استبرق أحمد: تقنيات السرد؛ الفضاء الطباعي، وأنواع الرؤية السردية في رواية «السقوط من جنة الأسماء»

0

تجاهد الرواية العربية لتقدم أطروحاتها الخاصة، ولطالما حاولت العديد من الروايات مواكبة التجديد، وصقل التعامل مع التقنيات، وهو ما تقتضيه “الحريّة” لتتطور الفنون، وفي ذلك مازلنا نعرج، فالمغايرة تفترض أيضاً وجود نقد متزن علمي، بينما نصادف عدم دقة الترجمات والمصطلحات والمدارس وضعف استيعابها فكتاب «La poétique de l’ espace، شعرية الفضاء»، لـ غاستون باشلار تُرجم لـ «جماليات المكان»، كل ذلك في مواجهة نتاج الروايات الغزير. في رواية «السقوط من جنة الأسماء» لـ تسنيم الحبيب نحن إزاء رواية مهمة خاصة في المشهد الروائي الكويتي تتعامل مع “قضية البدون” مستخدمة أدواتها الناضجة في محاولة عرضها بحيادية تامة. أضع أوراقي التي هي قراءة لا تحمل القطعية، ولا ادعاء امتلاك الحقائق المطلقة، وإنما هي محاولة إزاء محاولة، متطلعة لأن أجعل الورقة رحلة سلسة، مركزة على تقنيتين فقط، دون تفاصيل كثيرة وتطبيقها على النص السالفِ ذكرُهُ.

عند الاقتراب من أي نصٍّ لابد من تحديد عناصره، ونحن هنا أمام جنس الرواية، التي تتكون من عناصر، منها: الزمان والمكان والشخصيات، ويختلف التعاملُ معها بحسب كيفية استنهاض الكاتب للتقنيات والتعامل مع هذه العناصر داخل نصه، وهذا يُعيدنا للعنوان الرئيسي: ماذا تعني التقنيات؟

لغة: هي جملة الوسائل والأساليب والطرائق التي تخص مهنة أو فناً.

فماذا تعني التقنيات اصطلاحاً؟

هي الأساليب والطرائق التي يعتمد عليها الكاتبُ في صناعة نصه وإيصاله للقارئ.

وأثناء بحثي عن كلمة تقنية في معجم اللغة العربية المعاصرة عَثرتُ على كلمة قناية، وهي: مجرى مائي صغير.

فإن تصورنا المجرى الصغير هو التقنية، فإن له تدابيره العظيمة في السرد، ضاخاً التجريب في رواية «السقوط من جنة الأسماء»، ومناصباً العداء ل”المسكوت عنه”، أي الغائب أو المخبوء الذي نتحاشى التطرق إليه؛ ولأن النقد هو حكمٌ موضوعيٌّ على النص الذاتي كما يُقال. سيكون اشتغالي على التقنية التي تُعنى أولاً بحيز الكتابة، وهي الفضاء الطباعي، والثانية بالسارد وهي الرؤية السردية.

التقنية الأولى: الفضاء الطباعي

فما المقصود بالفضاء الطباعي؟

هو فضاءٌ مكانيٌّ، حيزه الكتابُ فقط. يُعرفه حسن بحراوي في كتابه «بنية الشكل الروائي(الفضاء،الزمن،الشخصية)» بالفضاء الموضوعي لالتقاء فضاء الألفاظ بفضاء الرموز، أي فضاء الصفحة والكتاب وعليه يعتبر الفضاء الوحيد الموجود في العمل الروائي الذي “يجري فيه اللقاء بين وعي الكاتب ووعي القارئ”.

مظاهر الفضاء الطباعي: العنوان، الغلاف، شكل الكتابة، التأطير، البياض.

