الأسلمة وإشكال هوية الدولة السورية

0

حمّود حمّود، كاتب وباحث سوري، متخصص في الفكر الإسلامي.

مجلة أوراق – العدد 14

الملف

لا بد أولاً من الاعتراف أنّ هذا العنوان فضفاض جداً؛ فهو في الوقت الذي يوحي به إلى كل شيء أو إحدى أهمّ إشكاليات الألم السوري، إلا أنه بنفس الوقت لا يوحي إلى أيّ شيء، ويبقى فارغاً من محتواه، وتحديداً حينما تُخطف استحقاقاته وتُساق ضمن جعجعات مسيّسة أو استسهالية سريعة. مفردات مثل «الإسلام»، «الهوية»، «الدولة»…الخ، تبقى مفردات ثقيلة يصعب ضبطها في بحث كبير، فما بالنا بعجالة كهذه. وعموماً فإنّ هذا الاعتراف يقتضيه القول أنّ هذا المقال لا يهدف على الإطلاق معالجة هذه المفردات، بمقدار الدعوة إلى إعادة التفكر بها جدياً، طالما أنها تُشكّل، وهذا رأيي، وجهاً من أوجه «سُرّة» الصراع «في» سورية (أما الصراع «عليها» فهو موضوع آخر). فلا أحد يمكنه الادعاء أنه قد قبض على مفهوم الإسلام وتموضعاته الأفقية والتاريخية في مجتمعات مثل مجتمعاتنا (وماذا يعنيه تمثل الإسلام بها وتمثلها له)، أو قد قبض على مفهوم الدولة وتشبع بتجسيداتها التاريخية في أفقنا المشرقي، ذلك المشرق اليتيم الذي لم ينل حظه إلى الآن حتى لأنْ يشتم رائحة الدولة بمعناها السياسي-الحداثي.

تواجه سورية اليوم، على ضوء تشابكها بالعديد من القوى الإقليمية والدولية، نمطين، على الأقل، من الأسلمة، كل منهما مكمل للآخر: الحركات الأصولية السنية العديدة الوليدة حديثاً، والسياسات الإسلامية للنظام السوري الذي لا يسعى فحسب إلى تثبيت سلطانه من خلال ترسيخ إسلام ما على مقاسه، ولكن أيضاً إلى خلق أرض خصبة لأصوليات إسلامية مستقبلية. وكلا النوعين مدعومان من قبل قوى خارجية (السعودية، قطر، إيران، تركيا… إلخ)، ويسعى وراء رؤيته الخاصة في خلق إسلام متخيل وفرضه كهوية على سورية، والتي لا يجب الركون في تفسيرها استناداً إلى ما يزعمه الأصوليون، بل بالإحالة إلى تعقد الشرط السوري المعاصر، كما سيأتي معنا.

القفز إلى اصطلاحات ما دون الدولة أو وما فوقها (وأياً تكن هذه الاصطلاحات)، وبخاصة إذا كان هذا القفز ينطلق من/ أو ينضح بالأثنوية والشوفينية القومية، أو صراع قوى المعارضة حول أي «دولة وطنية» يريدونها أو صراع الإسلاميين فيما بينهم حول «أيّ إسلام» يريدونه للدولة السورية (وتحديداً بين الإخوان الكلاسيكيين والمتأخونيين حديثاً من المعارضة السورية وأذرعهم الأيديولوجية الأصولية، من جهة، وبين السلفيين والأذرع الجهادية، من جهة أخرى)، أو صراع كل هذه الأصوات الإسلاموية مع نظام البعث وأذياله في المنطقة حول «معنى الإسلام» لسورية…الخ، نقول إنّ كل هذه الصراعات تكشف أمامنا العمق الكبير لمدى التأزم السوري بين معظم أطيافه في ضبط هذه المعاني. وهنا يمكن أنْ نضرب مثالاً على هذا من لقاء، ليس بالقديم كثيراً، لبشار الأسد منذ سنوات مع سدنة الدين وبعض الطوائف السورية([1]):

