طلبنا من القاصة المبدعة استبرق أحمد أن تختار لنا قصصها القصيرة المفضلة، التي ساهمت في تشكيل ذائقتها في القص والإبداع، فاختارت أن تكتب عن أربع مجموعات قصصية لأربعة كتّاب وفقاً لثلاثة معايير ذكرتها في المقدمة.
هذه مقدمة مؤلفة «عتمة الضوء» والطائر الأبيض في البلاد الرمادية.. وغيرها من المؤلفات الجميلة، وهذه خياراتها الأربعة:
أعترف ليس من السهل الاختيار بين 13 مجموعة مميزة شكلت القائمة الطويلة لاختياراتي للإجابة عن مجموعات لافتة ومختلفة، لتنشأ هذه القائمة «النانو»، أي الجزء المتناهي الصغر عن مجاميع أحببتها، التي اقتصرت عليها لأوقف استرسالي بالإجابة، وهذه النقاط اشتملت على:
1 – كتاب عرفوا في مدارات القص. 2 – يكتبون بالعربية. 3 – لم يقاربوا الرواية المنافس الأشرس.
أعود وأؤكد أنني اضطررت إلى إقصاء الكثير من التجارب الثرية التي لها صداها في ذائقتي ونصي – بعضها تنطبق عليه النقاط السابقة – لكن قيد الوقت في البحث وإعادة القراءة وحجم مساحة الصفحة لم يسمحا بالمزيد، في النهاية آمل أنني أشعلت وقود فضول القارئ حول 4 كتّاب وكيف يكتبون.
01- في مناورات التجريب.. أنيس الرافعي
التجريبي المؤثر الذي لا يهدأ ولا نريده أن يركن للسكون، عرفته شخصياً في مؤتمر القصة القصيرة في الأردن عام 2015، بعد مجموعته «مصحة الدمى» المغايرة، التي انحزت من بعدها لفخاخ مقترحاته الشجاعة والآسرة، هو المنقلب على من يتكئون على أعمدة ثابتة لمعنى ومبنى القصة، يهز معابد الكهنة، القائلين بهرطقة المجربين، له قفزاته بداية من العناوين، ومنها: «اعتقال الغابة في زجاجة»، أو«ثقل الفراشة فوق سطح جرس».
كل نص يشي بتراكيب سحرية لوضع القصة في مكان شاهق الحرية، موظفاً التقنيات وطبقات الحكايات الغامقة، ومستخدماً الرسم والصورة الفوتوغرافية والحاشية، والأيقونات الأفريقية، وارتحالاته السردية دون حوارات في نتاجاته، من ذلك كتابه «سيرك الحيوانات المتوهمة» الذي تشابك مع الفنان الأردني محمد العامري بمنطقة موغلة في الإبداع، واهباً تحت عنوان «تذاكر مجانية للدخول إلى السيرك» مفاتيح النص لقارئ متفاعل، يجوب جسد وروح النص بلا وجل، يخبره المفتاح الأخير أنه «لن يلتهمه» بالرغم من انتظار 30 مونولوجاً لحيوانات كامنة له، تبرز وتهزأ ولا تتوقف ممكناتها ولا جمالياتها عن دفعه إلى المزيد من المغامرة.
