الأدب بين الرقابة الأخلاقية ومقولة “الفنّ للفنّ”

0

يقول جوناثان غوتشل في كتابه “الحيوان الحكّاء”: “إنّ الناس مستعدّون لتخيّل أيّ شيء تقريبًا، وهذه المرونة لا تمتدّ إلى عالم الأخلاق”، فإنّهم يبدون مقاومة واقعية وخيالية عندما نحاول تبديل قناعاتهم بأنّ السيئ جيد، وأن الجيد سيئ.

وطرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته لسبب ذي طبيعة أخلاقية، وعلى الرغم من أنّ الروائيين والقاصّين يسردون لنا حكايات لا أخلاقية، إلّا أنّ الأدب بطبيعته أخلاقي. وحوكم غوستاف فلوبير بتهمة أنّ روايته “مدام بوفاري” معادية للأخلاق والدين. ودافع المحامي عن فلوبير بالقول: “إنّه على الرغم من أنّ الرواية تصوّر تصرفات لا أخلاقية، إلّا أنّها أخلاقية في ذاتها، حيث تخطئ إيما بوفاري وتعاني بسبب ذلك”.

ويقول عالم النفس جيروم برونر: “إنّ الأدب العظيم مخرّب في روحه”. ولكنّ العدالة الشعرية المتواجدة في لعب الأطفال التي لحظها ديفيد إلكايند في كتابه “قوة اللعب”؛ نجدها أيضًا بقوّة في الآداب.  

ويرى جون غاردنر أنّ الأدب: “خطير ونفعي جوهريّا، إنّه مباراة تخاض ضد الفوضى والموت، ضد الأنتروبيا”. وإن كان لنا أن نبتسر أقوال تيري إيغلتون في كتابه “نظرية الأدب” نقول: إذا أردت لرسالة أن ترسخ في العقل البشري، فصغها في قصّة. من هذا المنطلق يرى إيغلتون أن الأدب مؤدلج مهما حاولنا أن نكرّر المقولة المشهورة: “الفن للفن”.

ككاتب هل ترى الأدب أخلاقيًّا بطبعه أم لا؟ وإن كان أخلاقيًّا، فأعظم نتاجاته تعارض وتهدّم الأخلاق والآداب والتقاليد القارّة؛ فإذًا كيف نطلب منه أن يكون ثوريًّا محرّرًا للإنسان، من دون أن يخوض في المحظورات؛ الدينية والسياسية والجنسية؟

هذا ما طرحناه ضمن التحقيق أدناه على مجموعة من الكتاب والباحثين العرب وتلقينا إجاباتهم المنشورة هنا.

ولقد تعدّدت وجهات نظر المشاركين في التحقيق، إلّا أنّها اتّفقت على أنّ أخلاقية الأدب لا تكون إلّا في ثوريته وخوضه في التابوهات.

يستشّهد جوناثان غوتشل برأي وليم فِلش الذي يجد في أخلاقية القصّة ما يمكن وصفه بالتمرّن على حلّ المشاكل التي تعترض الإنسان في الحياة. ويقول الباحثون في حياة هتلر بأنّ موسيقى فاغنر وتنظيراته السياسية قد لعبت دورًا حاسمًا في تشكّل شخصيته. وفي المقلب الآخر لتأثير الأدب والفن بشكله الإيجابي قال المؤرخ بن جونسون عن رواية “كوخ العم توم” التي صوّرت معاناة الملونين قبيل الحرب الأميركية الأهلية، بأنّه كان للرواية دور في الموقف الحيادي للإنكليز، على الرغم من تحالفهم مع الجنوب الأميركي، وإلّا لكانت الحرب الأهلية الأميركية قد انتهت لصالح الجنوب! ولنا أن نقول في النهاية مع الشاعر شيلّر: “الشعراء مشرّعون مجهولون”. وأمام دورهم هذا، يحقّ لهم خرق المحظور.

(باسم سليمان) 

أسماء جزائري (الجزائر): الكلمات مسدسات!