1-العنوان: هو الجسر القائم مابين الكتاب والقارئ، أول الطريق بينهما، علامة لغوية جاذبة. أشار إليه جاك دريدا بالقول بأنه: “الثريا التي تحتل بُعداً مكانياً مرتفعاً يمتزج لديه بمركزية الإشعاع على النص”، أو كما تعرفه الناقدة بشرى البستاني: “هو الظاهر الذي يدلُّ على باطن النص ومحتواه”، وأكثر المهتمين بالعنوان هو جيرار جينيت بكتابه «العتبات» وتقسيمه لوظائفه، فجعل منها الوظيفة البصرية والوصفية والتجارية وغيرها، وأكثرها دراسة هي الوظيفة “الوصفية”، التي تعرّف ب”الوظيفة التي يقول العنوان عن طريقها شيئاً عن النص، ويشي بشيء من فكرته، سواءً تأويلاً أو وصفاً وتحليلاً وتفسيراً”، هكذا جاء عنوان: «السقوط من جنة الأسماء»، عنوان يوقظ الفضول عبر جملة اسمية هي: “السقوط من جنة الأسماء”، والتي عند النحويين تدل على الثبات والاستقرار، لكنها نقيض ذلك في فعلها المحرك للمعاني حول المراد أو المقصود من معنى، باثاً الأسئلة حول: هل تسقط الأسماء؟ وما جنتهم؟ هل الاسم كائن يعيش وقد ينزلق ويسقط؟ ما سبب هذا السقوط؟ ومن المتسبب به؟ تُثار تساؤلاتٌ يفرضها العنوان المشوّق.

2-الغلاف: هو أول ما يقابل القارئ أيضاً، وهو الهوية البصرية، كما أنه يحوي العنوان، ولكنه أيضاً معلومات، ففيه اسم الكاتب والذي يوضع في أعلى العنوان أو أسفله، ويحدد نسبة النص للكاتب، على سطحه أحياناً صورة فوتوغرافية أو واقعية أو تجريدية أو سريالية، في هذه الرواية نحن أمام غلاف يرتسم عليه وجه بلون أزرق، وصور لأمكنة بلون أسود كأنها ظل لحكاية، واللوحة غالباً تمثل حدثاً بالقصة أو توحي إلى تقاطعها مع النص، غلاف صممه الكاتب حسين المطوع بجهد جمالي، لوحة تجريدية تعبيرية تشي بوجه رجل بجانبه الصور أو اللوحات التي لها دلالاتها الجمالية والقيمية ورمزيتها، التي تختزل النصَّ، بينما الوجه الأزرق الذي يتوسط الغلاف فعلى إحدى عينيه ورقة حمراء مرسوم عليها خريطة العالم، لا تخفي ملامح حزينة، وكلا اللونين الأزرق والأحمر لهما دلالاتهما في الكآبة والألم، وكذلك شأن اللون الأسود.

كما أن كلمة “السقوط” وهي تتدلى من العنوان تبدو كأنها ساقطة من على جبال يشوبها الرمادية والبياض، بينما هي ضربات فرشاة، أما الغلاف الخلفي فهناك فقرة تبث الشكوك واللايقين عما تواجهه الشخصية تبدأ بالمناداة: “مجاب… مجاب… مجاب” وتنتهي بتساؤل هو: “هل هذا هو اسمي؟”. هكذا تأتي مفردة السقوط التي ذكرناها بالعنوان، والنداء الموجود في الغلاف الخلفي لتكونا عامل جذب آخر في صنع هذه العتبات. كما الفقرة الخلفية لها أهميتها اللاحقة، إذ بدأت واختتمت بها الرواية مع تغيير اسم المُنادى من مجاب إلى خولة، لذا كان اختيارُ الكاتبة أو الناشر لهذه الفقرة فعلاً حاذقاً.

3-شكل الكتابة (الخط): هناك كتابة عمودية وتمثلها الأشعار والحوارات، وهناك الكتابة الأفقية وهي التي تمثل النص نفسه، والتي حين تكون كثيفة تدل على وجود أفكار كثيرة ومتشعبة لدى الشخصية.

