اسماعيل كرك: رسالتان أخيرتان مختومتان بأحمر الشفاه: فريدا كالو تكتب وترسم لنيكولاس موراي

0

في صيف حارق من عام 1913، استأجرت الشركة الأمريكية Stockinger Printing في غرين بوينت – بروكلين، رسّاماً مَجَرياً يبلغ من العمر 21 عاماً وصل للتوّ إلى الولايات المتحدة، لاجئا لا يملك سوى 25 دولاراً فقط، وفي جيبه قاموس لغة اسبرانتو- اللغة الاصطناعية الني اخترعها لودفيغ زامنهوف سنة 1870 لسهولة التواصل في مختلف البلدان. جاء ذاك المَجَري إلى الجمال، إلى حُلمه برؤية «كل اللوحات العالمية» ولتحقيق هدفه، درس فصل الألوان والكيمياء الضوئية في ألمانيا، وتَجَوَّل في أروقة متاحف الفن الأوروبية، مستوعباً الكلاسيكيات، ومفتوناً بإتقان رسامي القرن السابع عشر الهولنديين للَّون.
اسمه الحقيقي ميكلوس ماندل، غيَّرّهُ في ما بعد ليكون نيكولاس موراي. كان قد وصل إلى جزيرة (إليس) بمفردات إنكليزية مُكَوَّنة من أربعين كلمة، وبحلم كبير جعلاه في غضون عقد من الزمن، أحد أشهر المصوِّرين الفوتوغرافيين في كل العصور.
جذب الاستوديو الخاص به في Greenwich Village زُوَّاراً كُثُرا وشخصياتٍ بارزة من مبدعي القرن العشرين مثل الصحافي والمسرحي لانغستون هيوز، ومصممة الرقصات مارتا غراهام، والمسرحي الأيرلندي الأمريكي يوجين أونيل والمسرحي والمخرج الفرنسي جان كوكتو، لكن لن يكون أي من أعماله أكثر أهميةً بالنسبة له أو للعالم، من الحب الكبير غير المتوقع لفريدا كالو، التي ستُعتبر واحدة من أهم الفنانين العالميين في القرن العشرين.
التقى نيكولاس موراي بفريدا كالو سنة1931 واستمرت علاقتهما حوالي عشر سنوات، في ذلك العام، وبعد فترة وجيزة من حفل زفافها، انتقلت فريدا كالو مع زوجها الفنان دييغو أوليفيرا إلى سان فرانسيسكو، حيث جذبا انتباه (مجتمع المبدعين) النابض بالحياة في المدينة، إلى أعمالهما الفنية، كما أُدهِشَ المجتمع الأمريكي بزواجهما المفتوح المليء بالحيوية! هناك، عَبَرتْ كالو مع موراي المدارات لأول مرة، لكن عندما عادت إلى المكسيك بمفردها، مستبقةً عودة زوجها دييغو، ارتبط موراي وفريدا كالو، وبدءا علاقة رومانسية تحوَّلتْ في النهاية إلى صداقة مدى الحياة.

رسالتان أخيرتان مختومتان بأحمر الشفاه

اللحظات الخاصة بين فريدا ونيكولاس موراي، التي كانت ربيع عام 1931 مسرحاً وقتياً مُميِّزاً لها، لم تكُ تقليديةً، ولا يمكن وصفها إلا بحب بدأ ولن ينتهي، حب تُلَخِّصهُ رسائل عميقة وبسيطة في الوقت نفسه، ففي لقائهما الأخير قدَّمت فريدا هديتين لموراي، كانتا مثيرتين للاهتمام، كما ذُكِرَ في رسائلهما البسيطة، الرسالة الأخيرة الأولى عبارة عن دُمية وَرَقيّة، من النوع المستخدم في تقديم الحلويات، وقد نقشت فريدا عليها كلماتٍ بالمَجَريّة (المُكَسَّرة) بمساعدة قاموس مَجَري، لكنها كانت على مستوىً عالٍ من الحسيّة:
«نيكولاس،
أحبك مثلما أحب ملاكا
أنت ليل الوادي الذي أحبه..
لن أنساك أبداً، أبداً، أبداً
أنت حياتي كلها
أتمنى ألا تنسى هذا أبداً»
تحت التاريخ – في آخر يوم من شهر مايو/أيار عام 1931 – أضافت فريدا بالإنكليزية عبارات أصرَّتْ فيها على عودته إلى المكسيك في ذلك الصيف، كما وعَدَها- ثم خَتَمتْ رسالتها بطبعة أحمر الشفاه للقُبلة، كتبت تحتها:
«هذا خاصٌّ بمؤخرة رقبتِكَ».
كانت هدية الفراق الثانية عبارة عن صورة شخصية صغيرة، وهي تقريباً رسم خطّي، تُصوِّر فيه فريدا نفسها وهي تمسك بيد دييغو، مع مخطط باهت لجنين مرسوم على فستانها، التي ستُعَلِّقُ في غرفة معيشة عائلته لبقية حياته.

