الاستثناء والقاعدة

0

عبد السلام نعمان، كاتب ومترجم من مواليد 1956، مدينة القامشلي ويعيش في السويد.

مجلة أوراق العدد 13

قصص

ما كنت أتصور أن مقالة علمية نشرتها لي إحدى الدوريات التي تُوزّع وتُقرأ في أوساط ضيقة ومحدودة بطابعها العلمي والمهني… أقول ما كنت أتصور أن المقالة ستخلق لي كل هذه المتاعب التي لم تخطر قط على بالي ولم أكن أتوقعها بأي شكل من الأشكال. والذي لم أتوقعه على الإطلاق ولم يكن في ذهني أبداً هو أنها أثارت من الضجة في المدينة ما لم يحدث لأية مقالة من قبل وأخيراً وقد كان آخر شيء أريده لنفسي هو هذا الوجع في الرأس الذي طالما جهدت لتجنبه.

والحقيقة هي إن ما أثار استغرابي هو وصول هذه المقالة إلى أيدي كل هؤلاء الذين احتجوا عليها وشتموني وهددوني (وكانوا السبب في هروبي أولاً من المدينة ولاحقاً من البلد واختيار مكان إقامة مجهولة للعامة وتغيير اسمي خوفاً من الملاحقة)، وحتى إن بعض المقربين مني اعتبروا القضية تمسهم بشكل أو بآخر وراحوا يعاتبونني، والبعض منهم اختار الابتعاد عني، بينما راح البعض الآخر يناقشني ويحاول دحض ما أكدته لا بل وتسفيه ما توصلت إليه…

وما توصلت إليه استندت فيه إلى الحكمة الشعبية التي أردت أن أضع لها قاعدة علمية ترتكز إلى البحث والمعاينة والاستقراء والاستنتاج… ووضعت نصب عيني مشروعاً ضخماً أتناول فيه الأمثال الشعبية بالتحليل في ضوء هذه الفكرة التي سحرتني وبخاصة ما اكتشفته وحققته في المثل الأول الذي تناولته أو بالأحرى نصفه والذي ينص على أن “كل طويل لا يخلو من الهبل” واقتنعت في قرارة نفسي اقتناعاً راسخاً بأن هذا المثل لا يتطرق إلى حكمه الشك وعممته حتى أنني لم أدع فيه مجالاً للاستثناء… وذهبت بعيداً إلى حد الادّعاء بأن لكل قاعدة استثناء باستثناء هذه القاعدة… والذي ولّد لدي هذا الانطباع هو أن كل الأشخاص الذين كانت معرفتي بهم وثيقة أو الذين تناقل الأصدقاء الحكايات عنهم أو الذين تابعتهم ولاحقتهم وطلبت معلومات عنهم في كل مكان في المدينة… وطبعاً كانوا كلهم من طوال القامة وقد شكلوا المادة الدسمة لإنجازي الضخم…

وإليكم بعض المعلومات عن الأشخاص الذين كانوا “فئران” مختبري والذين لم أشر إليهم في المقال حرصاً على integritet   بينما قدّمت في البحث كمية هائلة من أصناف السلوك وأنماط التفكير لديهم…

كان شاعراً في الثلاثينات من عمره… أقام العديد من الأمسيات الشعرية ونشر في الكثير من المجلات الرسمية وغير الرسمية… كان يدخن كثيراً حتى أن السيجارة أصبحت جزءاً لا ينفصل عن ملامح وجهه. روى عنه بعض زملائه حين كان طالباً في المدرسة الثانوية أنه قاطع مرة مدرس اللغة العربية الذي كان يتحدث بحماس عن الشعر وكان معروفاً بدفاعه عن الشعر الكلاسيكي وتهجمه على الحداثة وشعرها… قاطعه بقوله إنه يكتب الشعر، وبالرغم من الدهشة الكبيرة التي اعترت الأستاذ وارتسام الحيرة على محياه إلا أنه وهو المعروف بوقاره الفائق الحد تمالك نفسه وطلب من صاحبنا أن يسمعه بعض ما يكتبه من الشعر… فقام ذاك واتخذ وقفة الخطيب وبدأ يقرأ قصيدة بدأها بـ “حملت فأسي… على رأسي” وأنهاها بـ “أنا الفلاّح يا سلمى… فماذا ينفع العلما” والحق يقال أن شعر صاحبنا في مرحلة نضجه الشعري وإن تجاوز مثل هذه التعابير إذا ما أجزت لنفسي حق استخدام مفاهيم نقّاد الأدب إلّا أنه لم يخرج عن نمطها.