إنّ من أهم الجمل التنويرية التي قالها فولتير: “قد أختلف معك في الرأي، ولكنّني مستعد أن أدفع حياتي ثمنًا لحقّك في التعبير عن رأيك”، فهل يستحقّ الأدب كلّ هذه التضحيّة؟ هذا ما تدافع عنه الكاتبة الجزائرية أسماء جزائري:

بين خريف 1835 وربيع 1836 شهدت ألمانيا أشدّ أنواع المُلاحقات للكتّاب وأكثرها تعسفًا في القرن 19، فقد عمل خلالها كبار الدوّلة شخصيًا كملاحِقين، ويعُود ذلك إلى ظُهور رواية “فالي الشّكاكة” التي ألّفها كاتب شاب غير معروف يُدعى كارل غوتسكو. وقد جاءت ردّة فعل السّلطات فوريّة إذ سحبت ترخيص دار النّشر، ووصف الملك فريدريش الثالث العمل بالمقزّز وخطّ جلالته شكوى لدوق بادن. ساد الاستياء الأخلاقي حينها وبعد رُبع عام من منع “فالي” صُودر كتاب يحمل عنوان “مادونا” للكاتب تيودور مونت، وصُنّف على أنّه من الكُتب المُنحطّة أخلاقيًّا التّي تهدّد بفساد الأخلاق. وانضمّ بعدها كتاب “الحملات الجمالية” للودولف فينبارغ إلى قائمة الرّقابة للكتّاب الممنوعين، وضمّ إليهم الكاتب لاوبه بسبب حماسه الشاعريّ الليبرالي، وقد كان رئيس تحرير صحيفة “لايبزيغر تسايتونغ فيور دي إيليغنته فيلت”. هذه الأسماء الأربعة، ستمثّل لاحقًا ما يسمى بجماعة “ألمانيا الفتاة” التّي وقفت في وجه المجتمع المُحافظ والسلطة البروسيّة ككلّ، والتي عانت بعدها اضطهادًا وملاحقة شديدين، أحكمت إثرها السّلطة قبضتها عليهم حتّى حطّمتهم تحطيمًا، وكسرت شوكتهم، فتحوّلوا إلى آباء محافظين مخلصين للدّولة متزمّتين أخلاقيًّا.

فكم يا ترى من عمل مخنوق طُبع بحلقة حبل تحيط عنقه؟ وهل هنالك كلمات فاسدة حقًا؟ يحاول الكثيرون رميها داخل المزابل، واستخدام كلّ أصابع الإشارة المقزّزة نحوها كمعتدية على الذّوق الأخلاقي؟ وإن كانت الكلمات تفسدُ، فلماذا تبقى في شكلها كحياة يوميّة، وكأنّما نقلها إلى عمل ما؛ ما هو إلا مُحاولة الصّعود بها إلى طبقة النبلاء؟ فالخدم في قصر الكلمات هذا لا يستطيعُون الذّهاب إلى الطوابق العلويّة، أو حضور حفل أخلاقيّ تكون فيه الكلمات ملتزمة بالرّقص على إيقاع مألوف وبالطّريقة الأرستقراطيّة. إنّ هذه الكلمات المتهّمة بالفساد هي الأخلاق المستبعدة فقط عن الذّات، فنحن نمارس كلّ شيء، لكنّنا مجتمعات تودّ لو أنهّا لا تلتقي بما تُمارسه وجهًا لوجه، حالة من رفض النّهوض أو الاستيقاظ؛ خاصة إذا ما كان ذلك بلا جدوى، فيلجؤون إلى رفضها بالمزيد من الرّفض وصناعة المجاز المنضبط.       
يقول جان بول سارتر: الكلمات مسدّسات محشوّة بالذّخيرة، والكاتب متى تكلّم فقد أطلق النّار.