الكتابة العمودية: سبق، أيضاً، الفصل الأول نص شعري للكاتبة، تبعه نصٌّ آخر للشاعر حسن الفضلي وقد كُتبا بكتابةٍ عمودية، والنص الخاص بالكاتبة تقول فيه: “أيها النهر العذب

ياصلاة الشموس

وترنيمة الأمهات

اجرِ

هل يُكَممك العطش؟”

وكأنها تخاطب الحكاية التي ستنهمر بالأحداث. ليكون نص الشاعر حسن الفضلي:

“أنا الطفل الذي وقف اغترابا

وقوفا شيّب القلب الفتيا

حتى يصل النص إلى: أنا الطفل الذي دفنوه حيا”. وكأن هذا النص الذي سبقه مفتتحاً فصل “مرايا” هو نص يسبق الشخصيتين الرئيسيتين مخبراً عن انكسارهما معاً. وقد وردت نصوص عدة لشعراء منهم: أحمد الرويعي، ودخيل الخليفة، ومحمد العتابي، ومحمد الصفار، نصوص أغلبها اختارتها الكاتبة من أعمالهم، الملاحظ أن أغلب الشعراء لهم علاقة بشكل مباشر أو غير مباشر بقضية البدون، فكان لنصوصهم صدى صدق مضاعف حول هذه القضية الإنسانية.

أما بالنسبة للحوارات فقد وردت بشكل أيضاً عمودي من ذلك حوار خولة مع خادمتها:

“سلطة ماما؟”.

هززت رأسي:

“أنا أعملها”.

أو حوار مجاب ووالدته:

“أختي بيبي آيات وأمها”.

تصمت:

“وهذا أخي سيد أيوب”.

تحجم… تبتسم:

“كبر عن آخر مرة رأيته فيها…كان يزور خولة قبل ثلاث سنوات”.

التغميق:

أي كاتب قد يلجأ لبعض الألاعيب أو الوسائل في شكل الكتابة؛ ليلفت نظر القارئ، من ذلك تغميق بعض الجمل والكلمات، أو جعلها مائلة، أو قد يكتبها بخط من نوع آخر، أو يكبرها، أي يكون الخط أكثر سماكة كما في عناوين الفصول مثلاً، وغير ذلك من حيل لعمل علاقة تواصلية مع القارئ وجذب اهتمامه وتفاعله.

تم استخدام التغميق في الحكاية الأولى على سبيل المثال في بداية كل فصل، فيحدد كل بلد أو مكان مر عليه مجاب خلال فترة هجرته غير الشرعية، مسطراً التاريخ واسم المكان والتاريخ فكان مطار الكويت/المدرج 12 يونيو 2000، أو حين خروجه من المحتجز الأسترالي/ملبورن 2001- 2003، أما في حكاية خولة المعنونة بالحكاية الثانية فهي أيضاً لها تغميقاتها للعناوين الجانبية ولأماكن كلها في الكويت تبدأ من خيارها الزواج من عيسى، التي تبدأ حكايتها من الكويت 30 مارس 2007 الساعة الرابعة عصراً، مروراً بالكويت 22 أبريل 2007، الساعة السابعة والنصف صباحاً، مستشفى الصباح قسم أمراض النساء والحمل. ومن الملاحظ أن الحكاية الثانية تحمل دقة التوقيت حتى الساعة التي يبدأ بها الحدث، وهو ما يجعلنا نجده دلالة على ربما ما تريد الكاتبة التلميح له عن اختلاف شخصية المرأة في تعاملها مع التفاصيل خاصة حين نراها كالسجين في مكان يُجابه الوقت فتضحى كل ثانية وتحوّل فارقاً له دوره في حياة ساكنة بالخيبة والخذلان.

أما بالنسبة لتقطيع الكلمة أو وضع نقاط بعد الكلمة، فله أثره

المضاعف في الانتباه للجملة، من ذلك: في ص37 من الرواية ما

يحدّث به مجاب: “الأحلام، والأماني كلها تنحر عبر أربعة نصول:ب د و ن، “بدون” وصمة الـ…..، النبذ، الاختلاف، الإقصاء”.

