ابراهيم نصر الله: حين ينام التاريخ نحن الذين نحلم

0

التاريخ ينام دائمًا، ينام طويلًا، وإن لم نوقظه لن يستيقظ أبدًا، بخلاف الحاضر الذي لا ينام ولا يصحو؛ مثلنا، أما المستقبل فهو منشغل على الدوام بمهمة واحدة، أن يوقظنا مع بزوغ شمس كل صباح؛ كثير منا لا يستيقظون، فيصبحون تاريخًا، هؤلاء من الصعب أن يوقظهم أحد، أُممًا كانوا أو أفرادًا.
الطغاة يعرفون ذلك، فتتكثف مهمتهم الأولى في هدف واحد، أن يضاعفوا حجم الأغطية التي يُغلق التاريخ عينيه تحتها، غاطًّا في النوم الأعمق.
التاريخ لا يحلم، نحن الذين نحلم، ومَن يحلم نصفُ نائم، لا يمكن أن يكون نائمًا تمامًا، إنه يقاوم النوم بصحو من نوع خاص.
من يستيقظ هو الذي كان يحلم، من لا يحلم لا يستيقظ أبدًا.
.. والطغاة لا يكتفون بزيادة عدد الأغطية فوق جسد التاريخ ومعناه، إنهم يحفرون له ما يلزم من قبور، ويحرصون دائمًا على أن تكون عميقة، إذا كانوا خائفين من أن يستيقظ، أو أقلّ عمقًا، إذا كانوا واثقين بقدرتهم على تحويل كل من يعترض طريقهم إلى تراب، وأحيانًا يدفنون التاريخ برفات جديد لبشر جدد، بأشلاء هؤلاء البشر، وأسمائهم أيضًا.
بعض الطغاة لا يطمئنون، فيرفعون مدنًا وصروحًا فوق قبر التاريخ كي يطمئنوا أنه لن ينهض أبدًا، أكان عدوًّا لإمبراطورياتهم، أم عدوًّا شخصيًا لهم، أم عدوًّا لروايتهم المخترعة عنه. الصهاينة فعلوا ذلك بعد أن أبادوا القرى الفلسطينية وذبحوا البشر، أمّا الأباطرة مثل الرئيس الديكتاتور منغستو هيلا مريام، فقد دفن جثمان الإمبراطور هيلا سيلاسي، الإمبراطور السابق له، تحت حمامات القصر الإمبراطوري الواقعة تحت مكتب مريام. في حين قام الطاغية الشهير عيدي أمين بقتل رئيس أركان الجيش بعد تعذيب شديد، ونقَل أشلاءه إلى القصر الجمهوري ليحتفظ بها داخل ثلاجة، وكأنه يريد أن يتأكّد كل صباح، بعينه المجردة، أنه قتله فعلًا.
البشرية أدركتْ ما فعلوه ويفعلونه من قديم، لكن الطغاة والإمبراطوريات لا يدركون شيئًا وهم يكررون المجازر، ويواصلون الاحتلالات والحروب والقمع، وتجويع للبشر واغتصاب حرياتهم وجمالهم.
هناك إمبراطوريات قديمة وحديثة باتت شهيرة بسبب الطغيان الذي مارسته ضد شعوب العالم، مثل بريطانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، وألمانيا، واليابان. وهناك ما هي أقل شهرة منها البرتغال، وهناك إمبراطوريات طغتْ وبشّعتْ، لكن صورتها اليوم هي صورة الدول المحايدة المُسالمة، مثل السويد وهولندا وبلجيكا.
كان المستعمِرون البلجيكيون يقومون بقطْع أيدي الأطفال والعمال العاملين في جمع المطاط، إذا رأى هؤلاء المستعمرون أنهم يتباطؤون في عملهم، أو غير صالحين لأداء هذه المهمة، أو يقومون بقطع أيدي وأرجل أطفال هؤلاء العمال؛ وقد أشارت الدراسات إلى أنهم قطعوا أحيانًا أرجل صغيرات وصغار في الخامسة من أعمارهم لمعاقبة آبائهم وهم يصرخون في وجوههم: هيّا إلى العمل!
بلجيكا اليوم تعاني عارًا متجدّدًا بسبب جريمة من عائلة الجرائم نفسها، إذ بعد قيامها، بأمر مباشر من رئيس الوزراء البلجيكي آنذاك عام 1961، باختطاف وإعدام المناضل وبطل التحرير باتريس لومومبا، أول رئيس وزراء منتخب للكونغو. قامت فرقة الاغتيال «بدفن جثمانه في قبر ضحل، ثم استُخرج من الأرض ونُقل مسافة 200 كم، ثم دفن ثانية، ثمّ تمَّ استخراجه مرة أخرى وقُطِّع إربًا إربًا، وأخيرًا ذُوِّب في مادة حمضية!»