الأدب مساحة حدودها حريّتك، مكان للاعتراف، لا بالخطايا كخطايا، وإنّما بها كحياة كاملة، حياة يتّم جلبها، لا لحشر الواقع بين دفتيّ كتاب، بل لنقول بشكل أطول من المُعتاد ما حدث، ولنأخذ موقفًا من الوجود بالوجود ذاته، لذلك ليس من البريء مطالبة الأدب بأن يكون أخلاقيًا على الطّريقة: (كأن نطلب منه أن يتنازل عن قول الحقيقة) وبالوسائل اللاأخلاقية: (بأن يُحاكم ويحاصر ويزجّ  في السّجن وأن يطرد أحدهم من عمله، مثلما حدث مع تيودور مونت، حينما حرم من عمله في الجامعة كمدرس)، ما يجعل هذه الأخلاق تستفردُ بحقّ الوقوف أمام بوابات أصابعك لتصفية حسابات الجُمل التّي تحاول الخُروج كاملة بواقعها، أن تكون الحدود الأدبيّة نفسها والكاتب نفسه مهما اتّسع خياله، إنّه “الإنسان ذو البعد الواحد” الذّي تحدث عنه هاربرت ماركوزا في كتاب كامل، فمُهمة الأدب لا تتعلّق بقبولك من عدمه، هو ملزمٌ أمام اتساع الفكرة، إذ من المُعيب أن نطلب من الكلمات ركوعها حتى تكون ملائمة،  فحينما تكون ثمّة شجاعة على إطلاق نار الفكرة على واقع مشوّه يستعينُ باللّغة لصناعة مثاليّة أخلاقيّة تبتعد عن الواقع بطريقة أفلاطونية، علينا أن ننتظر ردًا مدويًّا على تلك الإصابة الدّقيقة، وفي حجم ذلك الرّد نستطيع معرفة مدى العمق الذّي تركته تلك الكلمة، فالأخلاق في الأدب هي ليست أخلاقًا، ما دامت تريدُ من خيالنا أن يُصاب بعاهة المحدوديّة، وما دامت تطالبنا وبطريقة سلطويّة بقتل جملنا وجعل العالم أفضل فقط في الكتب، إنّها تتحوّل إلى جلاد من الخارج والدّاخل. فهنالك الكثير من الأشخاص الذّين قتلتهم جملهم التّي اضطهدوها بدافع الخوف، ذلك الكتمان السيئ عاد إليهم لاحقًا على شكل سرطان أو أمراض مزمنة، إغماءات متكرّرة وفقدان للمقدرة على التّواصل أو الحديث، إنّه يعود ليأخذنا رويدًا رويدًا، أو دفعة واحدة. وهنا أجدني أتذكّر ما قاله بارث الذّي ظلّ أثره قويًّا لدرجة أنّ مسرحية “السّاحر الأكبر” المضادة للثورة التّي ألّفها غوته تستلهم لغته: “ما تعلمت أبدًا أن أتحدث بلغة أرستقراطية راقية، أو أن أقول كلمة واحدة معسولة في أناس يستحقون الضرب بالعصيّ، أو أن أكظم غيظ قلبي، إنّي أتكّلم بصريح العبارة ما دُمت حرًّا، وأقول في وجه الآخرين ما يروق لفكري، كيفما يروق لي”.

أيمن مارديني (سورية): السؤال ماء الحياة

يرى كولريدج بأنّه: “عليك أن تقتُل كي تشرِّح”، وإنّ الأدب الحقيقي، كما يرى الروائي السوري أيمن مارديني، لا يكون من دون الخوض في وحل الواقع الوجودي للإنسان:

أودّ أن أبدأ تعليقي، بأن أشارككم همّا شخصيًّا، ألا وهو: بأنّني أعاني من فوبيا المرتفعات، ليس على المستوى الفعلي فقط، بل على المستوى الفكري. فعليّا، أكره الأبراج العاجية، والأفكار التي تصدر عنها. أرفض الأنا (الإيغو) وإن كان سمة الفنانين عامة والكتّاب خاصة. أمّا بخصوص الأنا العليا (السوبر إيغو) فهي وهم في الفن، كما خطّ الاستواء نحتفظ به في الذاكرة فقط، وليس له من وجود فعلي. إذًا؛ كيف لنا أن نقرن بين الأدب والأخلاق، وأية قيم نقصد؟ وهي في تبدّل دائم، وتطوّر مستّمر من جيل إلى جيل، وليس من تقييم هنا!                                                                                                        وبالتالي يقودنا السؤال السابق إلى سؤال آخر: هل توجد رسالة أخلاقية في الأدب، وإن كانت بشكل غير مباشر؟ غير ما تعوّدنا عليه في الأدب الكلاسيكي! إذًا لا بدّ من موعظة تطرح في نهاية العمل الأدبي.