ماذا عن انهمار المونولوجات وانسحاق أدوات الترقيم بها؟

غالباً حين تتداعى أحاديث النفس في النصوص، تتوارى أدوات الترقيم أحياناً كثيرة؛ لإظهار اندفاعِها بلا ضابط، وفي الرواية المذكورة، كانت المنولوجات تأتي موجعة وصافية الألم لكنها تشي بماعليه أصحابها من يقظةٍ وانضباطٍ مع آلامهم، فكانت أدوات الترقيم ظاهرة هي الأخرى، وهي تحكي ماصار ومايصير.

ومن تلك المونولوجات، مونولوج خولة الذي تقول فيه: “لعل زواجي يعود بمياه قلبي الراكدة ويلطّف شراستي ويُمكّنني من الصفح عما أعتقدها “أخطاء أمي”، ويُمكّنني من المغفرة لأبي ومجاب ومن يدري لعلي أفتح شبابيك القلب لزوج أمي أيضاً ص296.

4-التأطير: ونعني به: وجود إطار في الصفحة، أهميته: شد انتباه عين القارئ، إلى أمر معين سواءً في المكان أو الزمان وغالباً يتوسط الصفحة. وهو مالم نره؛ لأنه لم يكن مطلوباً.

5-البياض (الفراغ): يكون أحياناً دلالة على انتهاء الفصل أو الحذف حين نتبع السطر بثلاث نقاط أو حتى في تقسيم الفصول. فالصفحة البيضاء في حالة استسلام، صحراء مجدبة تنتظر الغيث، إغواء للحرف والسواد، كما يمثل الفراغ أحياناً انتقالاً زمنياً أو حدثاً يؤدي لانتقال مكاني، من ذلك ما ورد في ص62 في قول خولة: “كنت في الخامسة”، وفراغ تبعه سطر أسفل الجملة، وانتقال زمني حول حدث انفصال والديها. كذلك حين توضع ثلاث نقاط(…)

كما كان الفراغ يشي بانتقال زمني ومكاني حين يقول مجاب: “أحمل أوراقهم لكني أشذ عن حيواتهم.

حتى حبي كان مختلفاً”.

في هذه الفراغات التي تبيّن انقضاء فترة زمنية، أو تحوّل في المكان، يعتبر البياض بها فعلاً سردياً، ويجب أن نؤكد أنه كما أن السواد في النص يشي بحالة نشاط وكتابة، أما البياض فيبين حالة السكون. علماً أن البعض لايعتبر البياض فعلاً سردياً، وإنما يعتبره عنصراً محايداً، الهدف منه تنظيم الفصول والفقرات. مثال ذلك عنوان الفصل الأول “مرايا”، وهو يقف لوحده دون أي كلمة تجاوره أو تخففف برودته، إذ للمرآة دلالات كثيرة منها أن يرى الإنسان ذاته من خلالها ومن خلال الآخرين، وهو الفصل الأول، بالتالي هو بمثابة مواجهات للتعريف بالشخصية، وظهرت ككلمة ومجاز، فكانت في خوف مجاب، في دورة مياه المطار بسطر وحيد. حين قال:”طالعتني المرآة الصبورة في دورة المياة، لقد كبرت يا هذا” ص17، أو قول خولة عن فكرة أن تنفصل عن زوجها في بداية زواجها فتقول: “… ويهرب مني في حال وقع الطلاق حلم الجواز الأزرق. أو أجدني أمام المرآة ألعن نفسي”ص24. لذلك جاء وضع مفردة “مرايا” عنواناً مناسباً لما سيأتي من مرارة. كتف الحكاية في فصل كان حوار الراوي مع نفسه فيه تصريحاً حول ذاته، وهو فصل كان مجاب وخولة يسردان مايشعران به، ومايُبرران به الأحداث التي أصابتهم بالعطب وسردها بسبب حدث عودة مجاب، بينما الفصول الأخرى كانت مقسمة لسارد واحد دون وجود صوت آخر، ويتبادلان الفصول وزرع التماعات الفضول للقارئ على حدة، هو فصل له قوة مرآة تنتصب طولياً، صامتة تبدو لامبالية، وهي مثرثرة تعكس كل مافي الروح من أوجاع.