2- التخلي والتعلق.. عبدالله ناصر
في هدوء العارف يأتي نصه السهل الممتنع، الزارع للعناصر، والحاصد لفتنة قصة وارفة الغنى، له يد فنان خصبة، يخلط الأجزاء بدأب وصبر ويقظة، يضعها في إطار أمكنة هي فضاءات عامة تحدث في أي مكان، جاعلاً الشخصية واللغة هما الأهم، ومجهزاً على البلادة بنهاية تصفق لمفارقتها، منتشياً بلذة النص. حتى في عنونته لمجموعتيه «فن التخلي» و«العالق في يوم الأحد»، يتلاعب بالقارئ الذي يكتشف أنهما يضمران رسالة تخبره بالتخلي عما يشغله ليكون عالقاً في مكر القاص عبر زمن النص الحكائي، مأسوراً في الزمن الخطابي حتى في أثره السخي. كما لا يتكأ عبدالله ناصر على الأسماء، إلا أن كانت لها وظيفتها في بناء النص، وهو ما حدث في نص عنونه باسمه عن ذاك الذي نتوجس من شخصيته وتشابهاته، لنعرف لاحقاً أنه هو، ناسجاً قصصه بذكاء وحرفية عالية وسلاسة ورحابة أفق وإضافة الحكايات الثانوية المكثفة، يدس الدهشة والمتعة في نصه.
3- شهيق طويل ومؤلم.. هشام بستاني
الرافض للرأسمالية والنيو ليبرالية، والصفقات المشبوهة، هشام الذي لا يطيق المهادنة لا مع العالم ولا النص. إصداراته التي تميل إلى اللغة الشعرية، تجارب أخذته صارخاً في وجه التخاذل ليمضي نصه مترجماً ومنفجراً في وجه قراء آخرين. في مجموعته «شهيق طويل قبل أن ينتهي كل شيء»، نجد السرد المتقن، فلا استطرادات ولا ترهل ولا خطابات تقليدية. نصوصه منحازة إلى المواجع الإنسانية تجاه اللاجئ، تحولات المدن، مسالخ الظلم والخديعة، صانعاً من أربعة عناوين تقسم الفصول نجد أمامنا: «كتاب الغرق أو عن الحياة بطعمها المالح»، «كتاب الرعب أو الحياة بطعمها الجحيم»، «كتاب البلادة أو عن الحياة بلاطعم»، «كتاب اليأس أو ملاحظات أخيرة لن تفيد أحداً»، مستعيناً بحنكته، وأيضاً بمبضعه كطبيب أسنان، يرصد خرائب السوس والتقيح المستشري في فم العالم، عبر ضمائر السرد المتعددة، وأنسنة البحر والمدينة والناس الغارقين بين التفاهة والألم، نجد شخصيات مأزومة، لا خيارات لها، تراقب الأحداث، تجتاحها سيول الخسارات فنتماهى معها عبر قاص فذ.
4- قصص لأبناء.. فيصل الحبيني
مهارته في قدرته الواضحة في التقاط شذرات قد لا نلتفت لها وبناء أسئلته عليها، القصص أغنية يؤديها بصوت متمكن، يشدو غالباً بمقام البياتي المتسع لتلونات المشاعر، يتفق مع هشام بستاني بقرب القصة من الشعر أكثر من الرواية، وفي ذلك تشابه مع رأي إدوارد خراط الذي يعزو السبب إلى التكثيف والإيجاز.
الحبيني لا يركن إلى عوالم الفانتازيا، لكنه يبث الأسئلة في أول نص «ميثاق الشاب الأخير»، فيجعل النصوص اللاحقة هي ما بشّر به النص الأول من حكايات كأنها تحدث لشخص واحد متعدد الحيوات والمواقف، متناولاً مواضيع كتعاطي شخصية مع الفن تساؤلاتها أعلى من ثقافتها، أو موظف وخبر يغير حياتها، لكن أبرز ما تناوله هو العلاقات الأسرية وإشكالية الابن والأب، من ذلك عادة تسمية الحفيد باسم الأب، أو عذابات ضمير الأب إزاء مقتل أخيه في قصة أخرى، أو ينسج جملاً غير اعتيادية كما في قصة «تعرف أمي الطريق»، فيذكر: «كنا نخضع هذا الواقع لنا ككلب مطيع، وإن لم يقبل ذبحناه بالسكين»، شاداً القارئ في نصوصه حتى نصل معه إلى نهاية ككاتب شاب ننتظر نتاجه.
*القبس الثقافي