وهكذا، عندما نأتي على ذكر التابوهات في الأدب، أعتقد أنّنا نتعامل معها، وكأنّها هبة فكرية أو منحة من قبل الأدباء، لأنّهم تطرّقوا إليها، مع العلم أنّها، فعليًا، هي الفكرة الأساسية التي لا بدّ أن ينطلق منها الفنان للتعبير عن الواقع ليكشف أغواره، ويطرحها على لسان الشخصيات. حيث أنّها تكشف المستور المخبأ، وتفكّ طلاسم الظلام الذي يكتنفها؛ وإن درج التعامل معها على أنّها تجاوز للحدود ومحاولة للهدم! وهكذا، فأي بناء للمجتمعات يأتي من الأدب لا بدّ أن يكون بإضاءة العتمة في نفق الحياة الطويل.

وبغض النظر عن التقييم الأخلاقي الذي توارثناه، لنعود مرة أخرى إلى السؤال الأول؛ أية معايير أخلاقية نقصد؟ فالذي كان محرمًا في السابق أصبح حقًّا مكتسبًا الآن، وما هو مرفوض اجتماعيًا من قبل، هو سمة عامة اليوم. 

أعتقد أنّ المنطق يقودنا بعد ما ذكر أعلاه، إلى سؤال أكثر أهمية برأيي عن دور الأدب، ألا وهو: ما هو الأدب؟ وما هي مشروعية السؤال والتساؤل الذي يطرحه على المتلقي، وأهمية التفاعل معه وبعث روح النقد والنقد الذاتي؛ ليس على المستوى الشخصي والمجتمعي، بل إلى حدّ طرح علامات الاستفهام على المستوى الفكري والمسلمات التي دأبنا عليها في التفكير. فإلى ماذا يقودنا الجواب؟ إنّه يقودنا إلى سؤال آخر، وتساؤل جديد، والمزيد من علامات الاستفهام. إذ أنّ الركون إلى الجواب النهائي، هو موات وجدب، والسؤال هو من يحيي الحياة.

ربما يأتي قائل يقول، بأنّ الخراب والتدمير يحيط بنا من كلّ جانب، وأزيد أيضًا التفاهة؛ والتي أقصد منها: السائد السهل، البسيط الدارج، المتعارف عليه والمخدّر في نفس الوقت. وهل نحتاج في هذا التخبّط والفوضى إلى من يفتق الجراح، وينبش في النفس البشرية لتزيد الأعباء التي ناءت بها عقولنا؟

إنّ الإجابة هي: أجل، فمن الضرورة ذلك، فالفن عامة، والأدب خاصة قادر على ذلك، فهو وإن كان يثير التساؤلات من جهة، لا نستطيع أن ننكر المتعة التي يبثها فينا، واللذة في المعرفة، ومشاركة تفاصيل الحياة التي تأتي إلينا عندما نهتف: هذا الكاتب يقول ما نفكّر به، يحسّ بما نشعره، وما نبحث عنه. بعد كلّ ما تقدّم لا بدّ أن أعرض للدور الحاسم للأدب في التنبؤ. 

الأدب هو المتنبئ شبه الوحيد الذي نقرّ ونعترف أمامه بصدق رؤياه، ودقّة حدسه. وهو المعيار الذي يمكن أن يفرق بين الغث والثمين، الجيد والسيئ، وإن كنت أحبذ أن أقول: الفرق بين الفن والبضاعة.

