التشرد والموت كتاب -الفهرس السوري- علي سفر

0

رائد محمد الحواري*

ما زلت ذاكرتي متعلقة بكتاب “الخراب” لنصري الصايغ” الذي مضى على قراءته أكثر من أربعة عقود، فالخراب لم يقتصر على الفكرة فحسب، بل طال أيضا ما تحمله الكلمات وما هو أبعد مما يظهر في المعنى، وبعد أن قرأت كتاب “الفهرس السوري” تأكد لي أن هذا الشكل من الأدب هو ألأنسب في التعبير عن حالة الخراب والقتل اليومي، القتل العشوائي الذي يمارسه القتلة بحق الناس، فترك النص على حاله، دون تحديد هوية له، ودون تجنسيه، فلا هو رواية ولا قصة ولا قصيدة يمثل أفضل تعبير عن حالة السخط والألم والقهر التي يعيشها الكاتب، فشكل النصوص (المبعثرة) يماثل/ يشبه حالة الموت والتشتت والتشرد التي يعيشها الإنسان في الحرب الأهلية، فمن خلال هذا الشكل من النصوص التي لا يمكن تجنيسها ولا تحديد حجمها يقودنا إلى العقل الباطن لكاتبها الذي أراد ترسيخ فكرة الموت والتشرد والقتل العشوائي من خلال نصوص لا يحكمها حجم ولا جنس أدبي، فهي تماثل الموت الذي يلاحق الأفراد صغارا وكبارا، رجلا ونساء في الوطن وفي المنفى.

في الأدب مهم جدا أيصال فكرة القسوة بأقل الأضرار النفسية على المتلقي، وبما أن الموضوع متعلق بحرب (أهلية) لا تفرق بين البريء والمتهم، بين الطيب والشرير، فإن هذا استدعى من “علي سفر” جهدا استثنائيا ليخبرنا عما جرى في سورية من خراب وقتل وتهجير، من هنا سنجد “الفهرس السوري” من ألفه إلى ياءه متعلق بالموت والقتل والتشرد، فلنتوقف قليلا عند ما جاء في هذا الكتاب لعل وعسى نتعلم منه ولا يتم تكراره في بلادنا ولا أي بلاد أخرى.

الكتاب مكون من مائة وخمسة نصوص جاءت من خلال مئتين وعشرين صفحة، وهي بمجملها تتحدث عن الموت، المنفى، القتل، الفوضى وانحلال النظام، الخراب، التشرد، الهجرة، وما يصاحب هذا من ألم وحزن وغضب وقهر، سنخذ بعض النصوص لتبيان حجم الخراب الذي عاشه “علي سفر” والشكل الأدبي الذي قدم به هذه النصوص، ونبدأ من “منفى” وكيف يراه المهاجر:

“الوجع الذي لم يفسره الطبيب، سوى بتراكم القلق والهم..

الثقل المضني في جهة القلب..

الناس الذين يستنجدون، وهم يغرقون في الشرايين

الشوارع التي هجرها الحب

الصباحات المنقضية على عجل

دون أصوات العصافير

الوجع ذاته، لا يعالجه العرافون وراء الحدود

ولا ينفعك البوح به..

الذاكرة مرض عضال..” ص22.

إذا ما توقفنا عند ما جاء في المقطع سنجد كل شيء جميل/ لطيف يلازمه القبح/القسوة/ الألم: “الطبيب/الوجع، القلب/الثقل، الناس/يستنجدون، الشوارع/هجرها، الصباحات/المنقضية، العرافون/الوجع، الذاكرة/مرض” وبما أن المقطع جاء متقطع ومختزل فهذا يأخذنا إلى معاناة الكاتب الذي (لم يستطع) أن يتحدث بطريقة مفصلة أو متواصلة، فكانت المقاطع وكأنها (زفرات) مؤلمة لم يقدر قائلها على الشرح والمتابعة، فكان شكل المقطع يمثل/ يعكس معاناة الكاتب.

وعن الموت الذي يلاحق الناس في كل مكان جاء في “مصادفة”:

“بلا سبب رأيت الشخص، يغافل المسافرين في الاستراحات على الطرق البعيدة، ويقتلهم مع أطفالهم..

توسلت له ألا يفعل ذلك مع موكب الشهداء هذا اليوم” ص31.

