بمرور يوم 11 من شهرنا الحالي نكون قد بلغنا الـ111 عامًا على ميلاد نجيب محفوظ، وبهذه المناسبة توقف الكثير من قرائه ومحبيه للاحتفال بهذه المناسبة عبر استعادة العلاقة مع كتبه وعالمه الروائي الفريد، لا في الادب العربي وحسب، بل في أدب القرن العشرين ككل.
وُلد نجيب محفوظ في حي الجمالية بالقاهرة. هو أصغر أبناء أب موظف وأم من أسرة أزهرية. حين قامت ثورة 1919 كان في عامه السابع، ومع ذلك أثرت فيه وتذكرها فيما بعد في ثلاثيته.
أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات “بن جونسون” التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة في عالَم القراءة.
بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي طه حسين ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة.
تتلمذ على أيدي كبار التنويرين العرب، من أمثال سلامة موسى وطه حسين وعباس محمود العقاد، ولاحقًا صار هو نفسه من دعاة التنوير.
محفوظ فنان أصيل، ذو رؤية إنسانية ثاقبة، تناول القضايا المصيرية ومزجها بالمتطلبات المعاصرة، ولا تزال مكانته الأدبية تترسّخ عامًا تلو عام.
لهذا نضع هنا مقبوسات من بعض رواياته، على أمل أن تكون بمثابة دعوة متجددة لقراءة هذه الأعمال.
اللص والكلاب
أود أن أنفذ إلى ذاتك كما نفذت إلى بيت التحف والمرايا بيتك، ولكني لن أجد إلا الخيانة، سأجد نبوية في ثياب رءوف، أو رءوف في ثياب نبوية، أو عليش سدرة مكانهما، وستعترف لي الخيانة بأنها أسمج رذيلة فوق الأرض، من وراء الظهر تبادلَتِ الأعين نظرات مريبة قلقة مضطربة كتيار الشهوة التي يحملها، كالقطة الزاحفة على بطنها في هيئة الموت نحو عصفورة سادرة، وغلبت الانتهازية ثمالة الحياء والتردُّد فقال عليش سدرة في ركن عطفة، أو ربما في بيتي: “سأدل البوليس عليه لنتخلص منه”، فسكتَتْ أمُّ البنت، سكتَ اللسان الذي طالما قال لي بكل سخاء: أحبك يا سيد الرجال، هكذا وجدتُ نفسي محصورًا في عطفة الصيرفي، ولم يكن الجن نفسه يستطيع أن يحاصرني، وانهالت عليَّ اللكمات والصفعات، كذلك أنت يا رءوف، لا أدري أيُّكُما أَخْوَن من الآخَر، ولكن ذنبك أفظع يا صاحب العقل والتاريخ، أتدفع بي إلى السجن، وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمرايا؟! أنسِيتَ أقوالك المأثورة عن القصور والأكواخ؟ أما أنا فلا أنسى!
ميرامار
“يعجبني جو الإسكندرية، لا في صفائه وإشعاعاته الذهبية الدافئة، ولكن في غضباته الموسمية، عندما تتراكم السحب وتنعقد جبال الغيوم، ويكتسي لون الصباح المشرق بدكنة المغيب، ويمتلئ رواق السماء بلحظة صمت مريب، ثم تتهادى دفقة هواء فتجوب الفراغ كنذير أو كنحنحة الخطيب، عند ذاك يتمايل غصن أو ينحسر ذيل، وتتابع الدفقات ثم تنقض الرياح ثملة بالجنون، ويدوي عزيفها في الآفاق، ويجلجل الهدير ويعلو الزبد حتى حافة الطريق، ويجعجع الرعد حاملًا نشوات فائرة من عالم مجهول، وتندلع شرارات البرق فتخطف الأبصار وتكهرب القلوب، وينهل المطر في هوس فيضم الأرض والسماء في عناق ندي، عند ذاك تختلط عناصر الكون وتموج وتتلاطم أخلاطها كأنما يعاد الخلق من جديد.
الحرافيش
شعر بأن كائنًا خرافيًا حل بجسده. إنه يملك حواس جديدة ويرى عالمًا غريبًا. عقله يفكر بقوانين غير مألوفة وها هي الحقيقة ذي تكشف عن وجهها. إنه ذكرى لا حقيقة. موجود وغير موجود. ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن أن يقطع. غريب كل الغرابة، ينكر ببرود أي معرفة له. متعال متعلق بالغيب. غائص في المجهول. مستحيل غامض مندفع في السفر. خائن، ساخر، قاس، معذب، محير، مخيف، لا نهائي، وحيد. أغلق باب الأبدية. تهدمت الأركان تمامًا. لسان يلعب له هازئًا. ثمة عدو يتحرك وسوف ينازله. لن يتأوه. لن يذرف دمعة واحدة. لن يقل شيئًا. السماء تشتعل بالنيران. كبركة الدم الأحمر. رأى وعده المجهول بإدراك كل شيء. وسمع صوت يقول “وحد الله” رباه أيوجد معه آخرون؟ أيوجد آخرون في الدنيا؟ من قال إذن إن الدنيا خالية؟ خالية من الحركة واللون والصوت. خالية من الحقيقة. خالية من الحزن والأسى والندم. إنه في الواقع متحرر. لا حب ولا حزن. ذهب العذاب إلى الأبد. حل السلام. ثمة صداقة مطروحة على القوى العاتية. هنيئًا لمن يروم أن تكون النجوم خلانه، والسحب أقرانه، والهواء نديمه، والليل رفيقه.
بين القصرين
رفع رأسه المثقل بالفكر فلاحت لعينيه المظلمتين مشربيات البيت فذكر أمينة لأول مرة حتى أوشكت أن تخونه قدماه، ما عسى أن يقول لها؟ كيف تتلقى الخبر؟ الضعيفة الرقيقة التي تبكي لمصرع عصفور! أتذكر كيف هملت دموعها لمقتل ابن الفولي اللبان؟ ماذا تصنع لمقتل فهمي؟ مقتل فهمي! أهذه هي نهايتك حقا يا بني؟ يا بني العزيز التعيس! أمينة.. ابننا قتل، فهمي قتل.. يا له! أتأمر بمنع الصوات كما أمرت بمنع الزغاريد من قبل؟ أم تصوت بنفسك أم تدعو النائحات؟! لعلها تتوسط الآن مجلس القهوة بين ياسين وكمال متسائلة عما أخر فهمي، سوف يتأخر طويلًا، لن تريه أبدًا.. ولا جثته، ولا نعشه، یاللقسوة، سأراه أنا في القصر العيني أما أنت فلن تريه، لن أسمح بهذا.. قسوة أم رحمة؟ ما الفائدة؟ وجد نفسه أمام البيت فامتدت يده إلى المطرقة ثم تذكر أن المفتاح في جيبه فأخرجه وفتح الباب ثم دخل. ترامی عند ذاك إلى سمعه صوت كمال وهو يغنى بعذوبة:
زوروني كل سنة مرة
حرام الهجر بالمرة.
*الترا صوت