ بعدها أو يُفرِحُ”
أحمد إبراهيم عبدالله
صادف شهر حزيران/ يونيو 2022، مرور 55 سنة على احتلال إسرائيل للجولان السوري إثر هزيمة 1967، التي مازلنا نعيش على وقع ارتداداتها حتى الآن، باعتبارها شكّلت، وما زالت تشكّل رافعة لتبرير وحماية الاستبداد الأسدي خلال تلك السنوات الطويلة، كما كانت إحدى منتجاته أيضاً، والتي كُتب فيها الكثير خلال تلك السنوات الطويلة، دون أن نستغرق دلالات هذا الحدث ونتائجه، طالما لم نتمكن- رغم انتفاضة السوريين/ ثورتهم- من تجاوز هذه الهزيمة، ومحاسبة المسؤولين عنها، إن لم نقل إنّها تجذّرت في سلوكنا ووعينا الذي يُعيد انتاج الهزيمة تلوى الهزيمة.
تَبنى مسؤولو السلطة وقيادات حزب البعث باستثناءات قليلة سنمرّ على بعضها لاحقا، سردية انتصار النظام، وبالتالي ليس وزير الدفاع حافظ أسد من يتحمل وزر هذه الهزيمة فقط، رغم مسؤوليته المباشرة في انتاجها كما سنرى لاحقا، بل يتحمل حزب البعث وسلطته المستبدة آنذاك مسؤولية خطيرة حين ساهموا بتلفيق ديماغوجيا الانتصار وحماية مكاسب الثورة كما جاء في تعليق إذاعة دمشق: “الحمد لله! لقد استطاعت قواتنا الباسلة حماية مكاسب الثورة أمام الزحف الإسرائيلي، الحمد لله الذي أفسد خطة العدو، وقضى على أهدافه الجهنمية، إنّ إسرائيل لن تُحقق نصراً يُذكر، طالما أنّ حكّام دمشق بخير”! وهو منطق يؤكّد أنّ النظام أهمّ من الأرض، والحكّام أهم من الوطن.
تلكؤ حزب البعث وسلطته المستبدة ككل في محاسبة وزير الدفاع حافظ أسد عن مسؤوليته حول بث البلاغ رقم 66 من إذاعة دمشق صباح العاشر من حزيران/ يونيو 1967، معلناً سقوط مدينة القنيطرة بيد القوات الإسرائيلية، يجعل تلك القيادة شريكة معه في المسؤولية التي يعتبرها بعضهم خيانة أو مؤامرة، إذ اعترف الجميع أن البيان 66 صدر قبل أن يدخل أي إسرائيلي إلى القنيطرة، وقبل أن تخاض فيها أي معركة عسكرية، إضافةً لكونه قرارٌ من وزير الدفاع بمفرده، اتخذ بشكل شخصي دون أيّ علمٍ أو تنسيقٍ مع قيادة الحزب أو الدولة، أو حتى مع رئيس الأركان اللواء أحمد سويدان أو قائد الجبهة في الجولان العقيد أحمد المير، اللذين فوجئا بالجنود وقطعات الجيش التي بدأت انسحابها الكيفي من المعركة.
الدكتور عبد الرحمن الأكتع، وزير الصحة آنذاك، كان الوحيد في القيادة السياسية والحكومة الذي طالب بمحاكمة وزير الدفاع، ليقينه بلا منطقية ما حصل ذلك اليوم، حيث كان يتفقد الوضع داخل المدينة وجاهزية مستشفى القنيطرة تحديداً في يوم 10 حزيران/ يونيو الساعة 11.30 صباحاً لحظة سماعه بلاغ سقوط المدينة قبل أن تتعرض لأي عمليات عسكرية، وهو الأمر الذي يؤكّده سفير سوريا حينها في باريس سامي الجندي في كتابه “كسرة خبز” قائلاً: “فوجئتُ لمّا رأيت على شاشة التلفزيون في باريس مندوبَ سورية في الأمم المتحدة يُعلن سقوط القنيطرة ووصول القوات الإسرائيلية إلى مشارف دمشق، والمندوب الإسرائيلي يؤكّد أن شيئاً من ذلك لم يحصل” ص17، وللتوضيح فالسيد سامي الجندي وزير إعلام سابق في نظام البعث!
