أعلنت منظمة الصحة العالمية بأن واحدة من أصل كل ثلاثة نساء تعرضت لأحد أشكال العنف ولو لمرة واحدة على الأقل.
نعم؛ تحدث الاعتداءات في كل أنحاء العالم، لكن الفرق بيننا وبين الآخرين أننا نبرر تلك الجرائم ونقبلها، ما يجعل العنف في مجتمعاتنا فعلاً متكرراً ودون محاسبة، فلا يكاد موضوع التعنيف يغيب حتى يعود إلى الواجهة مع كل حادثة مرّوعة تضيف رقماً جديداُ إلى قائمة الضحايا، ولعل آخرها ما نقله موقع راديو “روزانة” حول حادثة قتل زوجة قاصر( 17 سنة) في مدينة الرقة على يد زوجها ووالدته، حيث طُعنت بأداة حادة وللتستر على الجريمة تم إحراق المطبخ وهي داخله، وبحسب الجيران الشهود كانت الضحية تتلقى معاملة سيئة باستمرار، وهذا يعني أن معاناتها كانت واضحة ومقصودة، بل وشاركت بها عائلة الجاني، فكيف تكونت عبر الأجيال الطبيعة النمطية للإساءة للمرأة في محيطها، وضمن بيئتها؟
في مجتمعاتنا الذكورية ينال اضطهاد المرأة مشروعيته من أعراف بالية تحجمها ضمن أدوار نمطية، وخطاب ديني يؤيد تأديبها وضربها، وقوانين مازالت قاصرة عن وضع عقوبات رادعة لحمايتها.
تتضح أبعاد المشكلة بشكل أعمق عند تماهي بعض النساء مع أشكال القهر والتعنيف، ليساهمن في تنشئة أبنائهن على مفاهيم خاطئة للرجولة، ويعوّدن بناتهن على قبول الظلم.
يطلق د. مصطفى حجازي في كتابه “الإنسان المقهور” على تلك الظاهرة اسم الاستلاب العقائدي، ويقول عنها:
” تعتبر النساء جماعة غير محمية، تتعرض لسلوكيات العنف وتواجه الظلم والقهر المجتمعي الذي يبخس من قيمتها، فهي عورة.. وهي رمز الحنان.. وهي ملك الآخرين يمارس عليها الرجل سلطته فترضخ وترضى، بل وفي حالات كثيرة تعتز بمظاهر الاستلاب العقائدي، وتحدد شخصيتها من خلاله متواطئة مع استغلالها. تقتنع بأنها أقل فتمارس العنف الأفقي بمهاجمة المضطهدات ضمن منظمة تحيطها.. إنه تكوين يؤطر لا وعي المرأة لخدمة الدور المطلوب منها “.
العنف النفسي
لا يقتصر العنف على الاغتصاب والضرب والإيذاء الجسدي، فأحد وجوهه الإيذاء النفسي الذي يتعرض لكرامة المرأة ويحط من قيمتها. هذا النوع من الأذى لا يقل خطورة عن الضرب بما يتركه من آثار معنوية غير مرئية تزعزع ثقة المرأة بنفسها، وتؤثر على صواب قراراتها، وتجعلها مستلبة مقهورة تتأرجح بين محاولات إثبات الذات، وبين التقوقع والاستسلام والرضوخ.
يكمن الخلل في بذرته الأولى من اعتقاد خاطئ بأن المرأة تحتل مرتبة أدنى من الرجل فكراً وقيمة ومكانة، في المقابل يتوهم الآخر بأحقيته في السيطرة عليها، واستضعافها والاستخفاف بها، وليس من النادر أن نسمع في حياتنا اليومية عبارات مؤذية سواء جاءت على شكل شتيمة أو نكتة.
إن تعرض المرأة للإساءة في منزلها وضمن محيطها المفترض أن يكون آمناً أمر شائع، عندما تعاني من السلوكيات العدوانية بأشكالها، فقد تُراقب أو تُمنع من الخروج لممارسة أدنى درجات حريتها الشخصية، وقد يتم الاستهزاء بها، وتسفيه رأيها حتى بما يخص تربية الأطفال، وإدارة البيت، ويشكل التهديد بالطلاق عنفاً نفسياً إضافياً يُحكم إغلاق الدائرة عليها، ويعزز لديها التبعية المطلوبة.
