دائماً خفتُ من الورقة البيضاء، خفت من الكلمة الأولى، الجملة الأولى، السطر الأول، أما الفقرة الأولى فبدت لي دائماً التّحدي الأكبر.
لكنني في تجاربي مع بعض الأعمال خفت أكثر، ومنها رواية «دبابة تحت شجرة عيد الميلاد» ولعل المخيف في الأمر هو أن تجد نفسك واقفاً في عام 1916 وتنظر أمامك إلى عام 1993 وأن عليك أن تقطع هذه المسافة الزمنية الهائلة، أن تعيش ما عاشته فلسطين خلالها من جمال وفن وأدب ونضال وحروب وموت وميلاد، ثم موت وميلاد..
قطْع هذه المسافة الزمنية والسير عبرها لإعادة بناء الحياة، أمامك لا خلفك، أمر مخيف.
مخطئ من يظن أنه (يعود) إلى الماضي ليكتب عنه، لأن عليه أن (يكون) هناك أصلاً، وحين يكون، عليه أن يحرص على أن الزمن الذي ذهب إليه هو حاضر بكل ما تعنيه الكلمة. وأنه يعيشه، لا يتذكره.
في رواية «قناديل ملك الجليل» كان همّي أن أعيد بناء مملكة فلسطين، في القرن الثامن عشر، على الورق كما بناها ظاهر العُمَر على الأرض، ليراها القارئ ترتفع حجراً حجراً، ليكون فيها، وإلا لا ضرورة للكتابة حين تكون الكتابة استعادة لحكاية مرّت، الكتابة هي الحكاية نفسها، حياتها، ماؤها ودمها وخضرتها ونبضات قلبها.
عشت هذا الأمر في «ثلاثية الأجراس» في «دبابة تحت شجرة عيد الميلاد» لم أحسّ لحظة أنني في «عمّان» وأنا أكتب عن بيت ساحور والقدس وبيت لحم وحيفا، كنت هناك حقاً، وحتى الآن لا أعرف إن كنتُ عدتُ من هناك أم لا.
هل هذه هي جماليات الكتابة، أم عذاباتها؟ لا أستطيع الإجابة، ولكنها في ظني الوجود نفسه، الوجود المادي: أن تكون هناك، والوجود بمعناه الفلسفي العميق إنسانياً ووطنياً.
من أجمل الأسئلة التي وجِّهت إليّ سؤال وجّهه شاب من فلسطيننا البحرية، من الجليل، وكان: كيف استطعتَ أن تعرف الطريق من قريتنا إلى الناصرة، وأن تصفه بهذه الدقة، أنت الذي لم تكن هناك في أي يوم من الأيام؟! حتى أنني رحت أراقب الطريق، بعد قراءة الرواية، وأكتشف أشياء لم أكن قد رأيتها من قبل!
ككاتب يدهشني هذا أيضاً، لأنني كنت على وشك أن أسأله عن مدى دقتي في وصف ذلك الطريق. ولذا، لم أجد إجابة لسؤاله إلا هذا السؤال: ومن يثبتُ لكَ، أو لي، أنني لست هناك فعلاً، حتى الآن؟!
كل هذا المقدمة لأقول إن «دبابة تحت شجرة عيد الميلاد» كانت واحدة من أجمل وأصعب حيواتي التي عشتها. ولذا، كنت أخشى اقتراب النهاية، كأنني طفل سيسافر للمرة الأولى في حياته وحيداً، مخلِّفاً وراءه كل أحبابه، بعد أن ملأ حقيبته بكل ما عاش، هل يمكن أن نملأ حقيبتنا بحياتنا الماضية، كما نملأ بها ملابسنا؟ لا أعرف.
ولكنني أعرف أنني كلما قرأت صفحة من صفحات الرواية عثرت على نفسي، في نهاية الصفحة، هناك في بيت ساحور وبيت لحم والقدس.