تتقاطع هذه الرواية مع رواية الرائد مصطفى خليل بريّز في كتابه “سقوط الجولان”، وبشكل خاص فيما يتعلق بتوقيت إذاعة البلاغ 66، وفيما يتعلق بالانسحاب الكيفي وليس المنظم، وهو ما دفع العسكريين والضباط إلى الفرار من أرض المعركة، متخلّين عن أسلحتهم ورتبهم وشاراتهم العسكرية، مما خَلق حالة هلع وذعر استدعت بالضرورة فرار المدنيين من المنطقة التي لم تكن للحظتها قد سقطت عسكريا.
استقال الوزير الأكتع وهاجر إلى ألمانيا، بينما تمّ اختطاف الرائد بريّز من لبنان بعد صدور كتابه، وحكم عليه بالسجن 15 سنة، دون أن يُخلى سبيله بعد انقضاء هذه المدة، إذ استمرّ قرابة ضعفها حتى وفاته في السجن.
إشكالية الاستبداد البعثي مع هزيمة حزيران أكبر بكثير من جانبها العسكري، وأكبر من قصة بلاغ سقوط القنيطرة رقم 66، فهي هزيمة للنظام العربي المتخلف الذي وقف في وجه الديمقراطية وآليات التنمية الاقتصادية والمجتمعية والسياسية، حين أمّم الحياة السياسية وحكم بقوة قانون الطوارئ ليمنع الحريات العامة والخاصة، ويستبد بالشأن العام ويفسد اقتصاد البلاد، تحت يافطة الخطر الخارجي وصمود الجبهة الداخلية في ضوء سرديات الانتصار، مما أتاح لاحقا لوزير الدفاع حافظ أسد قطف ثمار ذلك في انقلاب 1970، والذي دعاه “الحركة التصحيحية”، ليزجّ بعدها بكل رفاق المرحلة السابقة من قيادات الحزب والدولة في سجن المزة العسكري قرابة ربع قرن من الزمن، ولم يخرج أغلبهم إلا موتى أو مشاريع موت مؤكّد.
كلُّ السرديات التي أتيح لنا أن نسمعها لاحقاً عن خفايا تلك الهزيمة، كانت روايات جاءتْ متأخرة ولم يُفسِح لها النظام المستبد أن تَكتسب مصداقية وفاعلية في الوعي السوري الذي حاصره الاستبداد عموماً، فكيف الأمر مع أجيال عديدة ممن ولدوا بعد تلك الهزيمة، وعاشوا على وقع سرديّات انتصارات الأسد بطل التصحيح والتحرير، بحيث لم يُتح لأغلب السوريين معرفة حقائق ما جرى، وأثر ذلك فيما بعد وحتى الآن، مما يَمنح ملف هذا العدد مع أعمال أخرى أهمية توثيقية كبيرة للمستقبل ولتلك الأجيال، أهمية توثيقية في مواجهة مثقفي الأنظمة ومروّجي سردياتها ومؤدّلجي خطابها.
مع الإشارة إلى الأعمال الهامة لمثقفين سوريين اشتغلوا بجدّ وحفروا عميقا في الذاكرة والوجدان السوريين لنقد الهزيمة والآليات التي أنتجتها، رغم محاولات النظام تَهميش بعضهم وإغفال بعض آخر، وصولاً إلى تصفيّة آخرين كان يتوجس من دورهم كمثقفين. وربما يكون د. صادق جلال العظم أول من انبرى في كتابه “النقد الذاتي بعد الهزيمة” للتصدي لهذا الموضوع عام 1968، محاولا مساءلة البنية الثقافية والسياسية التي انتجت هذه الهزيمة، فيما جاء كتاب ياسين الحافظ “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة” معمقا لهذه الرؤية النقدية التي حاول النظام أن يتجاهلها كلية، بدعوى انتصاره، رغم أنّ إسرائيل وحتى بعد انسحابها من مدينة القنيطرة المهدمة وأربع قرى أخرى في حرب 1973، ما زالت تحتل 1200 كم2 من مساحة سوريا.
لن نملك عبر هذا التقديم رفاهية رصد كل الأعمال الكثيرة في حقل الثقافة الإبداعية التي اشتغلت على نقد الهزيمة، لكن أغلب السوريين يتذكرون حتى الآن ما كتبه نزار قباني من قصائد “هوامش على دفتر النكسة” التي يقول من ضمنها:
أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمة
والكتب القديمة
أنعي لكم..
كلامنا المثقوب، كالأحذية القديمة..
ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمة
أنعي لكم.. أنعي لكم
نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة.