وعود على بدء، فإنّ اعتقادي بضرورة الأدب، تأتي من دوره في الغوص في دواخل النفس البشرية، والسباحة في أعمق لججها وسراديبها المعتمة، التي تحتاج إلى النبش والتقصّي والبحث فيها. وكلّ ذلك لا بدّ أن يكون تحت ضوء الشمس. إنّ كلّ ما سبق يحتاج بالضرورة أن يكون الأدب قريبًا من قاع الحياة، بعيدًا عن الأبراج العليا، داخل المحظور، قريبًا من الحافة، من دون أن يقع في التفاهة.

بوزيد الغلي (المغرب): بين أخلقة الأدب وحرية المبدع

يرى سومرست موم بأنّ الكتّاب يخلطون رسالتهم الفكرية بالمربى الحلو للحكاية، ويزدرد الناس المربى من دون ملاحظة الطعم الخفي للرسالة مهما كانت. من هذا المنطلق يوازن الباحث المغربي د. بوزيد الغلي بين رسالة الأدب الجمالية والأخلاقية: 

هل يتحتّم أن يكون الأدب أخلاقيًّا؟ أم أنّه ينبغي أن يبقى “الفنّ للفنّ، والأدب من أجل الأدب”، كي يتحرّرا معًا من كلّ قيمة عدا القيمة الجمالية؟

من الصعب تقديم إجابة حاسمة عن سؤال الأدب والأخلاق، فهي علاقة تضرب بجذورها في أعماق الفلسفة التي لا تقدم إجابات بقدر ما تزرع قلق الأسئلة.

فمن زاوية الأدب الملتزم، من غير المحتّم فصل الأدب عن أداء رسالة معينة، فالأدب الملتزم يتخذ دومًا من القيم والقضايا الإنسانية موضوعًا له، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن اعتبار شعر عنترة بن شدّاد صرخة قوية في وجه الرقّ والعبودية، لا تقل شأنًا وخلودًا عن أعمال الروائية الأميركية المعاصرة توني موريسون التي جعلت من مكافحة التمييز العنصري القائم على اضطهاد السود أمّ القضايا التي تعالجها أعمالها السردية. فالالتزام الأخلاقي والأيديولوجي يجعل العلاقة بين الأدب والأخلاق قائمة، بل إن كثيرّا من الأعمال التي اكتسبت شهرة عظيمة، عملت، علاوة على جانبها الفنّي والجمالي، على طرح قضايا إنسانية وأخلاقية، فرواية، فيكتور هوجو “الرجل الذي يضحك” مثلًا، ليست رواية للتشويق الأدبي بقدر ما هي وخزة للضمير الإنساني، وإثارة لجانب مأساوي من عذابات الأطفال، على اعتبار أنّ الأدب كما يرى جون غاردنر: “مباراة تخاض ضد الفوضى والموت…”.

لكن بالمقابل، كيف يمكن أن يكون الأدب ثوريًّا محرّرًا للإنسان، من دون أن يخوض في المحظورات الثلاثة الدينية والسياسية والجنسية؟

أعتقد أنّ شهرة بعض الأعمال الأدبية ارتبطت، في جزء منها، بما أحدثته من ضجّة، إثر اقتحامها أحد أقانيم الثالوث المقدس (الدين، الجنس، السياسة)، إذ أن منعها أسهم في انتشارها وتطلع القراء إليها، ولنا أن نضرب مثلًا بروايتي: أولاد حارتنا، الخبز الحافي.

لكن عندما يزول المنع، كما حدث مع المثالين السابقين، هل يفقد النص قوته وألقه؟ هل يخفت وهج الإبداع مع زوال المنع وعودة التطبيع مع ما كان يعدّ من التابوهات كما حدث مع روايتي محفوظ وشكري؟ لا أعتقد أن قوة النص ترتبط بعامل خارجي (المنع)، بقدر ما تنبعث من ذاته، لذلك، فإن النصين/ المثالين حافظا على درجة معقولة من التلقي قراءة ونقدًا.