ثم ماذا عن ألواح الكتابة في الفضاء الطباعي؟ ونعني بها ورود كلمات أوجمل أجنبية في الحوار علماً أنها ظهرت في بعض العناوين مثل عنوان المحتجز North west point محتجز جزيرة كريسماس الأسترالية.

كل ما ذكرناه والمزيد منه، يدل على ما للتقنيات من أهمية في النص، لذا تعتني الكاتبة بكافة تفاصيل الكتابة، فهذه المفاتيح السردية لها أثرها التواصلي والجمالي، هي أدوات تعطيها المزيد من القدرة على إيصال صوت فكرتها كما تريد: واضحاً، خافتاً أو مجلجلاً. فكانت لتقنيات الرواية المعاصرة طرق متنوعة منها اندماج المكان بالزمن، وسير الزمن بشكل متقطع، والاتكاء على سيرة أحدهم في نسج الرواية وكلها ظاهرة في رواية الكاتبة.

يساهم في ذلك أيضاً كونها رواية متعددة الأصوات، وهو مصطلح يراه البعض تشوبه عدم الدقة، ويختارون مصطلح “تعدد الرواة”، إذ يرون أن مصطلح “الصوت” أدى للالتباس فهو يستخدم مع الشخصية تارة أو الراوي وأحياناً الكلام.

ومعنى أنها رواية متعددة الأصوات أن الكاتب أو الروائي يحوّل الرواية الأحادية إلى نص ليس حكراً على راوٍ واحد ووجهة نظره، كما أن على الراوي رسم عوالمها دون تدخل أو انحياز منه لإحدى الشخصيات. ويتعدد الوعي والأسلوب أو الرؤية ليؤسس الحوارية كما يصفه باختين، صانعاً وجهات نظر مختلفة تجعلها أكثر اتساعاً وديمقراطية كما توصف، فيصير النص من عدة شخصيات وعدة زوايا للحدث نفسه واختلافات في الأيدولوجيا وتعدد الضمائر.

في رواية تسنيم الحبيب التي نتناولها هناك أكثر من راوٍ ووجهة نظر، هناك خبرتها في الاقتراب في السرد و كيفية بناء الشخصيات وتنوع مواقفها وصوتها، موقفها ومنطلقاتها واللغة المناسبة لها في نسيج السرد والحوار ضمن خلطة الرواية التي تتسع لأجناس عدة منها المسرح والشعر والقصة، ولكوننا نتناول النص بنيوياً فإننا سنكون ملتزمين بالنص والعلاقات والتراكيب التي نشأت به أكثر من عوامل أخرى.

التقنية الثانية: الرؤية السردية

من أجل أن ندرك الوجه الذي يأخذنا الكاتب له، كيف يبني عوالم النص الداخلية، تأتي تقنية ثانية اخترناها، مع التطرق أولاً لباب تعريف السرد لنفهم كيف تلتحم الرؤية بالسرد.

السرد -اصطلاحاً- هو: نقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورة لغوية أو طريقة الراوي التي يختارها في تقديم القصة.

بالتالي السرد هو الطريقة التي تقتضي وجود راوٍ/الشخصية ولا أعني الروائي(الكاتب)، والمروي/الرواية، والمروي له/وهو ما يمكن أن يكون شخصية أخرى، أو كائناً مجهولاً متخيلاً أو القارئ أو أياً كان من يتوجه له الروائي بروايته، بالتالي ما الذي تتطرق إليه الرواية (المروي) هنا:

رواية «السقوط من جنة الأسماء» لها التفاتتها لموضوع، أصبح يطرق أكثر في الأدب الكويتي من زوايا متعددة بإلحاح وأقصد بذلك قضية “البدون”.