مع أنّ القصيدة الأهم باعتقادي، رغم أنها لم تَحظ بانتشار “هوامش” نزار قباني، كانت قصيدة بدوي الجبل “من وحي الهزيمة”، والتي كاد الشاعر أن يدفع حياته ثمنا لها، بعد اختطافه لثلاثة أيام في مدينته اللاذقية، وتعرضه لضرب مبرح خلالها، ونقتطف من هذه القصيدة الطويلةبعض الأبيات:
جَبُنَ القادةُ الكبارُ وفرّوا …. وبكى للفرارِ جيشٌ جَسورُ
لم يُعانِ الوغى لواءٌ ولا …. عانى فريقٌ أهوالَها ومُشيرُ
رتب صُنعة الدواوين ما .. شارك فيها قرّ الوغى والهجيرُ
هُزِمَ الحاكِمونَ والشّعبُ في … الأصفاد، فالحكمُ وحدَهُ المكسورُ
هزم الحاكمون، لم يحزن الشعب … عليهم ولا انتخى الجمهورُ
يستجيرون! والكريم لدى الغمرة …. يلقى الردى ولا يستجيرُ!
القصائد السابقة نشرت وتبناها كتابها، لكنّ هنالك نصوص كثيرة بقيت غفلاً أو بلا نَسبٍ، نذكر منها قصدية “غنت فيروز مغردة” التي لمْ يَنسبها أيّ شاعر لذاته أو ينشرها ضمن أعماله، فيما نسبتها أغلب المراجع للشاعر نزار قباني، بما فيهم الشاعر مريد البرغوثي الذي كتب ردّاً على الردّ، وقد نَسبها الصديق أحمد فاخوري لشاعر رقّي أو رقّاوي اسمه فيصل عبد الهادي البليبل الذي توفيّ في ثمانينات القرن الماضي، غير أنّ اللواء “غازي أبو عقل” من هيئة تحرير جريدة “الكلب” حينها، وقد شغل منصب مدير إدارة “التوجيه المعنوي” في الجيش السوري، والتي أصبحت لاحقا “الإدارة السياسية”. وظلّ من المتابعين لتفاصيل النشاط الثقافي في سوريا، يؤكّد عكس ما ذهب إليه الجميع، فينسب القصيدة عن علم وليس مجرد تخمين، إلى الشاعر نديم محمد تولد 1908، والذي لم يأخذ شهرة القباني لكنه لا يقل عنه مكانة، حتى أن طه حسين قال عن ديوانه “آلام” في مؤتمر الأدباء العرب في بلودان: “لو لم يكن لهذا الشاعر إلاَّ هذا الديوان فحريٌّ بالشعر العربي أن يضمه إلى فحوله الكبار”.
نقتطف من قصيدة “غنت فيروز مغردة” بعضاً مما جاء فيها:
غنت فيروز مُغـرّدة ً
وجميع الناس لها تسمع ْ
(الآنَ، الآنَ وليس غداً
أجراس العَـودة فلتـُقـرَعْ)
عـفواً فـيروزُ ومعـذرة ً
أجراسُ العَـودة لن تـُقـرع ْ
خازوقٌ دُقَّ بأسـفـلنا
من شَرَم الشيخ إلى سَعسَع ْ.
ومنَ الجـولان إلى يافا
ومن الناقوره إلى ازرَع ْ
خازوقٌ دُقَّ بأسـفلِنا
خازوقٌ دُقَّ ولن يَطلع ْ.
ويضيف أبو عقل في ملف خاص لجريدة “الكلب”، عن الشاعر علي الجندي، أن مدرساً للتاريخ هو أحمد إبراهيم عبدالله وكان مراسلا لجريدة “الكلب” في اللاذقية، كتب في الصباح التالي لذكرى هزيمة حزيران الأولى، بضعة أبيات شعريّة، تحت عنوان “عام الهزيمة”، والتي يضيف أبو عقل أن تلك الأبيات: “وُئدت في مهدها، كما وئدت قصيدة بدوي الجبل الخالدة “من وحي الهزيمة” وقصيدة نديم محمد أيضاً وأيضاً.. فهل ينبغي لي التنويه بكون الشعراء الثلاثة ولدوا في ثلاث قرى من ريف الساحل السوري؟”
تنويه اللواء غازي أبو عقل وهو من منتسبي الكلية الحربية في سوريا 1952، أي الدورة ذاتها التي ضمّت حافظ الأسد ومصطفى طلاس وآخرين، يمكن اعتباره شهادة إضافية حول هزيمة حزيران ومأساة الجولان المستمرة. لكننا بعيدا عن ذلك الاستفهام، ننقل عن أبو عقل المقطع الذي ذكره من قصيدة “عام الهزيمة”، كوننا لم نعثر على أيّ أثر مطبوع لها أو باسم الشاعر أحمد إبراهيم عبدالله:
“قالوا مضى عامُ الهزيمة وانقضى
والشعبُ يرسِفُ في القيود ويرزحُ
فأجبتهُم عامُ الهزيمةِ راسخٌ
أنا لا أحسُ بأنه يَتزحزُح
وبعد أبيات كلها سخرية سوداء يسطع هذا البيت:
أقوى من النصرِ المبينِ هزيمةٌ
لا شيء يُحزِنُ بعدها أو يُفرِحُ”.
