“الاستوديو”

0

علي الكردي

صحيح أن صداقتي مع ميشيل وخليل هي الأقدم بين صداقاتي، إلّا أني لم أقم وزناً في يوم من الأيام لهذا الأمر. في الواقع ميشيل هو من كان يولي الأمر أهمية استثنائية أكثر ممّا ينبغي. كنتُ في الحقيقة أندهش حينما يتحدث ميشيل عن تميّز صداقتنا أمام الأخرين. كنتُ أنظرُ للموضوع من جهتي على أنه محاولة لتضخيم الأنا الفردية، بالاتكاء على عكازة الأنا الثلاثية لصداقتنا، التي تطورت فيما بعد إلى تضخيم الأنا الجماعية للحلقات الماركسية التي ننتمي لها، باعتبارها تضم ” زهرة شباب الوطن” على حدّ تعبير أحدهم.

ضد الأنا الأنانية، وضد التقوقع على الذات، وضد الشعور وكأننا محور الكون. كنتُ وما زلتْ منفتحاً على الآخر. أياً يكن هذا الآخر، شرط أن يكون لديه ما يضيفه للعلاقة من ثراء وأفكار. لم أخضعْ علاقتي بالآخرين لمدى قربهم من مزاجي الشخصي، أو مدى ارتياحي أو عدم ارتياحي لهم، بل لمدى إمكانياتهم في إغناء العلاقة فكرياً وإنسانياً، وفيما بعد سياسياً. بينما كان ميشيل انتقائياً ومزاجياً في علاقاته، لكن رغم جاذبية شخصيته التي غالباً ما تترك انطباعاً إيجابياً لدى الآخرين، سرعان ما كانت تلك الجاذبية تخبو مع أول تصادم له معهم، بسبب عصبيته، وحساسيته المفرطة، التي تتحوّل إلى هجوم شرس على الآخر. قد لا يكون في محلّه. 

من جهته كان خليل رغم هدوئه وتواضعه شخصية مركّبة، وشديدة التعقيد. كان ضائعاً وهائماً على وجهه. لا يعرف ما يريد، لذلك كنت أزعل عليه، لا منه. نقطة التقاطع التي كانت تجمعنا كأصدقاء هي: شعورنا بالكبرياء، والاعتداد بالنفس واحترامها، واستعدادنا للدفاع عن كرامتنا مهما كان الثمن، وهذا أمرٌ يعوّل عليه.

فوجئ ميشيل وخليل حينما استأجرت غرفةً في دمشق القديمة، حولتها إلى “استديو” خاص بي. يؤمن لي فسحةً للعمل والتأمل. مع أننا ما زلنا بعد طلاباً في الثانوية. استغربا الأمر ليس لأني سأتحمل نفقة إيجارها فحسب، بل لأن فكرة الاستقلالية عن الأهل كانت غريبة بعض الشيء في دمشق-السبعينات. بيد أني أعرف ما أريد. كان شغفي بالتصوير الضوئي هو نافذتي على العالم. كانت ” الكاميرا” وأجهزة الإضاءة والتحميض، وكل ما يخص عملي هو عشقي الذي أتنفسُّ من خلاله. لا شيء يشعرني بالسلام الداخلي، والتوازن، والصفاء الذهني أكثر من ملمس ” الكاميرا” التي أضحت عيني الثالثة. هي عشيقتي التي ترافقني أينما حللتْ. من خلال عدستها ألتقط خيوط الفجر الأولى، وهي تتسلّل ببطء فوق أسطحة البيوت الطينية المتعانقة بحب في حواري دمشق القديمة. من بعيد كانت تبدو المآذن.. وقباب المساجد.. وواجهات الكنائس نجوماً تتلألأ بضيائها، وتدعوني إلى التأمّل، والتجوال الصباحي المبكر بين حواري دمشق ودهاليزها. في كلّ لحظة كنتُ أكتشف كنوز الجمال المتواري بين العتمة والضوء. عيني الثالثة لم تكن تشبع من تدفق هذا الجمال الروحاني الغامر، الذي كان له صدى رائع في أول معرض ضوئي لي عن دمشق القديمة. الأهم أن عيني الثالثة أصبح لها شأنٌ عظيم في العقود اللاحقة، لأنها وثقت بجرأة بعض الأحداث التي أفضت إلى الكارثة.

كنت أدرك أن طريق الفن صعبةٌ وطويلة، لكني في الآن ذاته، كنتُ على يقين أني أملك أدواتي، التي اشتغلتُ عليها مدفوعاً بكلّ جوارحي لتحقيق ما أصبو إليه. لم أنظر إلى “الاستديو” بوصفه صومعة تعزلني عن الأصدقاء، والعالم الخارجي، بل حوّلته إلى مساحة للعمل والإبداع واللقاء الفني والإنساني. تركتُ أبوابه مشرعة أمام الأصدقاء الذين يترددون عليه. لم يكن لدّي مشكلة في أن أعمل بوجود آخرين. في الوقت ذاته كنتُ واضحاً مع الجميع. لا أتوانى عن عدم استقبال أي شخص جاء فقط لتزجية الوقت والتسلية. بل كنتُ فظاً تجاه بعض الغلاظ المتطفلين، ممّن أشعر أنهم يخترقون مساحة حريتي، ولا يحترمون خصوصيتي. كنتُ دون مواربة أفتحُ باب ” الاستديو”، وأطلب من هؤلاء مغادرته…. أي أطردهم دون أن يرفّ لي جفنٌ.