وآخر وكان مديراً للسجن… كان يبدو من مظهره هادئاً ورزيناً لا يمكن أن يسيء لذبابة، إلاّ أن السجناء رووا عنه حكايات تقشعرُّ لها الأبدان، وأكد الكثيرون ليس على قسوته فحسب وإنما حمقه أيضاً… حكى لي أحد الأصدقاء وهو معلم في إحدى المدارس الابتدائية في المدينة… حكى إن صاحبنا جاء مرة إلى المدرسة ليسأل عن وضع ابنه وسلوكه فأعطاه المدير والمعلمون صورة عنه لا تسر أي أب… فمن الكسل وإهمال الوظائف المدرسية والشغب إلى الهرب من الدوام المدرسي حدّث ولا حرج… فما كان منه إلا أن طلب منهم استدعاء ابنه فاستجابوا لطلبه دون أن يدركوا هدفه من ذلك وحين جاء الابن إلى الغرفة لم يمهل الأب أحداً من الموجودين لحظة وهرع إلى الابن ليشبعه ضرباً أمام الحضور الذين لدهشتهم لم يعرفوا كيف سيتصرفون وإنما لاذوا بالصمت وانتظروا انتهاء المشهد الذي ختم بتوجه صاحبنا إلى المدير والمعلمين قائلاً “إنه لكم… خذوا لحمه وابقوا لي عظمه”.

الثالث كان ولا يزال سياسياً مخضرماً من المعارضة السياسية الإيجابية… وبداية دعوني أصارحكم القول بأني وقفت أمام اسمه محتاراً بين ضمه للقائمة أو اعتباره من الاستثناء فقد كان هذا الشخص معروف عنه بتأقلمه دائماً مع الأوضاع الجديدة… التقلب الذي أفاده كثيراً وأطال عمره السياسي الذي كان مهدداً غير مرة… وهذه الصفة لا يمكن أن تكون إلا في الناس الثاقبي النظر الذين يستقرؤون الوقائع والمعطيات بشكل بارع بيد أن ما شجعني على ضمه هو أني تعرفت عليه من قرب الأمر الذي أكد لي تفاهته وحمقه بالإضافة إلى جهله وعدم فهمه لأمور كثيرة يطرحها حزبه ويدعي جهاراً ومتفاخراً بأنه ساهم شخصياً في صياغتها… ويروي بعض الثقاة عنه أنه مرة كان مع أخيه الكبير وقد أخذا لبن العائلة ليبيعاه في المدينة وبعد أن فرغا من مهمة البيع تشاورا حول شراء طعام ليأكلاه فقر رأي صاحبنا على شراء بعض الخبز واللبن ووافقه أخوه والذي يجدر بالذكر أنه كان أطول منه على الاقتراح. ومن طريف عبارات صاحبنا السياسي كان تعبير المؤخرة بدلاً من النهاية فيقول على سبيل المثال “من البداية إلى المؤخرة…”

وإليكم ردود الفعل التي صدرت عن هؤلاء… وكان أولها من مدير السجن الذي أرسل لي مبعوثاً راح يهددني حيناً ويلاطفني أحياناً ويطلب مني أن أشطب على المقالة بواحدة أخرى أدحض فيها كل ما طرحته في الأولى بيد أني لم أتردد لحظة واحدة في إبلاغه إن لكل قاعدة استثناء فلماذا لا يعتبر سيده استثناءً وقلت له كذلك إني على استعداد لأن أنقل لسيادته ذلك ولعلمه إني أفعل ذلك دونما خوف أو تملق… ويبدو أن كلامي قد فعل فعله وأرضى حضرة المبعوث الذي لعلمكم لم يكن أقصر من سيده… وتركني وهو في غاية الانشراح.

