الثورات بوجدان كاتبها التزام أخلاقي أم شحٌّ إبداعي؟ تساؤلات في النهج الأدبي المعاصر لأكثر مراحل التاريخ العربي تحولاً!

0

أحمد خميس ، كاتب وناقد سوري، يعيش حاليا في ألمانيا، صدر له ثلاث روايات: “خنادق الحبّ”، “قيامة اليتامى” و”مسرح العمى”.

مجلة أوراق- العدد16

أوراق النقد

راودتني جملة أسئلة في الفترة الأخيرة لاسيما وأنّ الأعمال الأدبية التي شرعتُ بقراءتها منذ مدة كانت بمجملها ذات مضمون متشابه بعمومه مختلف بعض الشيء بإيقاعه وعاطفته وسرده، جلُّ هذه النصوص (رواية، قصة، شعر … إلخ) جعلت من الثورات العربية، والسورية على وجه الخصوص ثيمة، وقيمة أساسية لمختلف الإصدارات التي عجّت بها مؤسسات النشر والطباعة. واللافت بالأمر أن ذلك لم يقتصر على الكاتب السوري الذي قد يكتب مدفوعاً بعاطفته، مكلوماً بمأساته ومأساة أهله، بل تجاوزه إلى كُتّاب آخرين من جنسيات عربية مختلفة (عراقيون، أردنيون ومغاربة).

قد يبدو ذلك طبيعياً، سيما وأن المرحلة الحالية هي مرحلة التزام أخلاقي عابر للحدود ولا مجال فيها للحياد أو هذا ما يفترض بها، لكن وبعد أن هرعتُ إلى البحث في كتابات هؤلاء الروائيين أو الشعراء لم أتمكن من استحضار أعمال لهم تناولت بلدانهم وسياسة حكوماتهم فيها وإن وُجد شيء من ذلك فلم يعدو كونه مداعبة قاسية، وعتاب عاشقين، وهذا ما دفعني لطرح الكثير الكثير من الأسئلة … 

فالشاعر، والروائي، والقاص الذي كان يكتب في الحب، والغزل، والتاريخ، وغيرها من هذه القضايا الاجتماعية والذي كان يذهب إلى ما أبعد من ذلك أحياناً فنراه يداهن تارة حزباً، ويتملّق بكلماته حمّالة الأوجه جهةً بعينها أحياناً أخرى، وعلى أفضل تقدير كان يقف غالباً وسط دائرة حيث لا يبتعد كثيراً إن لم يكن يرغب بالاقتراب؛ فجأة وعلى حين غرة نضبت قرائحهم من كل ذاك، وجفّتْ ضروع مخيلاتهم بين طرفة رمش وأختها، فمشقوا أقلامهم، وسرجوا أحصنتهم متأهبين لا لاقتحام معركة، ولا لرد جور، أو إغاثة مستغيث إنما يدفعهم إلى ذلك غرور وجموح شعري روائي يدركه تماماً من يرى في الكتابة شغلاً. قد لا أبدو منصفاً إذ أطرح طرحاً كهذا!!

وقد يقول قائل إذاً: ما المعنى الذي تسعى إليه الفنون والآداب إن لم تكن صرخة الناس المتعبة، ودمعة المظلومين الحارة!!

“لدي حلم” كلمتان فقط قالهما مارتن لوثر غيرتا الكثير في شكل الحياة بالنسبة لذوي البشرة السمراء، وكانتا نقطة التحول الكبرى، والبحصة التي حطمت بروج العنصرية الزجاجية. أليس هذا ما ينبغي أن أجابَه به!!  لكنني سأجيب على عجل.