هذه الرواية نجد فيها شخصيات كثراً وراويييْن رئيسييْن هما أخ وأخت يتبادلان حكايتهما من موقع مرارة لا تزول رغم رسو أحوالهما للأفضل، فاستذكارهما لما مرا به وتاريخهما لايفلتهما من الأسى. هكذا نكتشف مجاب وخولة من فئة البدون وأمهما مواطنة كويتية، أما والدهما فهو سليل “السادة” من الشيعة منبتهم “الفاو”. نسب شريف خلق شعوراً متأصلاً بالغبن أكثر تجاه أوراق ثبوتية لا تعترف برفعة مكانة العائلة وتاريخها. يتخلخل بنيان الأسرة ويتصدع بعد سفر الأب المثقف للخارج، وتطليقه للأم باتراً علاقته مع أبنائِهِ مكوناً أسرة أخرى. بعد ذلك تبدأ رحلة النص الجديدة ومسيرة الأبناء وما واجههاه، والغضب الذي أوقدت جذوته ولم تنطفئ يوماً. يتخذ الابن المميز بعد تخرجه ورفض خاله الكويتي زواجه من ابنته قرار الهجرة لائذاً بأستراليا ومن ثم العودة بعد 20 عاماً إلى الكويت، أما أخته فتبقى لتحصل على أوراق المواطنة بعد زواجها وتحقق استقرارها بعد آلام في دائرة تاريخها السابق واللاحق. أي كلاهما اتخذ مصيراً مختلفاً مروراً بغصةٍ عظيمةٍ لا يطمرها نجاح.

ولأن كل رواية لابد لها من رؤية، كان الاهتمام بما يُشار إليه بالرؤية السردية التي تكشف عوالم الكاتب وزاوية رؤيته كما سبق وذكرنا، فما الرؤية السردية؟

الرؤية السردية:

إذا كان الراوي هو السارد أو الشخصية التي تروي فإن الرؤية هي الطريقة التي يُروى بها. فهي مرتبطة بالراوي، أي الشخصية المتخيلة وليس الكاتب، ويرى تزفتيان تودوروف وهو من أهم المهتمين بالرؤية السردية، والذي سنعتمد تقسيمه لأنواعها، يرى أن شخصية الراوي كشخصية متخيلة لها موقع مميز ومختلف عن باقي الشخصيات؛ لأن القصة تمرر من خلالها لوحدها، وهي المسؤولة عن الرؤية السردية. التي تسمى أيضاً وجهة النظر والتبئير، مرت الرؤية السردية كأي مصطلح بعدة أطوار جعلها أكثر اتساعاً، واستخدم مسمى “وجهة نظر (point of view)” الذي ينسب لـ هنري جيمس في عنايته بالراوي، الذي كان يؤكد أنه لا يجب أن يظهر في النص، ولا أن يحرك الشخصيات كمحرك الدمى وألا يتعامل مع النص كراوٍ عليم بحسب رأيه، بل أن يمسرح الحدث لا أن يسرده وألا تكون له بؤرة مركزية واحدة، بل أن تتعدد.