نلاحظ أن القتل يتم دون سبب، دون جرم، ومن يقوم به لا يمتلك أي مشاعر إنسانية، ونجد كثرة الموت من خلال “يقتلهم مع أطفالهم، موكب الشهداء” ورغم هذا الألم والسواد، إلا أن الكاتب استطاع تمرير المشهد بأقل الأضرار النفسية على المتلقي، وذلك من خلال الصيغة الأدبية التي جعلت القتل يأتي في آخر الفقرة “ويقتلهم مع أطفالهم” وأيضا من خلال الحديث عن الشهداء دون التوقف عن الطريقة التي استشهدوا/قتلوا فيها، فالكاتب أوصل فكرة الموت بطريقة أدبية ناعمة، وهذا ما خفف من مشهد القتل/ الموت.

وعن مشاهد الملاحقة والخطف والاعتقال جاء في “غلاف مشقوق”:

“نسيت الكتاب مفتوحا، عندما اقتحموا بيتنا..

هبطوا بضجيج أسلحتهم على السطح، ثم لقموها بالأسئلة عن الغائبين… قبل أن يسكنوا عميقا في رأس طفل ما يزال يرتجف منذ عقود..!

إسفلت الشارع رصته عجلات مركباتهم، عربت أسماء الأطفال المكتوبة بفوضى على الجدران، الأبواب أغلقت مثل القبور..

دفعوا بنا إلى غرفة المؤونة، أزالوا عن أعمارنا طفولتها، مهددين إيانا بشيب مبكر، وبذرية يسلبها الخوف منا..

وضعوا مستقبلا كاملا في عيون موتي، علقت صورهم قبل أن يختفوا..

كانوا ضيوف الأيام، ثم احتلوها” ص32.

رغم هول المشهد الذي يتحدث عن اقتحام مسلحين للبيت وترويعيهم للأطفال، إلا أن طريقة تقديمه جاءت بصور أدبية، فعندما أنسن الأسلحة التي “لقموها بالأسئلة” أعطت المتلقي صورة عن وحشية هؤلاء المسلحين اللذين يسألون وأسلحتهم مصوبه على من يسألون، وعندما جعل الأسماء كائن حي: “هربت أسماء” والحديث عن الأعمار بطريقة غير معهودة: “أزالوا عن أعمارنا طفولتها، مهددين إيانا بشيب مبكر” كل هذا أوصل فكرة هول المشهد ووحشية المقتحمين وبراءة الأطفال لكن بأقل الأضرار، فالصيغة الأدبية التي جاء بها المشهد خففت من الألم والقسوة التي فيه.

وعن الفقر وضيق الحال يتحدث في “أمنة”:

“في الطريق بين سجنين، أو بين سجن ومحكمة، جعلوه يدفع أجرة الطريق.

وفي الطريق إلى التراب، سيدفع ثمن القبر.. قال لي: ليتهم يحرقون الجثة، ثم يرمون رمادها في حفرة كيلا يتحمل الأعباء أحد” ص34.

نلاحظ ذروة القسوة والوحشية تقدم بطريقة أدبية لافتة، فهناك فقر وفقير معتقل ومحكوم بالموت، ومع هذا ما زال محتفظا بنبله وبأخلاقه وانتمائه لأهله فلا يريدهم أن يحملوا هموم وتبعية مصاريف دفنه، بهذا يبن الكاتب جريمة المحكمة السجان ووحشيتهم مقابل شخص فقير ماديا وغني بانتمائه وأخلاقه.

وعن البحر الذي يبتلع المهاجرين جاء في “لقاء”:

“ثلاثة غائبين، يجتمعون في مكان واحد بعد شتات..

أخفوا السعادة.. في ثيابهم قبل أن تغادرهم، وتطفو على سطح الماء..

الشمس بخرت كل شيء.. والقاع يحتفظ بالتفاصيل” ص37.

أيضا نجد الموت المتواصل من خلال رقم “ثلاثة” الذي يحمل معنى الاستمرار ، ونجد الصورة الأمل الذي يحمله المهاجر من خلال “أخفوا السعادة” ونجد ذروة التألق عندما أخفى الكاتب مشهد الموت وقدمه من خلال إيحاء: “تطفوا على السطح، القاع يحتفظ بالتفاصيل” وهذا يجعلنا نقول إن أهمية الأدب لا تمن في الفكرة/الموضوع بقدر الشكل والطريقة الأدبية التي يقدم بها.

وعن الظلم وعدم وجود قانون مدني يحفظ حقوق المواطن جاء في “تعريف”:

“الممنوعون من السفر: هم معتقلون متروكون للموت في المهجع رقم 1” ص38.

نلاحظ الاختزال والتكثيف فيما يتعلق بالجلاد وبالضحية، وهذا يأخذنا إلى حجم المأساة التي يعانيها الكاتب، بحيث لم يرد أن يسهب في الحديث عن ألم ووجع هؤلاء المعتقلين الذين ينتظرون الموت وينتظرهم الموت.