وأعتقد أنه لن تستقيم أي كتابة أو استعادة لهزيمة حزيران بعيداً عن مسرحيته “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” لسعد الله ونّوس، التي نُشرت أول مرة عام 1968. وحفرت عميقاً في ذاكرة السوريين، كنص تسجيلي متخم بالواقعية، لكنه كان أيضاً نصاً تجريبياً، سعى لتجاوز الخطابية السياسية باتجاه تسييس المسرح، بمعنى منحه فاعلية نقدية وثقافية في الوعي السوري، إذ أتاح للمشاهدين في الصالة أن يكونوا جزءاً من العرض، ليس كتعليق عليه فقط، بل منحهم فرصة اقتحام المنصة ليؤكّدوا هويتهم وليلعبوا فيها دورهم الذي سلبتهم إياه أنظمة الاستبداد.
وفي حوار متأخّر لونّوس عام 1979 أشار الكاتب إلى دور الهزيمة في تطور أسلوبه المسرحي وعلاقته بالّلغة “حين تقوض بناؤنا الرملي صباح الخامس من حزيران، أخذت تلك العلاقة الإشكالية تتجلى تحت ضوء شرس وكثيف. ويمكن الآن أن أحدد هذه العلاقة بأنها الطموح العسير لأن أكثّف في الكلمة، أي في الكتابة شهادة على انهيارات الواقع وفعلاً نضالياً مباشراً يعبر عن هذا الواقع”.
تأخر عرض المسرحية لثلاث سنوات، حتى تبرع علاء الدين كوكش الذي سبق له وأخرج مسرحية ونوس “الفيل يا ملك الزمان”، فأقدم عام 1971، على إخراج “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” والتي عُرضت في بيروت أولاً، ليشكّل هذا العرض استدعاءً تالياً لها للمشاركة في مهرجان دمشق الثالث للفنون المسرحية في أيار/ مايو من ذات العام. وننقل ما كتبه كوكش عن ذلك العرض لاحقاً: “وقد حققت نجاحا كبيرا في المهرجان وبعده أيضاً، حيث قدمناها في عرض جماهيري لأكثر من (45) يوماً متواصلاً، وكان رقماً قياسياً بالنسبة لعرض مسرحي جاد في سورية”.
لكن ونّوس كان يريد أكثر من ذلك النجاح، أو النجاح بالنسبة له كان يعني نقلة في الوعي وفي الشارع السوري تأخرت كثيراً، فكتب:
“حين عرضت المسرحية بعد منع طويل، كنت قد تهيأت للخيبة، لكن مع هذا كنت أحس مذاق المرارة يتجدد كل مساءٍ في داخلي وينتهي تصفيق الختام. ثم يخرج الناس كما يخرجون من أي عرض مسرحي، يتهامسون، أو يضحكون، أو ينثرون كلمات الإعجاب. ثم ماذا؟ لا شيء آخر. أبداً لا شيء.. لا الصالة انفجرت في مظاهرة ولا هؤلاء الذين يرتقون درجات المسرح ينوون أن يفعلوا شيئاً إذ يلتقطهم هواء الليل البارد عندما يلفظهم الباب إلى الشارع حيث تعشش الهزيمة وتتوالد”.
نعم فسوريا كانت خارج باب المسرح، وفي سوريا كانت ولا زالت، تعشش الهزيمة وتتوالد، وقد رحل سعد الله ونّوس عن عالمنا قبل أن يرى السوريين وقد خرجوا للشوارع في مظاهرات تطالب بالحرية، تأخر انفجار المظاهرات 40 عاماً، لكنّ الانفجار حدثَ، وسنبقى رغم كل الخيبات التالية نردد مقولة سعد الله ونّوس: “إنّنا محكومون بالأمل”.