التّبدّلات القصديّة للأنساق المتضادة: قراءة في رواية “كيف أصبحت غبياً”

0

نور عبّاس، كاتبة وناقدة سورية

مجلة أوراق- العدد 14

النقد

ينطوي نّصّ رواية مارتن باج على ذات واعية بذكائها المفرط وتأثيراته السّلبية في تفاصيل حياتها، فتقرر نفي هذا الذّكاء، وتجاوزه، مؤقتاً، لتعيش حالة مضادة قائمة على الغباء.

أي نحن أمام ذات مدركة نسقها في هذا الوجود، وترغب بتقمص نسق آخر مضاد تقمصاً تجريبياً مؤقتًا، لترى هذا الوجود المُعقد بعيون الآخر المغاير، النمطي، العادي، وتحس بأحاسيسه اتجاه الكون، وتعيش تجربة جديدة، قد تخفف عنها معاناتها الوجودية والنّفسية جراء الاستخدام المفرط لتفكيرها.

مارتن باج

فالذّكاء كما يراه أنطون (الراغب بتقمص الغباء) حالة مرضية مزمنة، تسهم في تعقيد حياته وزيادة حدتها، لذلك لا بدّ من تغييبه مؤقتًا، لتستريح الذّات من ثقله الضّاغط، ويعود لها شيء من خفتها المفقودة.

وقام أنطون بمحاولات عدّة للتخفيف من حدّة تفكيره:

أوّلاً؛ محاولة أن يكون سكّيرًا:

لأنّ السكر تخفيف زمني مؤقت من حالة الوعي، فقد رآه أنطوان آلية جيدة، يمكن أن تساعده في الحد من تفكيره المفرط.

ومرّت محاولة أنطون في أن يكون سكّيراً بمرحلتين:

مرحلة نظريّة:

قرأ فيها أنطون العديد من الكتب حول الخمر، وأسمائه، وكيفية صنعه، وتأثيراته، ليختار بعد ذلك معلماً مخضرمًا يكون عرابه في شرب الخمر.

مرحلة عمليّة:

بدأ فيها أنطون شرب الخمر برفقة عرابه, إلا أن هذه المحاولة فشلت, وانتهت به إلى المشفى, لأن لديه تحسسًا مزمنًا من الكحول.

ثانياً؛ محاولة الانتحار:

التحق أنطون بمعهد لتعلم الانتحار وآلياته، وكيفية ضمان نجاحه، وبقي في هذا المعهد فترة من الزمن، وعندما أكمل تعليمه رفض أن يُقدِم على الانتحار؛ إذ لم يكن يريد إنهاء وجوده، بل كان يرغب بتغيير مؤقت لهذا النمط من الوجود.

ثالثاً؛ محاولة الانغماس في العالم المادي:

قرر أنطون أن يصبح ذاتاً منغمسة في العالم المادي، تسير مع النّسق الاجتماعي العمومي، فهذه الآلية هي الضمان الوحيد لوقوعه في حالة غباء.

وللانغماس في العالم المادي قام أنطوان بعملية تبديل الأنساق الثقافية الشكلية؛ إذ غير أثاث منزله، وأزاح كل ماله علاقة بالنمط الثقافي الذي كان يعيش ضمنه، من كتب ولوحات وصور، واستبدلها بأثاث ينتمي للنمط الثقافي الجديد الذي يريد تقمصه.

وهذه العملية الاستبدالية الشكلية قادت أنطون إلى الإفلاس، مما دفعه إلى الاتصال بصديق قديم له، يشكل نموذجاً للإنسان المنغمس في الحياة المادية المعاصرة.

يعمل أنطون مع هذا الصديق في مجال البورصة والأعمال، ويكسب المزيد من المال، وينغمس أكثر في العالم المغرق في المادية، ليعيش حياة خفيفة، سطحية، خالية من التفكير والتحليل، ومضادة لحياته السابقة الثقيلة المشبعة بالذكاء.

فالرواية تتحرك بين عالمين متضادين: عالم قديم خاص ثقيل، وعالم جديد عمومي خفيف، والعلاقة بين هذين العالمين علاقة استبدالية، ارتحالية، تجريبية، مخطط لها.

وتراقب الذات المتلقية الخارجية هذه العلاقة الارتجالية، وتتحرك، ثقافياً ونفسياً، وفق إيقاعها التحولي الحركي المتأزم، وتعيش جماليًا خصوصية هذين العالمين المتقابلين وتنقلات أنطون بينهما.

ضمان الحركة النكوصية:

أدرك أنطون خطورة الانغماس في النسق المادي الطافح بالغباء، إذ فور ولوج الفرد هذا النسق يفقد سيطرته على كيانه، ويعيش حالة عماء روحي، تمنعه من العودة إلى نسقه القديم، فتتحول الحالة التجريبية المؤقتة التي يريد عيشها إلى حالة دائمة عمومية.

لذلك استعان أنطون بكيانات خارجية، لها نسق مماثل لنسقه القديم (أصدقائه)، لينقذوه، في لحظة محددة، من نسقه الجديد المتقمص له، ويعيدوه وفق حركة نكوصية إلى نسقه السابق القديم، فيحافظ بذلك على توقيتيه التجربة الارتجالية التي يريد خوضها.

فأنطون لا يريد أن يغادر نسقه الكلاسيكي مغادرة كلية، نهائية، غير ارتجاعية، بل هو متمسك بهذا النسق على المستوى العميق، ويريد مغادرته بصورة مبدئية، ارتجاعية، ليعيش نفسيًا صورة الإنسان الخفيف روحًا ووجودًا.

ويتبع أصدقاء أنطون آلية طقوسية لانتشاله من نسقه الجديد، إذ يقيمون طقوسًا احتفالية بدائية حول أنطون المتقمص النسق الجديد، لطرد هذا النسق من روحه، وتهيئته للعودة إلى نسقه السابق، وكأن هذا النسق يحتاج إلى قوة ما ورائية سحرية للفكاك منه، وتجاوزه إلى الجانب الآخر المضاد.

الحب أداة لتحقيق التوازن:

بعد عودة أنطون النكوصية إلى نسقه القديم صادف ذاتاً أنثوية مصادفة عبثية، فدخل معها في علاقة عاطفية فجائية، أعادت له شيئاً من توازنه الروحي، وخففت من حدة النسق الذي عاد للعيش ضمنه، فكان الحب هو الحل الجديد, غير المخطط له, لحياة متوازنة نفسيًا ووجوديًا.

فوفق هذه التجربة العاطفية الجديدة لم يضطر أنطون إلى الانسلاخ عن نسقه الذي يتموضع ضمنه ليعيش حالة توازن، بل تعالق روحياً وعاطفياً مع ذات أخرى مغايرة جندرياً، ليخفف ثقل حياته الوجودية، ويعيش اتساقاً ما على الصعيد النفسي.

وبذلك تتحرك الرواية، أيضاً، بين محاولة قصدية مخطط لها لتغيير الأنساق، وحدث عرضي، غير مخطط له، يحكمه مبدأ المصادفة، ويتمتع بشيء من الديمومة الزمنية، قد يشكل مدخلاً لإحداث تغيير جوهريّ في نسق حياة أنطون.

معلومات الرواية:

كيف أصبحت غبياً: مارتن باج، ترجمة: حسين عمر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 2013.