وعليه فإنَّ ما اصطلح عليه الغالبية هو أن هذا المفهوم ينطبق -كما يذكر الناقد فيصل مالك أبكر- على: “ماهیة الطرق التي ینتهجها الكاتب لسرد أحداث عمله، وطبیعة علاقته بأدواته السردیة، وما یدور من أحداث داخل النص، وتتجلى هذه الرؤیة في النص بعدة وجوه ووجهة”. كما يذكرها الناقد عبد الكريم الدادسي بأنها “مسألة تقنية، ومظهر للحكي يستخدمه السارد لحكي قصته، بالطريقة التي يراها تخدم أهدافه، و تؤثر في المتلقي. فالسارد هو الذي يقوم بعملية السرد، ويتحكم في خيوط اللعبة السردية، والمسؤول عن توزيع مكونات النص من حواراتٍ، وأزمنةٍ، وأوصافٍ(…) ، إنه من يبلغ الحكاية للمتلقي بدلاً عن الكاتب”، أما الناقد روبرت شولز فعرف الرؤية السردية بأنها “الطريقة التي تروى بها القصة، ذلك بأن الموقف الذي ينمو لدينا من الحوادث المقدمة، وفهمنا من هذه الحوادث، وجهها الكاتب عادة من خلال استخدامه الفني لوجهة نظره”. ويعرفها تزفتيان تودوروف: “بالكيفية التي يتم بها إدراك القصة من طرف السارد”، ويُعد تودوروف وجيرار جنيت من أفضل من تناول الرؤية السردية التي لها تياران هما تيار السردية اللسانية، الذي يُعنى بلغة الرواية والعلاقات التي بُني عليها المتنُ الحكائيُّ، وتيار السردية الدلالية والتي تُعنى بالبنى العميقة للنص ودواخله، وما يهمنا هنا أننا سنتناول أنواع الرؤية السردية من ناحية تودروف، كما أنه لا يُمكن أن تخلو رواية من الرؤية السردية فما أنواعها بحسب تقسيم تودوروف؟

أنواع الرؤية:

• الرؤية من الخلف: الراوي كلي المعرفة، مطلع على ما سيحدث أكثر من الشخصيات، وفي ذلك يكون غالباً الضمير الهو، أي الراوي العليم، ونراه في القصص أو الروايات التقليدية أكثر، يتنقل بين المكان والزمان، ويتوغل في كل ما يخص الشخصيات، أيضاً، نراه في تدخله حين يتحدث عن ماضي بعض الشخصيات، أو وجهة نظره عن حدث ما أو حول شخصية ما، أو يوجه الأحداث ويصدر الأحكام. وبالتالي يقول مالا تجرؤ الشخصيات على قوله عن ذاتها، وتتخذ هذه الرؤية بالتالي عدة مظاهر كما ذكرنا سابقاً من ضمنها: استعمال ضمير الغائب، وإصدار الأحكام، وتوجيه الأحداث، وتنظيم الحوارات. ويكون الراوي بحسب رأي تودوروف أكبر من الشخصية.

مثاله ما حكته خولة عن تاريخ شخصية جدها وعراقة أصله وهجرته، وعن ذلك تقول: “وُلد جدي يتيماً في”الفاو”، ربته أمه المكافحة زهرة، التي ترملت بعد ثمانية أشهر من زواجها، زهرة الشمعة كما يطلق عليها أهل الحي” ص58.

أو عندما تقول: “السيد مجاب الكبير، المتشعب من شجرة كبيرة يسمونها الموسوية، والتي تنتهي إلى موسى الكاظم، الإمام المسجون، الذي قتل مسموماً بعد سنوات الغربة في سجون العباسيين. عرف عن السيد مجاب -جدنا- بأنه رجل مبارك وله شيء عند الله، يرفع كفيه فيزيح قلقاً جاثماً في صدر أم…”ص58.

• الرؤية مع أو المصاحبة: أي السارد يصاحب الشخصيات، فلا حدث نعرفه إلا عند حدوثه، مصدر معلوماته هي الشخصية فيرى ويصف ما يرونه، ويمكن استخدام ضمير المتكلم وأيضا الغائب أي تتعدد الضمائر. ولكن الغلبة تكون لضمير المتكلم، وهو يضفي الذاتية ويعبر عن البعد السيكولوجي للشخصية، وفي هذا النموذج يتساوى الراوي مع الشخصية فلا يعرف أكثر مما تعرف. وقد نجد في النص وجهات نظر شخصيات وآراءَها وهي تنقل أفكارها وأحداثها وتنتقد آراء شخصيات أخرى، كما قد تساهم أكثر من الشخصية المهيمنة على النص بكشف بعض الأمور كأن تبين تاريخها، ومن مظاهر هذا النوع من الرؤية استخدام المونولوج. ويرى تودوروف أن الراوي مساوٍ للشخصية. أما جينيت فيسمي هذه الرؤية بالتبئير الداخلي.