منذ عام 1990 حضّرتُ لهذه الثلاثية، ولهذه الرواية، التي أعتبرها شكراً كبيراً لأهالي بيت ساحور بشكل خاص، الذين منحونا واحدة من أعمق حكايات النضال عبر التاريخ الفلسطيني، بعصيانهم المجيد خلال الانتفاضة الأولى. وهي تحية للانتفاضة الأولى، وفوز الرواية اليوم فوز لمُثل تلك الانتفاضة وجماليات المقاومة التي كان البيانو في الرواية أنفاسها، وكانت مارتا وكاترين ورولا وإسكندر وجورج وسلامة وبشارة أسماءها.
من الرائع أن يفوز هؤلاء بالجائزة، من الرائع أن تثبت أرواحهم مرة بعد أخرى أن فلسطين ابنة الحياة دائماً بقيمها وبجمالها وبحضاريتها وبقلبها الذي في الحبّ وروحها التي في الحرية.
وكما قلت في كلمتي: أن يفوزَ المرءُ بجائزة كبيرةٍ كجائزة كتارا، مرّتين، فلهذا معنى كبير، ولكن أن تفوز روايةٌ عن الجمال الفلسطيني، خلالَ قرن، تقريباً.. روايةٌ عن الحب والموسيقى وعبقريةِ النضال، في زمن المحو الذي يعصف بفلسطين اليوم.. روايةٌ عن الفلسطينيّ الذي أصبح جسداً لذاكرته، مثلما أصبحت ذاكرته فعلا أسطوريّاً لمعنى وجوده، فلذلك معانٍ أخرى.
وأن تفوزَ روايةٌ تتبّع جذورَ الفكر الصهيونيّ وطرائق عمله للسيطرة على فلسطين وقتل أهلها وتهجيرهم.. روايةٌ عن دور المسيحيين الفلسطينيين، إنسانياً وجمالياً ووطنياً، بشكل خاص، فذلك يعيدُنا إلى الحقيقة الإنسانية الأجمل والأعمق: أنا لا يعنيني ما تؤمن به، يعنيني ما الذي تفعله بهذا الإيمان.
ولذا، كلُّ الشكر لجائزة كتارا التي تُرسّخ قيمة جديدة في عالم الجوائز العربية، وهي تؤكّد أن مسيرة الكاتب لا تنتهي بفوزه، فتمنحُه الجائزةَ مرة ثانية، وكل الشكر للجنة التحكيم التي احتضنت هذا العمل الروائي بوعيها الفنيّ والفكريّ والجماليّ والإنسانيّ.
كل الشكر للقارئات والقراء الذين احتفوا بهذا الفوز بصورة مدهشة، فكان جائزة ثالثة حقاً، هي تاج الجوائز وملكتها، هم الذين احتفوا بهذا العمل من قبل، ولولا هذا الاحتفاء لما كان له أن يصدُر في أربع طبعات خلال عام، ولناشري، الدار العربية للعلوم، ولكل أولئك الذين يؤمنون بقدرة الميلاد وشجرته على دحر الدبابة ومن فيها من غُزاة.
وبعد، من الرواية:
«رغم كل هذا الموت الذي نراه، إلا أن ما بتّ متأكّداً منه أننا كفلسطينيين أصبحنا أفضل منذ أن حمل أولادنا الحجارة، وعلّمونا كيف نرشق الجنود. في هذه الانتفاضة كلنا أبناء أولادنا، ليس أولادنا الذين أنجبناهم فقط، بل كلّ الأبناء الذين أنجبهم سوانا.
الاحتلال قبيح دائماً، ليس عندنا فقط، بل في كلّ مكان، ولكنَّ في وجوده دائماً شيئاً عميقاً من جوهر سخريات القدر، وإذا أراد الإنسان أن يواصل القتال دون أن ييأس، فليس هنالك وسيلة أفضل من اعتبار المُحتلّ خطأ مطبعيّاً فاحشاً في كتاب الزمن.
وبعد أيضاً:
عليك أن تبدأ لكي تعرف أنك تستطيع، أما إذا لم تبدأ فإن أبسط الأمور سيظلّ مستحيلاً لأنك لم تحاول.
*القدس العربي