لذلك، فإن ضمان حرية الإبداع لا تعني إقرار الفوضى، كما أن أخلقة الإبداع يجب ألا تكون ذريعة للحجر وفرض القيود، إذ أن قيود الحرّ كما قالت د. عائشة بنت الشاطئ: “مفروضة عليه من تلقاء نفسه، يلتزم بها عن طواعية واختيار، أمّا قيود العبودية فيفرضها الغير قسرًا، على وجه القهر والإلزام”.

الخيال فعالية مثرية للأدب، وكلّ حجر أو تضييق عليه تحت ذريعة “أخلقة الأدب”، يعدّ قهرًا منافيًا لحرية الإبداع، لكن، كلّ منتج باسم الإبداع يحرض على الكراهية أو ينتقض من الإنسانية، يعدّ خروجًا عن حدّ الحرية، والفرق بين الحرية والميوعة مثل شعرة دقيقة تفصل بين الشجاعة والتهور…

زهير كريم (العراق): نبض النهر..

آمن ليو تولستوي بأنّ عمل الفنان هو أن يعدي جمهوره بأفكاره وعواطفه، وكلّما كانت العدوى أقوى، كان الفنّ أفضل بوصفه فنًّا. وإنّ دور الكاتب أو الفنان بأن يجعل نبض النهر مسموعًا؛ هذا ما يؤكّده الروائي العراقي زهير كريم:

يقول رولان بارت: “كلّ تهتّك يؤكّد أن الصمت هو الفعّال”، هو يقصد بالطبع (رأي السلطة) فالحياكة والتدخين ورفع الأصبع هي عمليات تفسّر أنّ الحياة الحقيقية هي في الصمت. وهنا تبدو عملية الكتابة والفن صوتًا عاليًا، وهو نقيض الصمت الذي تريده السلطة، إذ يظهر الأدب كفعل مناف للفضيلة، خارق للقانون، باعتبار أنّ الحياكة، وهي عملية صمت، تتوافق مع الفضيلة، وهي تمثيل للحياة الحقيقية.

وفي نص قصير لإدواردو غاليانو عنوانه “أصوات”، يتحدّث فيه عن شخص اسمه (بيدرو) كان يمشي على نهر الفولغا المتجمّد، في يوم شديد البرودة، وحيدًا، لكنّه شعر من خلال نعلي حذائه بنبض النهر تحت الجليد. ويبدو أنّني سأعتمد بشكل مبدئي على تأويل، مقاربة تتعلّق بوجود الأشياء غير المرئية، التي لا تعني لامرئيتها عدم وجودها، فالسلطة الأخلاقية- من هذا الجانب- وهي منظومة القوانين، التي تحاول أن تغطّي نبض النهر تحت الجليد، في صياغتها لشروط الحياة في المجتمع، تعتقد بأنّ المخفي يجب أن يظل كذلك، لكنّ النهر في النهاية موجود تحت الجليد، والأدب هو من يشعر به، والنصّ الأدبي هو الذي يقدّمه باعتباره موجودًا على الرغم من لا مرئيته.

والحقيقة، إنّ هناك انفصالًا وليس من تعاضد بين الأدب وبين منظومة القوانين بشكل عام، الأخلاق على وجه الخصوص (التابوات)؛ وأعتقد أن القضية مرتبطة أكثر بمهيمنات السلطة بأشكالها العديدة. هناك مقولة لبودلير: مقولتان في الحقيقة، منفصلتان في مناسبة إيرادهما، لكنّهما متعاضدتان في السياق، فهو يقول: “أنا أحاول استخراج الجمال من الشرّ”. وفي استكمال لهذا التعبير يقول: “هناك من لا يستطيع أن يلهو إلّا وهو في قطيع.. البطل الحقيقي يلهو وحيدًا”، لن أحاول تفكيك المقولتين، فهما يحتاجان حقًّا لمساحة واسعة من الحديث، لكنّ هذين التعبيرين، كما أعتقد، لهما علاقة وثيقة بالسؤال الأخلاقي في الأدب، في 5 تموز (يوليو) 1857 نشرت صحيفة لو فيغارو مقالة بتوقيع الصحافي غوستاف بوردان يتهم فيها بودلير وكتابه الشعري، أزهار الشر، بانتهاك الأخلاق العامة والأخلاق الدينية؛ وأنّ إدارة الأمن العام قد أدّعت على الشاعر وغرمته 300 فرنكًا.