وعن حال أهل المختطف جاء في “ظل الأسى”:

“ميتة القهر تعني: أن يدفن في الصحراء.. وأن يمحى الطريق إلى القبر، وأن يترك ظل الأسى على وجه أمه” ص39.

اللافت في هذا المقطع أن ثنائية القسوة في “يدفن، يمحى” جاءت متعلقة بالكائن الأهم للميت، الأم، وهذا يعطي فكرة عن حجم المأساة التي تعانيها تلك الأم التي لا تعرف/ لا تجد قبر ابنها.

وعن كثرة الموت جاء في “هناك”:

“لم أعد أخاف من الموت، بات لي أصدقاء كثر هناك.. حيث يسكن الموتى” ص81.

هذا المقطع يوصل فكرة كثرة الموتى من العامة والموتى من الأهل والأصدقاء.

وعن دور الكاتب/ الأديب في كسف حقيقة ما يجري من قتل وتهجير جاء في “وصية”:

وقال لي: لقد وضعت حبرا بدلا من الدم في رأسك، ففيما أنفقته؟؟!” ص84، فالكاتب هنا يختزل مشهد يوم القيامة والوقوف أمام الله للحساب، ويشير إلى دوره التقدمي في كشف حجم الظلم الواقع على الناس، من خلال الكتابة عنهم ولهم، وما جاء في “الفهرس السوري” إلا تأكيدا لهذا الدور الذي قام به “علي سفر” على أكمل وجه.

المهاجر لوطنه غصبا وكرها بالتأكيد يبقى محتفظا بحب هذا الوطن، المكان الذي عاش وربى فيه، هذا حال كل من كتب عن المكان من المهاجرين، الفلسطيني، السوري، العراقي، الليبي، اللبناني، اليمني، فالمكان يبقى حاضرا رغم الابتعاد والهجرة، جاء في “دمشق”:

“في كل المدن هناك شارع اسمه “شارع دمشق” .. هذه ليست قصيدة” ص100، نلاحظ بياض الألفاظ حتى أننا لا نجد أي لفظ قاسي سوى “ليست” وهذ1ا يشير إلى المكانة التي تحتلها “دمشق” في وجدان “علي سفر” وما ذكرها في أكثر من موضع في “الفهرس السوري” إلا تأكيدا لهذا لحضورها، جاء في “همس”:

“هذا نهار تؤرقه الذاكرة

هذا قلب يتفتح شمسا كشام” ص118.

إذا ما عملنا مقارنة بين حجم البياض والسواد سنجد أن الغلبة للبياض الذي يعم المقطع، فكل الألفاظ ناعمة باستثناء “تؤرقه” وهذا يعطي دلالة إلى مكانة دمشق/ الشام البهية عند الكاتب.

أما عن أدبية الكتاب، يجد المتلقي بعض القصص القصيرة والقصيرة جدا، وهذا التنوع في أشكل الأدبي منح القارئ شيئا من الراحة، وفي الوقت ذاته أوصل له المضمون، الفكرة التي أراد تقديمها بصيفة أدبية جديدة، في الجزء الثاني من الكتاب “إسطنبول” يستخدم الكتاب القصة القصيرة جدا، جاء في “58”:

“رجوتهم ألا يجبروني على فعل ذلك، لا أستطيع أن أذبح دجاجة، فكيف يمكنني أن أفعلها بإنسان؟! وكنت كلما توسلت لهم أكثر زادوا في الضحك.. وحين تعبوا منه.. قرروا أن ينهوا الموضوع بإجباري على فعل ذلك.. فرشوا كل الأدوات المتاحة للقتل على البلاط.. ثم أطفوا الضوء وغادروا الغرفة” ص181.

فهنا عناصر القصة القصيرة مكتملة ووافية، حتى أن الكاتب قدمها بصورة لافتة عندما لم يسم/يحدد من “رجوتهم” فجعلهم مجهولين كناية عن قرفه/ اشمئزازه منهم، كما نجد تألقه عندما تحدث عن نبله من خلال تفضيله قتل نفسه على قتل الآخرين، ونلاحظ أن القاص/الكاتب يتجنب الخوض في التفاصيل، مكتفيا بالإيحاء/ الإشارة لفعل الانتحار، وهذا يأخذنا إلى احترامه لعقلية المتلقي الذي ستصله الفكرة دون الخوض في التفاصيل.

الكتاب من منشورات المتوسط، إيطاليا، الطبعة الأولى 2018.

*كاتب وناقد من فلسطين