نعم كل ما قيل صحيح؛ لكن الأمر مختلف كليّاً هنا، وما دفعني لقول ذلك إلا بضعة أسئلة لطالما خامرتني لاسيما وأني ذكرتُ أن ثورات الربيع العربي أوقدت القرائح، وشحذتْ همم الحالمين فازدحمت على إثر ذلك دور النشر، والمواقع الإلكترونية، ومنصات التواصل الاجتماعي فتحولنا بين ليلة وضحاها إلى نسخ كربونية عن بعضنا من حيث الطرح العام .. نحكي نفس الحكايات، ونقصُّ ذات القصص مع اختلاف في السرد بسيطاً، فشاعت توأمية الأفكار لا النصوص، وسيّامية الأشعار، والقصائد فجعلنا نكررُ أنفسنا في كل مرة، ونتنافس بتصوير الهزيمة عينها، وأحلناها إلى حدث أدبي باتفاق ما اتفقنا عليه، وبذلك أصبح الأدب جزءً من المشكلة، وضحية تضاف لقائمة الضحايا، وقد يكون نائحة تعتلي قِدْراً تزيد بؤس الشعوب بؤساً. وهمّهم العظيم همّاً آخراً.

والسؤال هنا وباختصار موجّه لمن يمارسون فعل الكتابة حول فهمهم وإدراكهم لأهمية وخطورة المهمة المنوطة بهم، وبأدبهم ودوره في مراحل وحقب مفصلية في تاريخ الشعوب، وقدرته على تجاوز حالة الهزيمة التي منينا بها على الاصعدة الشخصية، وبالتالي مفرزاتنا الحسيّة، والأدبيّة وإنجاب أعمال لا تشبه من حيث هندستها الجينية إلا عشرات بل مئات النتاجات الأدبية الأخرى.

وبناء عليه يمكننا القول إذاً: ما الفائدة المرجوة من إعادة وتدوير الألم، وخلقه حبراً على ورق مرة أخرى؟ 

هل الأمر مرتبط بالتزامات أخلاقيّة، ورسالة سامية يشعر بها الأديب تجاه نفسه بالدرجة الأولى، ويـرى أنّه المعنيُّ الأول بحمل شعلة الحقيقة للأجيال القادمة؟ أم بعجزه على أن يكون العنصر الذي تتفاعل معه بقية العناصر الأخرى لتشكيل مناخات تساهم بخلق وعيّ ثوري مثقف يؤثر بمن حوله ويتأثر بهم.

هذا يقودنا لتساؤل آخر: أترى نفد المخزون الإبداعي أو إن صح القول .. هل اتشحت المخيلة الروائية، والشعرية العربية بالسواد، وارتدت ثياب الحزن والحرب هي الأخرى، وباتت عاجزة عن طرح الحلول مكتفية بالوقوف على الأطلال نادبة الخراب والدمار؟

هذه الأسئلة بالضرورة قادتني إلى سؤال أحسبه مهماً يتمحور حول الدوافع التي تقف وراء فعل الكتابة كشغل بعيداً عن الرسالة التي يهدف إليها.

ترى هل بات الشاعر، والروائي العربي، والسوري على وجه الخصوص يرى في التراجيدية التي خلّفتها المعارك وسيلة عيش ما وبذلك راح يستثمر فيها استثماراً ليحقق لنفسه من خلالها مجداً مادياً وأدبيّاً على السواء؟ 

في الحقيقة قد يرى البعض بأني متجنٍ هنا، وأني أرمي بحجري بعيداً حيث لا يجب أن أفعل وبأن ذلك لا يتجاوز أن يكون محض إحساس خاطئ ليس أكثر.

في الواقع ما دفعني لطرح هذا السؤال الذي انبثق عن مجموعة أسئلة قبله هو الواقع والنتائج المترتبة على كل ما تم إصداره فالنصوص الأدبيّة على اختلاف أشكالها والأمر يطال الدراما والسينما والمسرح أيضاً لم تقدم على الإطلاق حلولاً ولا أنصاف حلول ولم تقترب حتى من صوغ تصور ولو مشوه للمستقبل بل كانت تكتفي بالوصف كما أسلفنا وهنا لابد من الوقوف على “رواية 1984” لكاتبها الإنكليزي “جورج أورويل” الذي سافر عبر مخيلته من عام 1949 وقفز بشخوصه نحو المستقبل ممهداً الطريق لغيره متكهناً بمآلات ما سوف يحدث وهنا تتجلى عبقرية الطرح وجنوحه بعيداً عن عبثية السرد والوصف. 