القارئ بتمعن لكلمات بشار الأسد التي نطق بها أثناء هذا اللقاء يدرك بالفعل إشكالاً جوهرياً من ألمنا. لم يكن الرجل ينطق من فراغ أو أنه كان «يتفلسف»، كما يشاء النقد الدارج للغته أو أسلوبه الخطابي، حينما منح سورية، كدولة، صفة الإسلام وأعلنها «دولة إسلامية» ببعض المعاني. كل سوري يدرك هذه المعاني وتحديداً حينما يشار إلى صلابة الإسلام في الدستور السوري فيما يخص قانون الأحوال الشخصية…الخ (وربما ننحي هذه النقطة جانباً). لكن أنْ تصدر هذه الكلمات من رأس دولة لم يكلّ حزبها «القائد» من تصوير نفسه ضمن الطلائع العلمانية في الدولة العربية في مقابل «القوى الرجعية» (الخليجية تحديداً)، لهو أمر جديد جداً ويمثل، بالفعل، رصاصة أخرى على الجسد السوري. بيد أنّ ما يجب إدراكه هنا أنّ هوية الإسلام التي ألحقها الأسد اليوم بلفظة «الدولة»، اليتيمة أصلاً، ليست هي تلك المعاني التي نطق بها الأسد بغرض تبرير تعبيره عن أنّ سورية دولة إسلامية. «سورية الإسلامية» ليست أيضاً تلك النسوة القبيسيات اللواتي التقينه مؤخراً في ديسمبر (2019)، ولا حتى ما يتخيله «السدنة الأصوليون» من أصحاب العمائم الذين أنعشت أفئدتهم على وقع سماع الأسد منح سورية هذه الهوية الدينية وهم ملتفون في جمعهم حول قائدهم التاريخي.

والحال، أنّ أسلمة الأسد لسورية لا يمكن قراءتها (على الأقل في شرطنا الحالي) إلا وفق ما فُرض عليها وما تواجهه اليوم من ظروف جديدة معقدة. فمن جهة، لدينا عقدة التيارات الإسلامية التي تستمد خيوطها من خيوط عقد الأزمة السورية، بل وحتى كذلك من تعقد البنية الفكرية الأصولية ذاتها، سنياً وشيعياً. إنّ هذه العقدة هي التي أفرزت لنا اليوم لا إسلاماً سياسياً واحداً، مشروعاً إسلامياً دولتياً متجانساً، بل «إسلامات سياسية» تتصارع في المقدس وعلى المقدس، إسلامات جديدة كل الجدة على ساحة الإسلام السياسي الكلاسيكي، حيث يحاول كل طرف فيها خلق هويته المخيالية وفرضها على الواقع السوري، الذي يناقض أي مشروع هوية وطنية. لقد غدت سورية، والصراع الأصولي هذا، «أرض صراع العدميات».

ومن جهة ثانية، لدينا الشرط الأصولي الإيراني وما يفرضه من تعقيدات جديدة على الفضاء الديني السوري ومحاولة أسلمته بحسب رؤيته ومصالحه. من هنا كان تبرير الأسد في نفس اللقاء من خلال مقارنته بين البلدين بكونهما يتخذان الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع: فالجمهوريتان «إسلاميتان» في نهاية الأمر (هكذا). بل حتى السؤال الأموي الذي تأسطر على يد الأصوليين السنة والشيعة، والذي يشكل بالنسبة لإيران الأصولية شوكة أسطورية، كان حاضراً أيضاً بثقله اللاتاريخي في أسلمة الأسد.  كيف يمكن أسلمة سورية وفق هذه المسطرة الإيرانية من غير طرد الأمويين من ذاكرة دمشق؟ بالطبع لا يمكن. هكذا ليخرج الأسد بنتيجة أنّ الأمويين «ليسوا سوريين، [بل] هم سكان الصحراء» من أتباع قريش.

طبعاً، حكم الأسد ذلك عصيٌّ على التعليق أيضاً! وعموماً، إننا نفهم ما الذي يُراد بهذه الأسطرة، وتحديداً في ظل الصراع على هوية سورية الإسلامية «المفترضة» وفي سياق الجدالات الأسطورية التي تدور بين رحى أصوليّ السنة والشيعة؛ إنها تأتي في سياق يراد به لسورية من قبل إيران أنْ تلبس ثوباً إسلامياً جديداً متمايزاً على ما استقر في الثقافات الشعبية السورية (وهذا الأمر بالفعل ما نجد ترجمته في كل نشاط إيراني في سورية. وعموماً، هذا موضوع آخر). وما على العمائم السنية سوى تشريع هذا من داخل الدائرة العلمائية السنية (وترجمة ذلك في الإسلام الشعبي)، تلك العمائم الأصولية التي يترأسها، مع وزارة أوقاف الأسد، «مفتي الجمهورية» والذي تحولت وظيفته ليس إلى مجرد موظف يستخدم لسانه البليغ في الدفاع عن «الجهاد» إلى جانب الأسد والدفاع عن ألوية «فاطميين» و«زينبيين» والتنكيل بكل من يقف في طريق هؤلاء الاستطالات الأصولية فحسب، بل أيضاً عليه المصادقة والمشاركة بالأسلمة التي تطلبها إيران والأسد.