وفي الشارع ليس من النادر ما تتعرض له المرأة من انتهاكات تجعلها عرضة للمضايقة والفحش اللفظي والتحرش، وبدلاً عن معاقبة الجاني، يُنظر لها بأنها الفتنة والعار، فتُنتقد ملابسها وشكلها، ويتم محاسبتها، وتحميلها مسؤولية الأذى الذي تعرضت له، ما يزيد من قناعتها بضعفها، وبأن خروجها خطأ كان عليها ألا ترتكبه.
في محيط العمل تتوضح علامات الإساءة عند الاستهانة بقدراتها، وتحديد مسؤولياتها بمهام بسيطة، وعدم تسليمها مناصب قيادية تستحقها، كذلك عندما تُمنح امتيازات خاصة لا علاقة لها بمؤهلاتها العلمية والمعرفية، كلا الحالتين تولدان عندها انتكاساً في ثقتها بنفسها، وتقزيماً لأهميتها وأهليتها.
على صعيد آخر شكلت منصات التواصل الاجتماعي والفضاء السيبراني مكاناً جديداً للإساءات التي باتت تتخذ شكل الهجوم الممنهج لإرهاب صاحبات الرأي المختلف، يظهر ذلك مع ما نشهده مؤخراً من تحريض على “النسويات” والاستهزاء بالفكر النسوي، وإطلاق النكات الذي لم يقتصر على العامة بل تجاوزه إلى شخصيات مثقفة المفترض أنها داعمة لحقوق المرأة، ومطالبة بالتغيير المجتمعي. وفي بعض الأحيان تتعرض الضحية لتهديدات بالفضح وتشويه السمعة، فيكون الحل الأسلم الانسحاب، وتحاشي مساحة الهدف منها التعبير الحر عن الرأي.
تلك الممارسات في شرقنا التعيس توضح معاناة النساء النفسية، وامتداداتها السلبية على الأطفال والمجتمع كاملاً، رغم ذلك مازال التعاطي مع ضحايا العنف النفسي بدائياً ولا يؤخذ بجدية، وتعتبر ذاك النوع من الشكوى انفصالاً عن الواقع، ومطالبات رفاهية مادامت المرأة لم يُهشم وجهها أو يُكسر لها ضلعاً.!
إلى أن يتم اعتبار العنف النفسي قضية ملحة يجدر بالمحاكم الأخذ بها، وإلى أن يتم توعية المجتمع وكسب تأييده في مناصرة المرأة والدفاع عن حقوقها ستبقى النساء يتحملن وزر نوعهن الاجتماعي.
أتذكر في النهاية قصة صديقة لي لا ينقصها الإيمان بقضايا المرأة، قالت لي أنها لا ترغب بإنجاب البنات، وقبل أن أفتح فمي مستغربة رأيها أضافت: البنات أرق الكائنات، أستطيع أن أضمن لها حياة آمنة في حضني، ولكن ماذا بعد ذلك.. ما الذي يضمن لي ألا تتعرض لمصادرات المجتمع وتهميشه.. !
الآن، في هذه اللحظة، لا أثر للطفلة. أجلس بحياد على مقعد “العبّارة” البحرية، في الألفية الثانية. أخشى أن يسمع الناس هديرَ أنيني الخفي. أطفو مع الأوهام والحقائق معاً. ألتفت تجاه النافذة الكبيرة على جانبي الأيمن. تحادثني رفيقةُ سفر، ولا أجد إلا ابتسامتي الباهتة؛ تدرّبت عليها في انعكاس زجاج النافذة، قبل أن تأتي، ساهمةً أجيب محدثتي. وكم آلمتني محاولات اليقظة!
أقترب من سواحلك، عازمةً أن أخبرك عن نبعٍ ينفجر ثم يتراخى. يثور ويسكن. وأحاول ألاّ أتخفف منه. أنا وحدي من أجلدني على تفاصيل الندم الذي يحفر في بئر روحي، بكآبةِ قوة ستة سلندرات تدهسني، ولا تحتاج لتستدلّ عليّ إلى Share Location، تطبق عليّ سماء بلا نجمة واحدة.