هناك في وطن تبلغ مساحته 75 ضعف مساحة بلجيكا نفسها، قرر مفوض الشرطة الاحتفاظ بسن لومومبا الذهبية، تذكارًا ربما (هل كانوا يحتفظون بأيدي الأطفال التي يقطّعونها تذكاراتٍ أيضًا؟).
معركة السنّ، الذي عذّب ضمير مفوض الشرطة، كما قيل في نهايات أيام حياته، تواصلت، قبل أن يُسلَّم السنُّ لأسرة لومومبا في مراسم اعتذار بعد نضال مستمر من ابنته جوليانا لاستعادة هذا الذي تبقى من جسده.
ونعود للتاريخ، لمئات جثامين الفلسطينيين التي دفنتهم الفاشية الصهيونية، وأخفت هذه الجثامين مرة في الثلاجات، مثل عيدي أمين، ومرّة تحت الأرض مثل مانغستو هيلا مريام، ومرة في أجساد صهيونية أخرى حين سرقت أعضاءهم لاستخدامها لإطالة عمر جنودها مجرمي الحرب.
الصهيونية لم تدرك بعد أنّ هناك مئات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين الذين يشبهون جوليانا؛ جوليانا التي كان عمرها خمس سنوات حين تمّ التخلّص من جثمان أبيها بكل تلك الهمجية. الفاشية الصهيونية لا تدرك كيف يراقب أطفال فلسطين، أيضًا، آباءهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم وإخوانهم وأخواتهم الأسرى، الذين يُحكِم النازيون الجدد أبواب الزنازين عليهم، ويُصدرون أحكامًا بدفنهم في القبور التي يسمونها السجون مئات السنوات.. مؤبدات لا تُحصى.
هذه الدولة العنصرية التي يتنبأ قادتها وكتّابها بزوالها خلال سنوات، ما زالت تملك الثقة بعماها أنها ستعيش ألف سنة، بعدد المؤبدات التي تصدرها على مناضلي الحرية من أجل وطنهم.
لكن المفارقة الجميلة هنا، أنها حين تُصدر حكمًا بالسجن ألف سنة على مناضل فلسطيني، تؤكد، بصورة تدركها أو لا تدركها، أن هذا المناضل سيبقى حيًا ألف عام قادمة، هي التي ترتعد في كوابيسها المعلنة وهي تخشى أنها لن تتم مائة عام من عمرها.
لن يبقى أسرى فلسطين ألف عام خلف القضبان، لأن أطفالهم لم ينتظروا يومًا واحدًا ليخرجوا إلى الشوارع للمطالبة بإطلاق سراح جثامين آبائهم وأخوتهم من القبور، وأرواحهم وابتساماتهم من الزنازين…
أي كابوس ينتظر هذه العنصرية على عتبات بوابات المستقبل، حين ستصحو ذات صباح، وتكتشف أن هناك ملايين الأطفال الفلسطينيين يطالبون بعيون وأصابع وأرجل وجمال آبائهم الذين استشهدوا والذين دفنوا بعيدًا عن زهور تمنّى هؤلاء الصغار والصغيرات أن يضعوها على قبور أحبتهم.
سن باتريس لومومبا، يستحق فيلمًا كبيرًا، وإن كان هناك فيلم أُنتِج قبل 22 عامًا، وشهداؤنا في مقابر الأرقام وأسرانا في الزنازين يستحقون أيضًا أفلامًا وروايات وقصصًا ومسرحيات وأعمالًا موسيقية بعدد أسنانهم وأصابعهم وعيونهم وأحضانهم وضحكاتهم التي حُرمتْ بناتُهم وأبناؤهم منها.
وبعــــد:
ذلك القيد، تلكَ القضبان، وذلكَ السَّوط
تلك البندقية، وذلكَ الجنرال
يدركونَ أنهم زائلونْ.
ونحن، حين نغني
لا نفعلُ أكثرَ من تذكيرهم بزوالهم
ولذلك.. يكون القيدُ، وهذه القضبان
هذا السَّوطُ، وهذه البندقيةُ، وهذا الجنرالُ
وزوالهم.. معهم.

*القدس العربي