حدث الأمر نفسه مع الشاعر ولكن مع فارق بسيط وهو أنه حدث وجهاً لوجه في مطعم عرف رواده بأنهم من أوساط الثقافة والأدب والفن… وقد جاء صاحبنا وجلس مباشرة إلى مائدتي دون أن يستأذنني في ذلك… وراح يراوغ ويناور ويحاول أن يوحي لي بأنه غير مهتم على الإطلاق بالنفاية (هكذا نعت مقالتي) التي نشرتها والتي لن تستطيع أن تنال من مكانته الأدبية وألمح في ثنايا حديثه إلى هجاء مرّ عليّ توقعه في قصيدة له آتية ولا ريب فيها ولن تقوم لي قائمة بعدها… وبينما راحت ثورة غضبه الكامنة في أعماقه والتي حاول جاهداً ألاّ يظهرها تهمد شيئاً فشيئاً بدأت أنا بالتلميح إلى مسألة القاعدة والاستثناء وأكدت له بأنه بناءً عليها فإنه غير مشمول بهذه القاعدة ورحت شيئاً فشيئاً أنفخ في جذوة الغرور في نفسه إلى أن هدأت الثورة وخمدت تماماً… وعندما أنهيت عشائي وذهبت لأسدد الحساب فوجئت بأنه مدفوع ولم أجهد نفسي أو أحتج لأسأل النادل لمعرفة من الذي فعل ذلك وبدلاً من ذلك طلبت منه أن يشكره عني وانصرفت.

الطامة الكبرى كانت في رد فعل السياسي أو بالأحرى رد فعل الأصدقاء الذين عرّفوني به… فقد غسلوني بوابل من الشتائم وبكل أصناف التوبيخ والتقريع ونعتوني بناكر الجميل والبعض منهم أبلغني عن طريق آخرين بأن عليّ أن أدرك حجمي وأعرف حدودي وقدر نفسي… الأمر الذي فهمت أنه تهديد مبطن وجعلني ألجأ متوسلاً إلى حجتي عن الاستثناء والقاعدة بيد أن معظمهم لم يرض بها وحتى أن الكثير منهم رفض الاصغاء إليها كلياً… والحقيقة هي أني استغربت مواقفهم وتصرفاتهم التي ضاهت في قوتها وحرارتها مواقف وتصرفات المحامين تجاه موكليهم…  ولكنهم في الوقت نفسه أثاروا في نفسي الشك بأن صاحبهم لم يقرأ المقالة أصلاً وإصرارهم وعنادهم في موقفهم قوّيا شكوكي إلاّ أني توجست شراً حين انصرفوا عني غاضبين وتغلغل الخوف إلى أعماقي وبخاصة أني استحضرت من الماضي صورة رجل الدين الذي ضربه أصحاب هذا السياسي بأمر منه لأنه تهجّم في إحدى المناسبات على حزبهم… وكانوا يتباهون بما قاموا به واعتبروه درساً لكل من تسول له نفسه أن يفعل ما قام الرجل به وكثيراً ما كانوا يتفاخرون بأنهم جعلوا عمامته تتدحرج على الرصيف.

ولكن المفاجأة المرعبة حملها لي الهاتف ذات يوم… صوت بدا لي غريباً تماماً ولم يسبق لي أن سمعته من قبل ولم يعرّف صاحبه على نفسه وإنما قال لي دون تحية أو مقدمات بنبرة ملؤها السخرية: أنسيت أيها الغبي أنك تُعَدّ من طوال القامة. ولم ينتظر اللعين جواباً مني وإنما وضع سماعة الهاتف التي كانت تردد صدى قهقهته المجنونة.

استيقظت من ذهولي ودهشتي واسترددت أنفاسي المنقطعة من هول المفاجأة التي حملها لي بكلامه المرعب… ورحت أتساءل في أعماقي عن شخصية الرجل ولماذا رفض أن يكشف عن نفسه ولم ينتظر جواباً مني وما علاقته بالموضوع… ولكن أكثر ما شغل بالي كان السؤال المخيف الذي طرحه والذي رحت بدوري أطرحه على نفسي… ترى هل ما قاله عن طولي صحيح… وإذا افترضنا إنه كذلك أفلا يمكنني أن أعتبر نفسي استثناءً من القاعدة.

وشيئاً فشيئاً بدأت أفكر بهدوء في كل الذي حدث معي وبالورطة التي ورطت نفسي بها … وأخذت استعيد توازني وهدوئي وحمدت الله على أني تناولت نصف المثل فحسب وكنت قد تركت نصفه الآخر ” كل قصير فتنة ” لدراسة أخرى… ولكم أن تتخيلوا عظم المصيبة لو أني تناولت المثل كله… وأعتقد أنه لن يصعب عليكم الاستنتاج بأني طردت من ذهني كل ما فكرت به من تحقيق مشروعي حول تحليل الأمثال الشعبية وفق فكرتي السابقة فلقد اكتشفت إن كل ما يقال عن حكمة الشعب ما هو إلاّ ضرب من الوهم.