   لم أقتنع في البداية بفكرة الانضمام إلى “الحلقات الماركسية “التي بدأت تنتشر آنذاك، حينما طرح خليل الفكرة عليّ. لشعوري أنها تجربة غير ناضجة أولاً، ولأن ما يربط بين أعضائها هو علاقات شلليه أكثر من كونها علاقات تنظيمية جادة لحركة أو حزب سياسي. ثانياً لأني كنتُ مكتف بذاتي، ولستُ بحاجة للاختباء على طريقة ميشيل وخليل وآخرين، خلف دوافع سياسية مزيفة للتغطية على دوافع ذاتية، وإن لم يفصحوا عن ذلك صراحةً. كنتُ سعيداً بعلاقاتي الواسعة مع زميلاتي في كلية الفنون، ومكتف بعملي في ” الاستديو”. أمارس في أوقات فراغي شغفي الآخر بمراقبة سلوك “الحمام” الذي أربي أنواع عديدة منه على سطح “الاستديو”. لم أكن بالطبع “كشّاش حمام” بالمعنى المتعارف عليه، لكني مهووس بأنواع الطيور وأشكالها. كانت تلك الهواية تستغرق مني وقتاً طويلاً أقضيه بمتعة، وأنا ألتقطُ صوراً لا تنتهي لحركات الطيور. أشتغلُ عليها لاحقاً كي تتحوّل إلى قطع فنية تزخر بالفتنة والجمال.

كان لدّي في الحقيقة رغبة في الانضمام إلى مشروع سياسي جاد، وليس إلى مشروع يعتريه الكثير من الغموض والالتباس.

كثيراً ما كنا نلتقي أنا وميشيل وخليل في “الاستديو”. نشتري بضعة أقراص فلافل، وأوقية زيتون أسود، ونوعاً من الأجبان وبطحة عرق لإحياء سهرتنا. نترنم لسماع أغنية ياس خضر ” اعزاز والله…”. كان ميشيل يمارس هوايته في صبّ العرق بكؤوس اشتريتها خصيصاً من معمل زجاج يدوي في باب شرقي، حافظ على هذه المهنة التراثية. في تلك الأجواء كانت تشتعل الرغبات الدفينة في دواخلنا، لكني بصراحة كنتُ أمقتُ الاستغراق في أحاديث رومانسية، لا تخلو من استيهامات جنسية تستنزف طاقتنا. اقترحت على ميشيل وخليل بدلاً من تلك الأحاديث، أن نفضّ بكارتنا بزيارة بيت للدعارة. استنكرا الأمر بطهرانية كاذبة، لأنهما لم يجرؤا في الواقع على خوض التجربة. ذهبت مع صديق آخر ومارسنا الجنس مع مومس عاملتنا بلطف لصغر سننا. كنت اود أن أضع خطاً فاصلاً بين الشهوة الجنسية، وعاطفة الحب النقية كي أميز بينهما. أكثر من ذلك لم يكن لدّي مشكلة في إقامة علاقة جنسية عابرة مع امرأة مطلقة تسكن في البناء الذي يقع فيه   ” الاستديو”. تلك العلاقة أنضجتني لأنها كانت في مرحلة مفصلية من حياتي. حيث خلصتني من أوهام الخلط بين الحب والجنس، بينما ظلّ ميشيل وخليل يتخبطان في أحاديثهما المملة عن الحبيبة المتخيلة، دون أن يجرؤا على خوض تجربة حقيقية يرويان فيها عطش الجسد، ويطفئان جذوته!

  لم يملْ ميشيل الحديث عن رنا زينو رفيقته في الحلقة الماركسية. كنت ألاحظ هيامه الشديد بها، لذلك حينما جاءت بصحبته إلى “الاستديو” هممتُ بالخروج بذريعة انشغالي كي يخلو لهما الجو. لكنه فاجأني بطلبه تصويرها فيلماً كاملاً (ابيض وأسود) بلقطات فنية من زوايا مختلفة. ضحكتُ في سرّي لطلبه، وكنتُ أفضل لو يقضي وقته معها منفرداً، لعله يكسر الحاجز بينهما، لكني تحت إلحاحه أذعنتُ لطلبه، وتنازلتُ عن أعذاري للمغادرة.

   شعرتُ لحظتها أن رنا مثل وردة تحتاج إلى ماء يرويها. لكن ميشيل لم يلتقط للأسف تلك اللحظة الثمينة، لأنه كان غارقاً في عتمة انفعالاته، التي لا تفضي فعلياً إلّا إلى فراغ داخلي، واتساع الفجوة بينهما. لذلك حينما اشتغلت على الصور جعلتها تبدو كأنها صورا لامرأة حلمية منسوجة من خيوط رمادية متدرجة الألوان. تبدو حاضرة الجمال، لكنها نائية وبعيدة المنال.

مقتطف من رواية “ترانيم العتمة والضوء” – من يوميات رياض حبّو

تنشر بإذن خاص من الكاتب

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here