الثقافة والآداب في الرقة .. شهادة ورؤية

0

ثائر الناشف، روائي وإعلامي سوري يقيم في النمسا 

أوراق 19- 20

الملف

ترتبط ذاكرتي الأدبية أشدّ الارتباط بمدينة الرقة، تلك المدينة التي ولدت وترعرعت فيها حتى سن التاسعة عشرة من عمري، ثم ما لبثت أن انتقلت بعدها إلى مدينة دمشق بغية متابعة دراستي الجامعية، لكن الأخيرة ورغم الزخم الثقافي والأدبي التي ظلّت تحظى به لكونها عاصمة البلاد والمحفل الأكبر لصناعة المشهدين الأدبي والثقافي، إلا أنّ للرقة سحرها – إن جاز التعبير هنا- الأدبي الممزوج بعبق التاريخ وحكايات الزمن الجميل من حاضر وماضي المدينة الراقدة على ضفاف نهر الفرات، فتاريخها الممتد إلى حقب زمنية مختلفة، وتواصلها الجغرافي المستمر مع الحواضر المحيطة ترك فيها إرثاً اجتماعياً وشعبياً كبيراً، كان بمثابة الدعائم المتينة التي تأسس عليها البناء الثقافي.     

حركة التثقيف التي عرفتها الرقة في مطلع الستينات، كانت حركة وجدانية عفوية غير موجهة لأيّ وجهة حزبية أو سياسية أو قبلية، حركة أنتجت على مدار السنوات الماضية حراكاً ثقافياً متصاعداً بخلاف بعض المدن الأخرى التي لم يتجاوز حراكها الثقافي حينذاك مرحلة النمو، ولم يكن للسلطة أي دور في دعم وتنشيط الحراك الثقافي الرقّي، بل كان مرتبطاً باهتمامات أبناء المدينة التي أنصبّت في المقام الأول على التحصيل العلمي والأدبي، ولعل الإهمال المتعمّد الذي تعرضت له الرقة على مدى عقود، وأعني هنا إهمال السلطة من خلال الاكتفاء بالنظر إلى الرقة كمدينة نامية ذات طابع عشائري وقبلي، كان كفيلا بخلق التحفيز الذاتي للعديد من أبناء المدينة، وشحذ هممهم لتكون الثقافة همّهم وشأنهم الأول في التعبير عن تطلعاتهم وطرح قضاياهم الإنسانية.

أودّ أن أؤكد هنا أنّ الاهتمام الكبير بالثقافة ليس تعويضا عن أي نقص حيال أي تهميش قد يشعر به بعض أبناء المدينة، لأنَّ حركة التثقيف عملية تواصلية من جيل إلى آخر لا تنقطع إزاء رغبات عابرة أو عقد نقص طارئة.

حركة التثقيف في الرقة أشبه ما تكون بحركات التثقيف في محافظات الصعيد ودلتا النيل في مصر بعدما زرتها وحضرت العديد من أنشطتها الثقافية، فتلك المحافظات البسيطة والمتواضعة -التي أنجبت للساحة الثقافية العربية ألمع وأرفع النخب الثقافية- ما تزال تذكّرني بالرقة، حتى إن واقعها الاجتماعي والزراعي لا يختلف كثيرا عن واقع الرقة، خاصة وأنّ السمات الثقافية فيها تجسد جوهر العلاقة الأصيلة التي تربط الإنسان بالأرض، فلا غرابة أبداً أن يرتقي الأدب في تلك المدن طالما أنّه يسمو بالإنسان ويعكس ارتباطه الحميمي بالأرض سواء أكان ذلك في سياق الشعر الشعبي أم في سياق السرد والقصص بخلاف المدن الكبرى ذات الطابع التجاري والصناعي، فرغم التطور الثقافي السريع إلا أن موضوعاته لا تلامس عادة البعد التاريخي والإنساني لأبناء الأرض، لعل هذا المقاربة تحيلنا للنظر إلى الثقافة الأوروبية السائدة في الغرب في العصرين الكلاسيكي والرومانسي (أدب الصالونات والبلاط) وما كان يقابلها على الطرف الآخر في بلدان أوربا الشرقية (الأدب الوجداني).

ما أنوي التدليل عليه هنا، أنّ الثقافة العربية تأثرت بالتحولات الكبرى التي شهدتها الثقافة الأوروبية، فيما ظلّت حركة التثقيف في المدن العربية متأثرة كما الثقافة الأوروبية بالنظم البرجوازية والرأسمالية، وقبل ذلك بالنظام الإقطاعي إذ لا يمكن أن تخلو الثقافة من ذلك التأثّر.     

بدأتُ الكتابة الأدبية في مطلع العشرينات من عمري تزامناً مع دراستي للآداب والإعلام في جامعة دمشق، ولم تكن الكتابة مجرد رغبة عابرة أو نزوة، بل كانت فعلاً معبّراً عن مكنونات النفس واتجاهاتها، وكانت مكتبات الرقة -رغم قلّتها آنذاك- ومعارض الكتاب وجهتي المفضّلة التي تواصلت فيها تواصلا حيّا مع عوالم الأدب والثقافتين العربية والعالمية.

ولم تكن المكتبات وحدها ما كان ينقص الرقة في الثمانينات والتسعينات، إنما دور النشر والصحف المطبوعة، ما اضطر العديد من كتّاب المدينة ومثقفيها وصحفييها إلى اللجوء إلى دمشق وبيروت لنشر إنتاجهم الأدبي.

