حوضُ ماءٍ كبير نشقه بلا تردد، نسبح من دون طرطشات، نرى كوكبنا الأزرق كدمة مستديرة ومؤلمة، تصغر، تتضاءل، ولا نشفى منها. اندلع وخز الحقنة في صدغي ونحن نبتعد. أغمضت عيني، أبحرت مركبتنا الفضائية أكثر. حلقة السَّنوات الأولى: أُعطيت شريحتي من دون أن يعرف أحدٌ إلّا نائبي، نفذت القرار النهائيَّ الصادر بشأني وانتظرت تحديد المرافقين. بعد فرز ملفاتنا، تواصل معي المهبط الكوني لعمل الفحوصات الروتينية، راجعنا، أخذنا الحقنة المطلوبة، توجهنا للمركبة، أصبنا بدوار والقليل من الهذيانات. قيل كم لبثتم؟ قلنا: ساعات طويلة، وقد كنا مُحقين لينتهي ذلك بعد استقرارنا في حوض الفضاء. مضت خمسُ سنوات، رأينا الفضاء معدة واسعة لا منفذ فيها. حلقة السنوات الثانية: عشر سنوات بالحسبة الأرضية تفصلنا عن لحظة الرحيل. اجتمعنا، بدا البعض صامتاً وهشاً، همسوا بالعودة، لتظهر بعدها الزجاجات لامعةً وجليّةً. راقبناها. تناقشنا، صوّتنا، الأغلبية رفضت اكتشافها. نسيناها. حلقة السَّنوات الثالثة: تفصلنا خمس عشرة سنة، ليس بيننا من يشيخ، جميعنا قبل السفر أخذنا لقاح «زيوس» فعل اضطرار، إذ لا نعرف موعد وصولنا إلى النجاة، فتباطأت عمر الخلايا وشحب الماضي، إلّا ذاكرتينا أنا ونائبي لم تتأثرا بناءً على مبالغ باهظة دفعناها لتبقى منيعةً. ظهرت ما يُشبه غيمة ممتلئة بالزجاجات، حزام من الالتماعات الكثيفة، نور على نور على نور يُطوِّقنا بوفرة، قبلها عرفنا العيون الغائرة التائقة إلى العودة. تغيروا، نبتت المشاجرات اليومية. تنمو بذرة الشقاق على طرف الشفاه، تتلوى بأغصانها المسمومة، يتكاثر شوك الكلمات، ينتشر متنقلاً في طريق الغضب والضيق. الوقت أيضاً كان مزارعاً فطناً لا يتوقف عن ري محاصيل رغبة محورها الأوحد اكتشاف الزجاجات. أُدرك ما يُضمرون، الضجر أيضا له أصابع حاذقة، تعبث بنا، تقلّم صبرنا، إذ مرّ وقتٌ طويلٌ جدًّا من دون هبوط على كوكب أو مغامرة، ولا أفق إلّا العماء والتكرار. لذا، لم أستغرب ظهور الزجاجات كابتسامةٍ ساخرةٍ. صوتت الأغلبية للاقتراب منها، أوقفنا المركبة في مواجهتها، هادنتهم ووافقت، حذّرتهم من احتمالية خطرها، مُتعبين، شرسين لم يأبهوا، شددت على خطورة ما يفعلونه، نصحتهم، غضبوا، تركت لهم الاختيار، وانصرفت. تجمَّعوا في غرفة القيادة، ولجت غرفتي المحصّنة، فتحت الكاميرا أرقب نتائج فعلتهم. ما حدث: أطلقوا مجالاً إشعاعياً في الخارج للكشف عن وجود أي إثبات للحياة، انتظرنا، صدحت الذبذبات قوية، امتدت الأذرع الميكانيكية. تجْمع الزجاجات، سمعوا صوتي يتردد صداه: لا تأخذوا الكثير. تحلَّقوا حول أولها، كسرها العضو N2، فجأة ظهر وجهُهُ واضحاً على الشاشة الرئيسية للمركبة، تلا ذلك، صورة مدى رؤية منخفض وصوت فحيح، تبعتها