أيتها السيدة العظيمة!
ما الصداقات؟ ما الفراق؟ وأي أثر للفقد لهم؟
طالما سبحت الكتابة بالقرب من الصداقة، سمكة ماهرة في التقاطاها، وحوت عظيم يفتح فمه ملتهماً الوقت. لكنها لا تغفل المحبة ولا قلوب خضراء تلمع في أراضي الود واللطف أشجاراً عملاقةً وثابتة.
وسأخبرك عن الكتابة وعن الصديقة “عين”:
آتيك وأنا أمسك بالكتابة، أغنيتي في هذه الحياة. عرفتْها صديقتي قبلي. أنجزت كتابين ولحناً لم يلتئم، مضت ترسم في فيض المحاولات تجاربَ في اللون. هكذا استمرت تتجاهل الحرفَ وسياقات المعنى. كانت تعالج خزائن الكتابة بأرقام سرية تعاندها في النص، هي التي تجد نصوصي دببة طيبة لها دروبها الكثيفة بالتأويل، لكنها في متاهات الغابة تدور، وأرى نصوصها هينةً، لينة، مثل ليلى حين لم تقابل يوماً ذئبها، فتكمل دون آلام ولا وقوف كثير. كلانا كنا نرى الدرب وكلانا لهما خشخشة الورق في خطوهما؛ كلانا تبحثان عن فتيل الأدوات، لنا رطانتنا وللكتابة دوزنةُ أفكارنا كما تشاء.
أتيتُ لأخبركِ بفقد حارق أصابني في هذه الصديقة، التي رأت حتفَها، وركضت في دهاليزه. هي القبائلية التي تعرف “الحدس”، لها في الأنواء بصيرةٌ، تبعد بأعشاب أمّها الأمراضَ، ما رأت خبث الوباء، ما شهقت من غرفتها: خذوني للشفاء إلّا متأخرة.
أعيتني ابتسامتها في المرايا منذ الفاجعة. ترتسم وتضيق عيناها الصغيرتان، شعرها المشدود، وقفتها مستقيمة الظهر. لها صوتها المميز وضحكتها سند البدايات. أيّ مصادفة يا “عين”! مبتدأ اسمك “عائشة” مثل جدتي، أضحى الآن”عبرة”. يضنيني أيتها اللمّاحة أنك أفلتّ طيور نجاتك، أصررت على لحاف الرفض تجذبينه، تنكرين أخباراً تتوالى عن تهاوي الرئات المعطوبة. تمنحين “الـلا” بركاتك، فينساق قلبك العليل إلى قرار اللاتطعيم، اللاتحصين، تتسلقك قطط الموت الثقيلة، تجثم على صدرك، وتنكسرين داخل بلور الإعياء بمتوالية الإنهاك والتدهور، ثم تسليم في المستشفى. وتصدح قصتك بختامٍ تراجيدي لا تهبط ستائره.
اليوم آتيك يا سيدة الجزر الصامتة بثقل الخبر؛ عرفته بعد شهور، فتعاظم ألمي، حزني، كآبتي، توهاني، وطوقتني أشباحُ الفقد. تقتحمني الصور، كلما أبعدتُها نبتت حرائقها واشتعلت.
***
أيتها السيدة الجميلة!
أجرّ تنهيداتي، و أهمس. يقال إن اسمك “فيلاكو” باليونانية وإنك تعنين بهذه اللغة نقطةَ تمركز أو موقعاً قديماً، مركباً صغيراً. هكذا تتوسطين القلب كبناء قديم لا ينهار إلاّ ليزداد جبروتاً. ويقال إن اسمك بالعربية “فيلق”. أنت كتيبة من الودّ والحب والجنود المجندة في اختراق أراضي النزف.
أسماؤك عناوينك؛ أجملها اسمك البرتغالي، نكرره لحلاوة مذاقه في معناه “السعادة”.