وتزخر رواية «السقوط من جنة الأسماء» التي تحكي القصة عدة رواة بالضمير المتكلم المهيمن على النص، فهناك مجاب ورحلة تغربه واغترابه وهناك خولة وجانب حكايتها من الأحداث وأيضاً اغترابها، وهناك مونولوجات عديدة منها مونولوج مجاب الذي يذكر به:

“الأشياء الثابتة والطارئة، تمتزج أمامي، تغمسني في لحظة هلامية عملاقة، فلا أنا قادر على مجاراتها بالقفز، ولا أنا قادر على السير بثبات. ما يا تُرى مشكلتي؟ لأني عجزت عن تشخيصها، هل هي وضعي “حقاً” أم طردي للغربة؟”، ص34

مونولوج ماقاساه من زواج حبيبته مريم: “يا للتعاسة ياسيد حجاب، مشكلتك أنك تؤمن بكونك هبة ربانية عظيمة لايُمكن أن ترفض أو تُزدرى”.

نموذج عن ضمير المتكلم قول مجاب:

“اندلع سلم الطائرة ليهبط عبر دركاته القادمون، امتزجتُ بهم متخلصاً من اختلافي الذي يلاحقني كوسم منذ الولادة. هواء أعرفه استقبلني بطعم الملح”.

من هذه المونولوجات: “ثمة صوت في داخلنا يخيرنا عما يجب أن نحظى به ونكونه ونتصرفه، هذا الصوت الناصع في أعماقنا لايمكن أن يخذلنا أو يخدعنا.

• الرؤية من الخارج: وهنا الراوي يختلف عن النموذجين السابقين، فمعرفته أقل من الشخصية، أي لا يعرف الكثير ولا حتى بشكل مساوٍ، معرفته محدودة ومحايدة دون الدخول لمعرفة عميقة بالشخصية، واصفاً الأمور من الخارج، فقد يصف الشخصية ولكنه لايعرف حالتها النفسية، ولا يفسر تصرفاتها، والجدير بالذكر أن هذا النوع من الرواة قد نجده في الروايات “الشيئية” وهي رواية توظف التقنيات السينمائية وتصف هيئة الشخص ولا تتجه للكوامن النفسية للشخصية، وتستند إلى الفلسفة الوجودية، ويرى تودروف أن هذا النوع نادر ظهوره في نص، ويكون متحققاً في المسرح.

يرى تودروف أن الراوي أقل من الشخصية ويرى جيرار الرؤية تبئير خارجي.

يجب الإشارة إلى أن هذه التقسيمات ليست صارمة، بمعنى أنه من الممكن أن تكمن في العمل الواحد، مع وجود أحدِها أعلى ظهوراً بمعنى قد يكون هناك رؤية الراوي، النوع الثاني الرؤية المصاحبة للشخصية باستخدام ضمير المتكلم كالمونولوج مثلاً لكن ذلك لا يمنع أن النص يغلب عليه أن تكون الرؤية من الخارج، أي الراوي أكثر معرفة من الشخصية أو تكون هناك شخصيات أخرى.

أخيراً، أود الإشارة إلى أن حديثنا عن الرؤية السردية، هو حديث عن رؤية الكاتب للاطلاع على عوالمة السردية، واهتمام بالكيفية التي تقدم بها الرواية من أحداث وقصة..

وختاماً، بالرغم من أن هذه الورقة تناولت بشكل مختصر تقنيتين، لكنني آمُلُ أنهما أظهرتا مدى جهد الكاتبة بالإمساك بنص له موضوعه المعقد إنسانياً ومجتمعياً وسياسياً.. وشخصياته المتنوعة والحيّة في جانب أن يكون البدون من أم كويتية بهذه التفاصيل الغنية، وتقنياته العديدة، دليلاً على اجتهاد وصقل مستمر لأدواتها مكّنها من تقديم نصٍّ غنيٍّ وعميقٍ ومشوّق.

*تكوين