نيكولاس موراي

وصفته فريدا بأنه «طفلها» على الرغم من أنه كان يكبرها بخمسة عشر عاماً، تكتب في رسالة أرسلتها من المكسيك إلى عنوانه في نيويورك:
«نيكولاس،
تَلَقّيتُ هذا الصباح رسالتك بعد عدة أيام من الانتظار، شعرتُ بمثل هذه السعادة لدرجة أنني بدأت بالبكاء حتى قبل أن أقرأها.. طفلي: يجب أن لا أتذمر من أي شيء يحدث لي في الحياة، طالما أنك تُحِبُّني وأنا أحبكَ، هذا الحب حقيقي وجميل لدرجة أنه يجعلني أنسى كل ألمي ومشاكلي، يجعلني أنسى حتى المسافة.. من خلال كلماتكَ أشعر بأنني قريبة جداً منكَ لدرجة أنني أستطيع أن أشعر بضحككَ، إنه نظيف وصادق، هذا ما لديك فقط. أنا أحسب الأيام حتى عودتي. شهرٌ واحدٌ إضافي ثم سنكون معاً مرة أخرى».
تضيف في مقطع يتحدث عن التناغم الخاص بينهما:
«حبيبي ، يجب أن أخبركَ أنك أسأتَ التصرف: لماذا أرسلت هذا الشيك بمبلغ 400 دولار؟ صديقُكَ سميث وهمي.. كانت لفتةً لطيفةً للغاية، لكن أخبِرْهُ بأنني سأحتفظ بشيكِهِ دون تغيير حتى أعود إلى نيويورك، سنناقش هذه المسألة بعد ذلك.. نيكولاس: أنت أقرب شخصِ قابلتُهُ في حياتي. لكن اسمع، أنا لست بحاجة للمال الآن، ما يزال لديّ القليل، بالإضافة إلى أنني امرأة غنية جداً، أنتَ تفهم ماذا أعني، أليس كذلك؟ لدي ما يكفي للبقاء شهراً آخر، لديَّ بالفعل تذكرة العودة الخاصة بي، كل شيء تحت السيطرة… صحيح..، ليس من العدل أن تنفق المزيد من المال… على أي حال، أنتَ لا تعرف كم أنا ممتنةٌ لاستعدادك لمساعدتي. لا أملك الكلمات لوصف مدى سعادتي، مع العلم أنكَ حاولتَ أن تجعلني سعيدةً لأنك رائع… لأنك جَنَّتي، طفلي، أنا أعشقكَ».
وبفظاظة مرحة، تبدأ فريدا في إعطائه قائمةً غامضةً من التعليمات حول سلوكه حتى عودتها إلى نيويورك، مستشهدةً بأشياء في منزله كانت قد قدَّمتْها له على مر السنين كرموز لحبها:
« اسمع يا طفلي، لا تَنسَ النوم على وسادتك الصغيرة، لأنني أحبها حقاً، لا تُقَبِّلْ أحداً وأنت تقرأ العلامات التجارية والأسماء في الشارع، لا تأخذ أي شخص آخر إلى سنترال بارك (مكاننا الخاص) لا تُقَبِّلْ أي شخص على الأريكة في مكتبك… (بلانش هيز) هو الشخص الوحيد الذي يمكنه تدليك رقبتك. لا تمارس الحب مع أي شخص، لا تقع في الحب، العب مع القطار الكهربائي من حين لآخر إذا لم تكن مُرهَقاً بعد العمل».
وفي تغييب للمكان وللمسافة في الحب، تضيف:
«عزيزي، لا تُجْهِد نفسك، لأن ذلك يُتعِب رَقَبتكَ وظَهركَ، هل تُزعجك رقبتك كثيرا؟ أبعث بملايين القبلات لرقبتكَ الجميلة – لذا ستشعر بتَحَسُّن – وكلّ حناني وكل مداعباتي لجسمك، من الرأس إلى أخمص القدمين. أُقَبِّلُ كل شِبرٍ من بعيد».
ثم تنهي فريدا الرسالة بإصدار أمرٍ أخير:
قم بتشغيل أغاني Maxine Sullivan على الغراموفون كثيراً، سأكون هناك معك أستمع إلى صوٍتها. يمكنني أن أتخيل أنك مُسْتَلْق على الأريكة الزرقاء بردائك الأبيض … وأسمع ضحكتك – ضحكة الطفل. أوه، عزيزي، أنا أعشقك كثيراً، أحتاجك كثيراً لدرجة أن قلبي يؤلمني».
فريدا التي عشقت الفنان دييغو أوليفيرا (أستاذها) وصمَّمتْ على أن تتزوجه يوماً ما، وكان لها ما أرادت، هي ذاتها المرأة التي نامت في سرير تروتسكي لتكتشف طرقاً أخرى للحب، كانت قد وجدت بالفعل ضالَّتَها في عشق بلا نواظم ولا أوراق ثبوتية هو حب نيكولاس موراي طفلها الذي حمَلَتْ وحلِمتْ به، بل ورسمتْهُ على فستانها لتبقى ضحكات ذاك المَجَري الجميل تمزج هواء لقائهما بزرقة الأريكة.. بِقُبَلٍ يضِجُّ بها قلب فريدا الذي عرف الفرح… ثم نام.

*القدس العربي