ما إن هبطت على ترابك راغبةً بالعزلة والتداوي تلقّفتِني. رأيت أنا الذي أحب ثباتَ الأمكنة ماضيكِ/حاضرك، معمارَك السبعيني والثمانيني وماقبله راكداً، سكونَكِ هائلاً بجدرانه، وأشياء لا تُحصى جميعها تسكنها طحالبُ التعب مثلي.
منجذبة، مفتونة إلىّ زواياك ونواحيك، شوارعك التي تهفو للخطوات، ترحابك وأنت تفتحين أحياءك لنمضي بها ساهمين. محصنةٌ بالزمان من الزمان، أنتِ. كلُّ زاوية تقول للسائرين “أنا أنتم، كونوا الصيادين لجمالي، أهبُكم أسراري.
بيوتك لا تنهل من الكمال شيئاً، لها كائناتها وهيئتها الساحرة، ساخرة تهدينا التأمل، تواجهنا بلا “رتوش”. نعاين نوافذَ صدئةً وأبواباً خربة، لبيوت قصيرة القامة غالباً، نالت من ابتسامتها الناصعة سوسُ السنين، ورصاصات التجني والرعونة، تعلو بعضها عبارات ورسومات واعترافات ساذجة، ساخرة، وأخرى ملغزة كأنها تعاويذ تحرسك، بينما تمزقنا في”الديرة” جروحُ رصاصاتِ أزمنة حمقاء. يحيا تورم الخيبة تحت جلد أحلامنا، ويتضخم الخذلان فينا.
على طرقك تدوّخنا أشجارك، تحضن البيوت والشوارع، وبلا تشذيب تفترش الصحراءَ، وتعاكس فكرة النضوب وقلّة المطر. كلُّ غصن فيها زاخر بمعجزات التحمل والكرم. اخترتِ اللاجديد، فاحتميتِ تحت سمائك الخالية من الأحداث -منذ سنوات- باللاأخبار؛ تبتلعينها إن ظهرتْ غير مبالية، شاخصة للبعيد، تقبلين على العليل، وتعرفين كوابيسه، وتداوين المرضى، وأنت تنزعينهم من العجالة، الضجيج، الضياع.
أصرخ بك مراراً صامتة: دثريني بحطام “مقام الخضر”، صخرةً صخرة، خشبة خشبة. اجعلي كتل الألم المتكدسة في داخلي على “عين” تنهزم أمام “عين المكان” الممسوس بالهشاشة.
قادرة تمّرّغين أرواحنا بفكرة “التقبّل”،”التجاوز” ،”التناسي”،”التفكر”، وتدفعيننا باتجاه الشفاء. نعرف منذ غادرك أبناء الفزع، مروعين قبضوا أثمانَ بيوتهم لاحقاً وما عادوا، إلاّ قلة القلة ما باعوا. رتقتِ جراحك في غيابهم، واستغنيت عن الجميع، فكنتِ “مقام الجرحى” و سيدة الجراح الغائرة في الوحدة.
ماذا صنعتِ؟ أمسكتِني بالمحبة. تسندين عواميد الهدوء فيّ فأصبحت بيتاً للرضا، وزرعتِ نبتة الخدر، فربتِّ على الألم، فغفا. واغتسلت من أدران البلاد ولمعانها وأبراج مدنيّتها التي لا أحبها. باعدتِ كلّ الهزائم، وأسماء الموتى الرطبة، ومضيتِ في صحراء سكينتي، أطيّر صقرَ الكتابة، يحلق، فيعود. وأكتب رسالتي لك يا سيدة الجزر “فيلكا” عن عزلتك ومحبتك وأنسِكِ ونصيحتك عن “عين” في نومها الأبدي؛ عن مراسي العزلة التي وحدها لا بد أن أعتادها. أتكوّر عند أرصفتك الهشّة، المتهدمة، تهمسين بالتلويح للذاهبين، الإبحار بين بحر وصحراء، بين فضاء ومعمار، ذكرى ولحظة. ولا تفلتينني إلاّ وأنا منتصرة في خفوت، في جلادة الصابرين على الملمّات، وعلى ما هو آتٍ، هامسةً بالكثير من الموانئ، أمسِكُ بيدي الصغيرة نجوب الأسفار، نسترجعنا، ونرانا، وإليك نعود.
*رصيف 22