هوشنك أوسي، روائي وشاعر سوري مقيم في بلجيكا
مجلة أوراق العدد 13
الملف
الأوطانُ بشعوبها، والشعوبُ بثقافاتها. الهويّات الوطنيّة الشديد التنوّع والاختلاف؛ هي الأكثر مرونةً وثراءً وغنى وإنتاجاً لقيم التسامح والخير والحبّ والجمال. لذا، ارتفاع مستوى الحريّات في أيّ مجتمع متعدّد الهويّات ومتنوّع الثقافات، يجعل منها أكثر انسجاماً وتحاوراً وتمازجاً وتكاملاً وتعاضداً. بينما تراجع مستوى الحريّات، أو انعدامها في ظلّ النظم المركزيّة الشموليّة التوتاليتارية، قادرٌ على جعل أتفه وأصغر الفروق بين الثقافات والهويّات داخل الوطن، أوسعها وأعمقها وأكثرها خطورةً وقابليّةً للالتهاب والانفجار.
مناسبة هذا الكلام هي الإشارة إلى فكرةٍ مفادها: إنه حتّى لو كان هناك كرديٌّ واحد في سوريا، الوعي الوطني والممارسة الوطنيّة الحقّة الناجزة والمنتجة للدولة الوطنيّة الديمقراطيّة المقتدرة، سيبقيان محض زعم وادعاء وتحايل ودجل، ما لم يتمّ النظر إلى ذلك الكردي بوصفه شعباً بأكملهِ أو يمثّل شعباً، له ما له من حقوق الشعوب، طبقاً للمواثيق والعهود الدوليّة. لكن، للأسف، ما نراهُ من أغلب الأشخاص والجهات المحسوبة على المعارضة السوريّة، محاولاتهم الحثيثة وأحياناً الغبيّة، للنيل من الوجود القومي – الثقافي الكردي في سوريا، والتقليل من ذلك الوجود واستحقاقاته ومظلوميّته، وإلقاء الشك والشبهة على المطالب والحقوق الكرديّة المغبونة والمهضومة في سوريا، لأغراض سياسيّة، وتلفيق التهم التي تنطوي على موروث بعثي بشع، كيفما اتفق. ذلك أن النيل من الوجود القومي الكردي أو السرياني أو التركماني أو العربي…، في سوريا، نيلٌ من سوريا نفسها، عبر استهداف أحد ألوان طيفها الاجتماعي، الثقافي، الحضاري الموغل في القِدم. من هنا، كانت وما تزال الكتابة عن الثقافة الكرديّة في سوريا فعلاً سياسيّاً بامتياز. لأن الفعل الثقافي الكردي، كان ممنوعاً، محظوراً، يُعاقب عليه. وبالتالي، فهو سلوكٌ مناهضٌ لسياسات القمع والتميّيز العنصري والاضطهاد القومي الذي مارسه النظام السوري – البعثي – الأسدي على الشعب الكردي في سوريا، على امتداد عقود. وفي الوقت عينه، التأكيد على الحضور الفاعل والوازن والهام للثقافة الكرديّة في الثقافة السوريّة، هو فعل سياسي معارض ورافض لسرديّتي النظام ومعارضته تجاه الشعب الكردي وعدالة ووطنيّة ومشروعيّة مطالبه وحقوقه داخل الفضاء الوطني السوري.
من طبائع الأمور الوطنيّة الديمقراطيّة، تناول دور ووزن وحضور الأدب والفن والثقافة الكرديّة، ضمن الثقافة السوريّة. وكذا الحال مع الأدب والفن والثقافة السريانيّة والأرمنيّة والتركمانيّة. ما هو غير الطبيعي؛ التجاهلُ والقفز من فوق هذا التنوّع والثراء والكنوز الحضاريّة العظيمة. وعليه، قبل مجلة “أوراق” قامت مجلة “قلمون” بإعداد ونشر ملفّ هامّ جدّاً عن الكرد في سوريا، وكان لي شرفُ المساهمة فيه بورقة بحثيّة تناولت الوجود القومي الكردي في سوريا، من 1918 ولغاية 2018؛ اجتماعيّاً وثقافيّاً. محاولة “أوراق” وقبلها “قلمون” محلّ تقدير وتحيّة وشكر، وتنمّ عن سعي ووعي وطني لمناهضة إرث البعث الذي حاول ويحاول التعتيم على التنوّع القومي السوري، وما يفرزه هذا التنوّع من موروث ثقافي حضاري سوري ثر، وإحالة البلاد والعباد إلى لون واحد، لغة واحدة، حزب واحد، وزعيم واحد أحد، لا شريك له، إلاّ من يرثه من أولاده.