ما يهمنا إدراكه هو ليس فحسب شدة النكوص في مسائل تسييس الإسلام وتبرير الوجود الإيراني في سورية، حتى وإنْ اقتضى الأمر أنْ ينخرط رأس النظام «العلماني» (؟) بسفسطات الأصوليين حول الحضور التاريخي للأمويين والعباسيين، بل أيضاً في المساعي الحثيثة في إعادة ضبط هوية جديدة للإسلام والدولة السورية وفق صراعات إقليمية طائفية ورسم جديد للجغرافية بما تشتهيه الرياح الإيرانية والتركية وبعض الدول الخليجية…الخ. وللأسف فإنّ انخراط أجزاء كبيرة من المعارضة السورية في هذه الألعاب بتقديمها هي الأخرى نسخها الخاصة عن الإسلام وعلاقته بهوية سورية، لا يكشف سوى عمق الانحدار في مفهومة الدولة وعلمنتها.

يتجسد أحد الأهداف الرئيسية لنظام الأسد بإنشاء مؤسسة سنية جديدة وإعادة ضبط آليات السيطرة على الإسلام، وهذا بالفعل ما بدأت معالمه بعد سنة 2007، ليصل الأمر ذروته مع قانون الأوقاف الأخير. وإذا كان صعود الحركات الإسلامية (خاصة الإخوان المسلمين) في سورية في السبعينيات قد ساهم في إعادة أسلمة سورية، فإنه لا يمكن التقليل من السياسات الإسلامية الضدية لحافظ الأسد على ذلك بخلقه فضاءات دينية جديدة رعتها السلطة، والتي سعت حتى لإعادة “تسنين السنة” بما يتوافق وسلطان الأسد. مثل هذه السياسات هي التي نجدها اليوم ماثلة أمامنا مع بشار الأسد في إعادة أسلمة البلاد، لكن بوتائر أصولية عالية جديدة مرعية بهندسة إيرانية.

وسواء أكان تدين المجتمعات السورية يمثل أرضاً خصبة في توليد الإسلام السياسي أم لا، إلا أنّ الخطر الفعلي يتمثل في «التبييئ» المديد لتنظيماته الأصولية التي تنتشر على معظم البقاع السورية، سواء في المناطق تحت قبضة الأسد ورعاته الإيرانيين، أو تحت قبضة المعارضة ورعاتها من الأصوليين. لا شك، هناك باحثون يذهبون إلى أن الاستعداد الديني الاجتماعي يرتبط دينياً وسوسيولوجياً بصعود الإسلام السياسي، بيد أنني أقلل من أهمية هذا الطرح، على الأقل في مثالنا السوري الراهن الذي نعيشه. والحال، فإن معظم التفريخات الإسلاموية التي عايشناها حديثاً لم تكن تجسد الجواب المباشر على سؤال دينية المجتمعات السورية، بمقدار ما جسدت حالة “صناعية”، بألف ولام العهد، فرضت على الواقع السوري ومثلت رؤوس أموال سياسية وأصولية لجهات دولية وإقليمية، لتخلو ساحاتنا السورية بالتالي «لصوت الجهاد» ومشاريع زينب والحسين والبغدادي والزبير ومحمد…الخ. وربما من المهم أن نتذكر أن جزءاً كبيراً من المعارضة السورية، التي تصف نفسها زوراً بالعلمنة، قد ساهمت، منذ البداية، بشكل مباشر وغير مباشر لا بنكران وتجاهل الطابع الإسلاموي والطائفي وصعود تيارت أصولية، لا بل حتى ساهمت هي نفسها بأسلمة الحراك السوري، تحت ذريعة أن هذه الدينية هي حالة طبيعية تستجيب لـ«فطرتنا الإسلامية»، طالما أن الدم السوري هو دم إسلامي بأصله! هذا نظر أصولي بامتياز، ويتقاطع مع ما يدعيه الأصوليون أنفسهم في ربط الدين بالدم، وتحويل هذا المخيال لهوية لسورية.

أعتقد أنّ أهم ما كشفه ألمنا السوري في السنوات الأخيرة لا يقاس فحسب بالمسطرة الأخلاقية، والتي أفاض البعث بانتهاكها (ومعه طبعاً جزء كبير من المعارضة السورية المتأسلمة)، بل كم أننا بعيدون حتى من توحيد حتى مفهوم ما هي سورية التي نطمح إليها (هل نقول هذا على المستوى الكردي والعربي وجدله؟ أم على المستوى القبائلي والطائفي؟…الخ) وما هو موقع الإسلام فيها. من هنا الحاجة الملحة في إحداث قطيعة مع الموروث الذي أوصل الجسم السوري لما وصل إليه وضرورة الوعي النقدي وإعادة التفكر تاريخياً بمفردات الدولة والإسلام ووفق «شرط سوري» حصراً وما يتطلبه هذا الشرط، حتى وإنْ تم هذا الوعي النقدي بشكل براغماتي بحسب ما يقدمه الممكن التاريخي أمام سورية.


 ([1])يمكن مشاهدة جانب من اللقاء: https://www.youtube.com/watch?v=ZczHkDXKrHg&t=11s