وبالتوازي مع النشاطات الأدبية زاولتُ الكتابة الصحفية في بعض الصحف اللبنانية في سن مبكرة، وما إن خرجت من سورية إلى مصر حتى أصدرت أول مسرحية نصية بعنوان الزمن الرديء، إذ كانت تلك المسرحية إيذاناً بانخراطي المبكّر في غمار الأدب، وما زلت أطرح على نفسي سؤالاً لا ألبث أن أكرره من حين إلى آخر، ما الذي دفعني إلى الكتابة الأدبية في مصر؟ لماذا لم أفعل ذلك الشيء عينه في سورية خاصة وأنّني آثرتُ تدبيج المقالات الصحفية والنقدية بلغةٍ يشوبها الحذر والترقب؟

كان الخروج من سورية كفيلا في كبح القلق والمخاوف التي راحت تطاردني إثر كل كلمة كتبتها، فسرعان ما تنفست الصعداء، رغم الصعوبات الهائلة في المنفى الجديد، لكن طاقة هائلة من النشاط حثتني وشحذت همتي للبدء من جديد، فكانت البداية من عالم المسرح، وما إن استفاقت الشعوب العربية من سباتها الطويل، حتى بدأتُ أواكب التغيّرات التي لامست جوهر الرواية العربية، فآثرت الخوص في غمار الرواية انطلاقا من التغيير الجذري الذي أصاب بنية المجتمع السوري.

توثيق يوميات الثورة كان هاجسي الأكبر الذي صرفت جلّ اهتمامي من أجله، فكتبت رواية قيامة الروح التي كانت أول رواياتي في حقبة الربيع العربي، إذ حرصت فيها على توظيف السرد في خدمة التوثيق، لأن ما تتناقله الأجيال عبر وسائل الإعلام المرئية ووسائل التواصل الاجتماعي قد لا يخلد طويلا في الذاكرة بخلاف الكتابة الأدبية التي تبقى حاضرة في ذاكرة الأجيال، كما أنّ المساحات الكبيرة التي أتيحت للروائيين والكتاب في ذروة غليان الربيع العربي ما كان لها أن تتاح مطلقا في أوقات سابقة.

وما لبثتُ بعد ذلك أن خضت في غمار الحرب السورية، فكتبت رواية المسغبة التي جاءت فصولها طويلة ومتسلسلة بطول وتسلسل أحداث الحرب القاسية التي عرفتها سورية خلال عقد كامل، فالمسغبة كرواية حرب استنفدت في الواقع جميع الطاقات والجهود التي ادخرتها للكتابة فيما يتعلق بأحداث أخرى ذات صلة مباشرة بالحرب، فروايات الحرب ليست كغيرها من الروايات الرومانسية أو البوليسية أو حتى الاجتماعية، إنّها الإحساس العميق لوجدان الجرحى والمصابين، الأحياء والأموات على حدٍّ سواء. 

لا توجد حرب في الدنيا بلا تداعيات، فكانت آثار الحرب وتداعياتها الجسيمة على السوريين بمثابة خيوط السرد التي نسجت على منوالها رواية الكيميائي، فالخوض في تداعيات الحرب لا يقل شأناً عن الخوض في تفاصيل الحرب نفسها، لا سيما أن الحروب قد تنتهي بين عشية وضحاها، أمّا تداعياتها فليس من السهل تجاوزها في زمن وجيز ما لم يتصالح المرء مع نفسه ومحيطه.

فالتصالح مع الذات في زمن ما بعد الحرب هو حجر الزاوية الذي نهضت عليه رواية الكيميائي، فرغم أنّ التصالح في حالتنا كسوريين ليس متجسّدا على أرض الواقع، إلا أن طرح الفكرة من خلال الأدب كفيلا بإيصالها إلى القراء الواعين الذين إن أخذوا بها مأخذ الحكمة والحقيقة وقد يسهمون في شيوعها بين العامة.

معظم الروايات التي كتبتها تركّزت موضوعاتها الأساسية على القضية السورية بأبعادها الإنسانية والسياسية، لكن روايتيّ قمر أورشليم وجرح على جبين الرحالة ليوناردو، كانتا مغايرتين تماما لجميع الروايات التي استحوذت على اهتمامي، فهاتان الروايتان تتجهان إلى معالجة العلاقات الإنسانية من المنظور العاطفي والفلسفي، وفيهما ابتعاد كامل عن السرد التقليدي ذي النهايات المحتومة.

فيما يبقى المسرح أحد أهم المحطات التي لا ألبث أن أتوقف عندها بين الفينة والأخرى، رغم عزوف العديد من الناشرين عن المغامرة في إصدار المسرحيات النصية لضعف إقبال القراء على هذا النوع من الأدب مقارنة بعوالم الرواية، لكنني ما زلتُ أعتقد أنه لولا فضل النص المسرحي المرتكز على لغة الحوار بين الشخصيات المحورية لما استطاعت الرواية أن تشق طريقها بين القراء. 

 أخيراً أود القول بإيجاز إنّ الكاتب هو المحور الذي ينهض عليه الأدب وليس العكس، ولذا فإنّ الكاتب الذي يحوط نفسه بالحواجز والجدران ويكتب إرضاء لمن حوله قبل أن ينظر إلى نفسه، لا شك أنّه يُغرق نفسه في دوامات هائلة دون أن يدرك المخرج من ورطته.