ليس بخافٍ عن أحد، بخاصّة أهل النقد التشكيلي؛ كيف تسرّب الموروث الكردي، ومفردات البيئة الكرديّة، إلى الوعي الثقافي والبصري والنقدي السوري، وإلى الحركة التشكيليّة السوريّة، عبر أعمال؛ بشّار العيسى، عمر حمدي، زهير وعمر حسيب، خليل عبدالقادر، عبدالكريم مجدل بيك، نهاد الترك، حسكو حسكو، عدنان عبدالرحمن، آزاد حمي، خديجة شيخ بكر، نارين زلفو، خناف صالح، نارين ديركي، عبدالسلام عبدالله، صالح نمر، جنكيمان عمر، هجار عيسى، دلدار فلمز، كيتو سينو، وعبدالرحيم حسين (رحيمو)، وعشرات التجارب التشكيليّة الأخرى التي لا يمكنني حصر أسمائها هنا. كذلك الحال، ليس بخافٍ أيضاً، كيف تسرّبت المعاناة الكرديّة ومفرداتها وقضاياها ومشاكلها وتعابيرها وتفاصيلها…، إلى الوعي النقدي والثقافي العربي في سوريا خصوصاً، والعالم العربي بشكل عام، من خلال الأدب الكردي المكتوب باللغة العربيّة عبر تجارب هامّة وبارزة ومتنوّعة، على سبيل الذكر لا الحصر: سليم بركات، هيثم حسين، نزار آغري، حامد بدرخان، مها حسن، خلات أحمد، آسيا خليل، آخين ولات، مروان علي، إبراهيم اليوسف، جان دوست، حليم يوسف، فواز حسين، إبراهيم محمود، كوني راش، دحّام عبدالفتاح، منير خلف، حسين حبش، أديب حسن، عبدالباقي يوسف، أفين شكاكي، وجيهة عبدالرحمن، نارين عمر، جولان حاجي، خالد حسين، ريزان عيسى، خليل محمد، وداد نبي، وعشرات الأسماء والتجارب الأخرى. مجمل عناوين إصدارات الأدباء المبدعين والمبدعات الكرد، في السنوات العشر الأخيرة فقط، تشكّل جداراً عالياً وشامخاً ضمن العمارة الأدبيّة والثقافة الثقافيّة السوريّة.
ما يميّز المبدعين الكرد السوريين عن أقرانهم وشركائهم في الوطن والثقافة السوريّة، أنهم ساهموا في هذه الثقافة على مستوين لغويين. فمنهم من كتب بلغته الأمّ (الكرديّة) فقط، ومنهم من كتب باللغة العربيّة وحسب، ومنهم من كتب بهاتين اللغتين. وعليه، ما يميّز النهر الثقافي والأدبي الكردي الذي يصبّ في الثقافة السوريّة، أنه متنوّع وهادر.
زد على هذا وذاك، حقق المبدعون والمبدعات الكرد السوريون بعض الإنجازات على الصعيد العربي، تسجّل لهم على الصعيد الشخصي، وتسجّل كإنجاز للثقافة والأدب في سوريا أيضاً. إذ حصل منهم على جوائز إبداعيّة هامّة، ومنهم من كان قاب قوسين أو أدنى منها. ما يعني أن الأدب الكردي السوري كان من القوّة والمنافسة بمكان أن أثبت حضوراً هامّاً ولافتاً في المحافل الثقافيّة العربيّة الأخرى.
لا يمكن الإحاطة بالآداب والفنون والثقافة الكرديّة كأحد روافد الثقافة السوريّة، عبر ملفّ في هذه المجلّة أو تلك. لكن إعداد ونشر هكذا ملفّات من شأنها التقليل من الحمولة الفاشيّة النابذة لكل ما هو كردي التي غرستها حكومات البعث في الوعي الثقافي والاجتماعي السوري، على امتداد عقود. وأثناء التعريف بالأدب الكردي في سوريا، والتعرّف عليه وعلى رموزه ودوره ووزنه، يتعرّف الكاتب والباحث العربي على مدى فداحة وبشاعة ما صنعه البعث من إقصاء وقهر وحظر ومنع وتشويه للكرد وواقعهم وانتماءهم الوطني وفنونهم وآدابهم وهويّتهم الوطنيّة الثقافيّة. مقصدي؛ هكذا ملفّات، يفترض بها أن تكون توطئة لمراكز أو معاهد أو أقسام خاصّة في الجامعات السوريّة تدرّس الأدب الكردي. بحيث يمكننا رؤية كتّاب وباحثين ونقّاد عرب أو سريان أو أرمن أو تركمان، متخصصين في الأدب الكردي، يحملون درجات الماجستير والدكتوراه في هذا الاختصاص. وينسحب الأمر على آداب وفنون الشعوب السوريّة الأخرى أيضاً. يعني، أن نجد كتّاب عرباً يكتبون ويقرأون باللغة الكرديّة، أسوة باللغات الانكليزيّة، الفرنسيّة، الروسيّة، التركيّة، الألمانيّة…الخ. وحين نصل إلى مرحلة يكون فيه جلّ المشاركين والمشاركات في هكذا ملّفات عن الأدب الكردي، هم عرب، وليسوا كرداً سوريين. وقتها نكون وصلنا إلى مرحلة الانفتاح والاحتضان الوطني الثقافي الكردي – العربي – السرياني – التركماني…، العميق. وقتذاك، تكون الشعوب السوريّة، في الضفّة الوطنيّة الثقافيّة الأدبيّة الأخرى، لما خلّفه وتركه نظام البعث – الأسد في سوريا من إرث بغيض ومسموم.
الطموح الذي اختتم به هذه الأسطر، بعيد المنال، قياساً بما تعيشه سوريا حاليّاً، وقياساً بحال النخب الثقافيّة السوريّة الموالية للنظام والمعارضة له. لكنهُ طموح مشروع وطبيعي، وليس بمستحيل. ليس مستحيلاً أن يكون هناك مؤتمرات حول الأدب الكردي أو الأرمني أو السرياني تنظمها جامعات دمشق، حلب، حمص، السويداء، درعا، اللاذقيّة… يشارك فيها باحثون ونقّاد عرب متخصصون في آداب هذه الشعوب السوريّة. وقتها يمكن تجاوز شعار البعث من “أمّة عربيّة واحدة، ذات رسالة خالدة” إلى أمّة سوريّة واحدة، ذات ثقافات وهويّات ولغات متنوّعة ورائعة وخالدة.