أحراشٌ تتكسَّر بهدوء، الصوت يتجه إلى رضيع عارٍ، تمتدُّ أصابع مكسوة بقفازين تخنقه، تتسع الصورة، نجد N2 بملابسَ عسكريةٍ يبعد الجثة متوجهاً ناحية منزل، نستمع لطلقاتٍ ليزرية كثيفةٍ وصراخٍ، تنطفئُ الشاشة. التفتنا للعضو N2، مصدوماً خرّ فجأة متحولاً إلى أفعى تتخبط، تنفجر مخلفة دائرة رماد. ذهلوا، ببطء تحركوا، شقت الاتهامات مساراتها، عرفوا ألّا شجرة مباركة تُظلِّلهم. ارتفعت الأصوات لتصبح شتائم حادة. تحدثت إليهم من شاشة غرفتي آمرة: لا تفتحوا المزيد. إلّا أنَّ نائبي أصر على التصويت، في ظل غضبهم وخوفهم انحازوا للفضول وواصلوا. تطوعت صاحبة عين شاردة، دنت، كسرت زجاجة، ظهرت صورتها واسمها E48، عبر الأشعة الضوئية للشاشة وسط قاعة الاجتماع، تراءى لنا بطن قارب يتشقَّق، تتسرب المياه عبر انكساراتِ جسدِهِ، أقدام تجاهد، وأخرى تستسلم، وأياد تتحرك، وأجساد تهبط وأخرى تعلو، فقاعات فقاعات فقاعات كثيفة ودماء ووجوه فزعة تواجه شيئاً يُسرع مرةً أخرى تجاههم، حاولوا الهرب في تخبُّطٍ مرير، رأينا جميعاً E48 تقود مركباً ضخماً، يتجه ناحية الهاربين لتصدمهم. تلا ذلك ظلامٌ دامس.. فجأة صرخت المتطوعة أصبحت في هيئة سمكة قرش، ابتعدوا عنها مذعورين، وهي على الأرض ترتجف، تنفجر، تتخبّط يتطاير غبارها. صمتوا طويلاً، مُتحلِّقين حول الزجاجات الأسطوانية بإنارتها الحادة. اقتربت مجموعة من أصحاب العيون الغائمة، يتطوَّعون، يكتشفون ذاكرتهم الملغاة عن جرمهم الذي عوقبوا عليه بالنفي، بقلوب منطفئة، أدركوا كيفية ارتكابهم آثامهم. أيقنوا لقاح «زيوس» أعطاهم ذاكرةً هرمةً وجسداً شاباً. هكذا رأينا بعضهم، يتحول إلى يدٍ ضخمةٍ، أو سلاح أشعة فتاكة، تخبرنا الصورة عن الخطيئة، ويكون مصيره الانفجار كرذاذ، كتراب، كغبار. قبل ذلك: كلانا يعرفُ أنَّ زجاجات الإدانة ستلاحقُ المركبة، كلما تعالت المطالباتُ المُلحَّة بالعودة، تحملُ شريحة الذاكرة، يلمسُها أحدهم فتتجسد الجرائم، لذا جعلناهم يُواجهون مصيرهم للخلاص، خططنا لأدوارنا. ادَّعى الرَّفض ويُطالب نائبي بالتصويت، مدركيْن نتيجة ما سيحدث بلا ندم. وحدنا اطّلعنا على شروط النفي، فأي إعلان رغبةٍ بالعودة ستولد وتظهر زجاجةٌ تضيءُ شريحة ذاكرتها وتلاحقنا، من يمسكها ترجع له تفاصيل جريمته مرئية، ويتلاشى، فسفينتنا للقتلة، وأنا الأكثر نفوذاً وحرصاً على الالتزام بما تقرر سابقاً بموجب العقد الأرضيِّ أقوم بتطبيقِهِ لتكفينا المؤن. تقتضي الأوامرُ تنفيذ عقوبة الامحاء، وألا تتعدى 7 أفراد في كل مرة، قمنا بذلك بدقة، لكنها الرَّغبة التي استعرت في تصفيتهم، جعلتنا لا نوقف نزيف كسر الزجاجات، إذ كان نائبي قاتلاً متسلسلاً وكنت قائدة كتيبة إعدام تمادت، نفينا ولم نخسر شغفنا بالفتك.
*القبس الثقافي