نعم رغم البورصة الروائية والشعرية الأخيرة إلا إن أيّاً من تلك لم تعدو كونها تصوّر الوقائع، وتصفها بطريقة كلاسيكية بسيطة.

الرواية العربية لا زالت ترتكز على الواقع كما هو دون أدنى محاولة منها للوثب إلى ما وراءه، وتجاوزه بحيث تجعل من نفسها جسراً يصل حاضر الشعوب بمستقبلها.

الروائي والقاص والفنان لن يلج الصواب دون أن ينتهج نهج العالم المستنتج، وبصيرة الشاعر المستقرئ.

الرواية يجب أن تتجاوز المتعة وأقصد بالمتعة هنا ما يمكن أن تسببه من حزن أو ألم على اعتبار أن القارئ العربي يستمتع بالحزن وينتشي باستحضار مأساته.

الرواية الآن يجب أن تدرك أنها رواية، ولابد لها أن تتعامل مع الواقع على أنه واقع لا مفر منه، وينبغي أن تضيف إليه، وتسعى لتغييره منطلقة بذلك من تحليليه وسبر مشكلاته كما يجب ألا تتوقف عند مجاراته فحسب بل لابد وأن تسبقه وبذلك تخرج من أزمتها التقريرية الوصفية وبالتالي أزمة المجتمع التي باتت تهدد وجوده.

المشكلة لا تكمن بالسجون التي لطالما مُلأت بها بطون الكتب العربية بل بكيفية فتح هذه السجون وإخراج الأبرياء منها، وتهيئة المناخ الحقيقي لحرية التعبير، وكشف ما تستره الأنظمة القمعيّة التي تمارس التجهيل الممنهج وما سبب نجاحها في إخراج الشعوب من محيطها العالمي إلا نتيجة لركود الأدب، واكتفاءه بالوقوف بعيداً وتصوير الأحداث وسردها بعاطفة الخاسر لا بعزيمة من يرغب بالانتصار، والكارثة ليست بتصوير المتطرفين ووصف سلوكياتهم التي باتت مستهلكة بالنسبة لذهنية القارئ العربي نتيجة معاناتهم المباشرة منهم بل بالطرائق والسبل المجدية لتجاوز هذه الأفكار وعدم الوقوع في مصيدة التطرف التي ما انفك المتشددون ينصبون شراكها حيث ما استطاعوا مستغلين ضعف البنى الفوقية وعدم قدرتها على جذب القارئ وتنويره.

وبالعودة إلى مهمة الأدب ودور الأديب وتأثيره وتأثره يرى كثير من الروائيين والنقاد أن مهمة الأدب الفعلية لا تكمن بإيجاد الحلول للإشكاليات الحياتية على اختلاف أشكالها (سياسية، اجتماعية، أو أخلاقية) ولا البحث عنها وتقديمها على أطباق ذهبية للقارئ، إنما تتوقف هذه المهمة عند حدود تشخيصها.

في الحقيقة وبعد كل هذه الانحدار الذي طال كل شيء في هذه البلدان وعقب الانهيار السياسي والاجتماعي والأخلاقي الراهن.

ألا يحق لنا أن نتساءل عن صلابة الأرض التي نقف عليها؟ 

ألا يفترض بنا أن نبحث في صحة ما اعتقدناه وآمنا به تسليماً؟

وما الضير فيما لو قفزنا عن المألوف وخرجنا من أطر الاعتيادية التي لم ينتج عنها إلا الهلاك إثر الهلاك؟

في النهاية وكما يقول أهالي الرقة “يا ريت كل طيب من عربنا”

مقالتي هذه ليست أكثر من أسئلة أطرحها على نفسي بصوت شبه مسموع، ووتد واهن في خيمتي التي اقتلعتها رياح الحرب والفساد قبله.

الكتابة فعل شخصي بحت ونتاج لذات صاحبها لكن وقعها أبعد من الذاتية لذا يجب أن نتساءل دائماً عن جدوى ما نقوم به.