بالنسبة لأفلاطون يرى أنّ الأخلاق تكمن بالابتعاد عن الشهوات، حتى يحقّق الفرد السعادة والعدالة والفضيلة، سقراط أيضًا يرى أنّ النفس أهم من الجسد، فالجسد يحمل النفس بقواها النبيلة، ويوجهها ويقودها إلى السلوك غير الأخلاقي، والمذهب الأخلاقي الذي أسسه أرسطو استند كذلك إلى فكرة السعادة، ووفقًا لمذهبه ترتبط السعادة بالفضيلة. نحن عندما نتحدّث عن الأخلاق، وعلاقتها بالأدب، نستدعي بالضرورة فكرة تجنّب الثالوث المحرم: السياسة، والأديان، والجنس، رغم ذلك، ظهرت الكثير من الأعمال العربية التي اخترقت هذا الحظر، وحقّقت شهرة عند القارئ. إنّ الأسئلة المثيرة هنا، والتي يجب مناقشتها تتعلّق بسؤال، لماذا يسعى الأدب إلى كسر التابو؟ هل لأنّ الجمهور يبحث عمّا هو غير مألوف؟ ربما من أجل تحقيق الإثارة، والبحث عن التجديد! هل الإبداع الأدبي يقتضي ذلك؟ أم هي حالة جوهرية تتعلّق بالأدب والفن؛ تتمثّل عبر نزوع إلى كسر الضوابط؛ فتتحول الجرأة إلى أصل في الفعالية الأدبية، على اعتبار أنّ الاخلاق منظومة قامعة للخيال. وفي الواقع إنّ سؤال الاخلاق قديم، فالجاحظ في كتاب “البخلاء” مثلًا كان يقول: “في الكتاب ثلاثة أشياء: تَبَيُّنُ حُجَّةٍ طريفة، أو تَعَرُّفُ حيلةٍ لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة”. وهنا يحصر الجاحظ الفعل الأدبي بإظهار الحقيقة، أو لعبة فنية، أو موعظة، مستبعدًا النزعة النقدية، على الرغم من أنّه قد مارس النقد في سياقات متعدّدة في أدبه، ولكن هل الأدب الذي يتناول، المحرمات/ الثالوث؛ هو مقوّض للفضيلة، أم أنّه كاشف لما هو مسكوت عنه؟ وهل أن السكوت هو جوهر الفضيلة، أم التعرية، الإشارة الثورية التي تنطوي على ما يشبه جرس الانذار؟ أعتقد أنّ عرض وتفكيك ما هو مسكوت عنه، الثالوث المقدس بشكل خاص، هو جوهر الفضيلة، وهو من واجبات العقل في الوقت ذاته، وأن التطور في مختلف شؤون الحياة بما فيه الأدب بالطبع، يحتاج أن نظهر هذه الأشياء غير المرئية/ نبض النهر مثلًا، والذي سمعه بيدرو من خلال نعلي حذائه.

محمد العباس (السعودية): المثقف كائن لا امتثالي

قال أدونيس: “عشْ ألقًا، وابتكر قصيدةً وامضِ، زدْ سعة الأرضِ”، ومن هذا المنطلق يرى الناقد السعودي محمد العباس دور الأدب:

لم يخلّد تاريخ الأدب كاتبًا أخلاقيًا بالمعنى التعقيمي لمفهوم الأخلاق، إذ ينهض الأدب في جوهره على التمرّد، أو الانشقاق بمعنى أدق. أي تكريس النص كمضاد للمألوف الاجتماعي والسياسي والثقافي. حتى الأدباء الذين يدينون بتكوينهم الفكري للقيم والوصايا الدينية تتحوّل لديهم تلك الاحترازات إلى منصات لمخالفة ما رسخ في وجدانهم. وهذا هو ما يفسّر حدوث الأزمات على مرّ التاريخ ما بين الأدباء ومفاعيل السلطة الدينية والاجتماعية، إمّا بسبب نصٍّ أو اعتقاد أو موقف أو سلوك. وذلك لأنّ المثقّف بطبعه كائن لا امتثالي. ولا يراهن على التسويات والتوافقات بقدر ما يتعامل مع الوقائع التي ينصّصها بطريقة تدين القوى الاجتماعية المتواطئة على الشّرّ. فرواية “مدام بوڤاري” مثلًا لم يختلقها فلوبير، بل امتصها من الواقع وأعطاها قوة وثبوتية الوثيقة الاجتماعية. ولأنّ الأدب لديه تلك السطوة لبلورة الاختلالات وتحويلها إلى صور صادمة؛ أُتهمت بأنّها رواية لا أخلاقية. تمامًا كما حدث للقاص الهندي الباكستاني سعادت حسن مانتو، الذي حوكم بسبب قصصه، حيث سجل بأدبه حياة النساء المستضعفات وجبروت القوادين وتماهي مفاعيل السلطة مع المتسلطين على النساء، وعلى هذا الأساس صُنفت كتاباته في خانة الفحش، خصوصًا قصته الشهيرة “اللحم البارد”. وهكذا يمكن التقاط نماذج من جميع أنحاء العالم كديوان “أزهار الشر” لبودلير، ورواية “وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر، ورواية “آيات شيطانية” لسلمان رشدي وغيرهم. وكلّ هؤلاء تعرّضوا للمحاكمة أو السجن أو حتى التهديد بالتصفية، مرّة بدعوى الإخلال بمنظومة القيم، وأخرى بذريعة المس بالذات الإلهية، وثالثة بحجة التعريض بالمجتمع وهكذا.

وعليه يمكن القول بأنّ المحاكمات التي تنعقد لمساءلة النصوص تتجاوز ما في النص إلى شخص الكاتب، كما تنظر إلى كلّ مجريات الحدث داخل النص كدعوة مجانية للفجور. وهو منحى يتعارض مع المنازع الجمالية باختلاف مدارسها الموضوعية والتحليلية والتشخيصية والوصفية، التي تنبئ بموجبها النصوص. وهذا هو ما يفسر أثر الأدب الموصوف باللاأخلاقي، الذي يخترق الزمان ويحقّق الخلود، بالنظر إلى ما يختزنه من قيم انشقاقية ثورية تتجاوب مع توق الإنسان للوعي والحرية، مقارنة مع الأدب الامتثالي البارد الذي يموت بمجرد قراءته، لأنّه يكرس الثبات ويعاند التغيير بذريعة الحفاظ على القيم وضبط سلم الأخلاق. وبتصوري الأدب الذي يتصارع مع الواقعيات الأخلاقية ليس أدبًا فوضويًا أو عبثيًا، بل هو أدب تحرّري يدفع الإنسان للتماس الواعي مع الثالوث المحرم: الجنس والدين والسياسة، بما تمثّله تلك الحقول من جدران لتقليص فضاء حركة الإنسان والحدّ من تفكيره، وهو أمر بات مكشوفًا اليوم ضمن الأخلاقيات اللغوية التي تعمل كمعيار لوعي الإنسان بذاته وبمحيطه، وكشف ألاعيب الخطابات المتلفعة بلبوسات أخلاقية زائفة. إذ لا قيمة لأدب يهرب من لحظة استحقاقه، ولا قيمة لأديب يمتثل لوصايا متخثّرة في الزمان والمكان والوجدان. وكلّ أديب يحاول تعقيم نصوصه وإفراغها ممّا قد ينتهك أخلاقياته، فكأنّه يسحب من الحياة ركنًا من أركانها الأساسية، فما تحتويه النصوص من قضايا إشكالية على المستوى الأخلاقي، إنّما يعكس صدقيتها ويؤكّد أصالة استنسابها للأدب ومفارقتها للخطابات الوعظية الخالية من نبض الحياة وإيقاعها.
(ضفة ثالثة)