يبدو أن كل ما مرَّ من مآس في تاريخ البشرية مرشح للعودة ثانية، أما المستقبل الذي كان في الماضي يشير إلى أفق، فلم يعد قابلا للتكرار! كل شيء يتغير بتسارع لم نعد نملك القدرة على رؤيته، وما يجري تطويره من وسائل الدمار والسيطرة، بعيدا عن أعيننا، لا يمتّ بصلة لما نحن فرحون به الآن؛ لأن ما تغرق به أسواقنا اليوم ليس أكثر من (ألعاب) صغيرة تتلهّى بنا، ونحن نُقبل عليها كأننا جياع أو عطشى، بدءا من الجاسوس الذكي الذي في جيوبنا، الجاسوس الذي لم نعد قادرين على مفارقته، وكأنه بات قطعة منّا، إلى الأجيال التالية من وسائل الاتصال والحروب أيضا.
لم تعد البشرية مهتمّة فعلا بكونها منتهكة، حتى الآن، أو على الأقل معظمها؛ كل فرد قابل بالانتهاك اليوم، وراض به، ومُقبل عليه كأنه جائزة تمنح له من بين خلق الله، كما عبر عنه فيلم أوليفر ستون (قتلة بالفطرة، 1994) ذات يوم، حيث رفع المتظاهرون المحبّون للمجرم وصديقته يافطة تقول: (اقتلنا ميكي)!
نحن نتحدث اليوم عن استباحتنا باعتبارها طُرَفا، أو غرائب، نشهق حينما نسمعها كما لو أننا نسمع حكاية قادمة من أساطير الماضي.
نشهق ونحن نشاهد الطلقة الذبابة أو النحلة التي في استطاعتها أن تذهب مباشرة إلى جبين ذلك الذي خُزّنت في داخلها صورته، لتقتله، حتى لو كان محاطا بآلاف الحراس، هذه الذبابة التي ستكون في وقت قريب سلاحا يبيد مدنا وجيوشا دون أن نسمع صوت انفجار رصاصة واحدة.
يركض الناس، اليوم، لمشاهدة فيلم يجلس فيه القتلة براحة تامة، يتبادلون الطُّرَفَ؛ هم في نيفادا والضحية في أي مكان في العالم، وحين ينتهي عملهم، وكأنه لعبة إلكترونية، يذهبون لحفل شواء مع أطفالهم وزوجاتهم وأصدقائهم.
ما يقوم به هؤلاء اليوم لعبة فعلا، مقارنة بالأسلحة التي ستوضع بين أيديهم غدا.
لكن ما يتندّر به البشر اليوم، ويفتحون أفواههم دَهَشا عند سماعه، لا يكون كذلك حين يختلون بأنفسهم، أو بأناس قريبين منهم، فهنالك الخوف؛ ويحقّ للبشر أن يخافوا، فالذي لا يخاف لن يُدرك مأزقه ومأزق البشر حوله.
منذ القديم حذَّرت الآداب، السرد أولا، والفنون، السينما بشكل خاص، من مستقبل لا يشبه شمس النهار، ولا قمر الليل؛ بل منذ أن وعى الإنسان مأزق وجوده. لكننا اليوم، نبدو أمام كل المخاوف التي سبقت، مضافا إليها مخاوف جديدة.
يبدو العالم اليوم، الذي عانى من طغاة لا مثيل لهم في الماضي، طغاة أبادوا ودمّروا وقتلوا، يبدو غير قادر على استيعاب أي درس سبق، إذ لم يزل كثير من البشر يملكون جرأة التحلُّق حول أكثر الزّعماء جنونا واستباحة لحياة البشر وثرواتهم، وكرامتهم.
بمعنى أن العالم الذي اعتقد البشر أنه بات متحضِّرا وواعيا لحقوق سواه، لم يزل قادرا على التحلّق حول طغاته وكأنهم تحولوا إلى دين؛ فلو نظرنا إلى نموذج مثل شخصية ترامب، أو نتنياهو، سنجد أن ثمة من يصفّق للجنون والعنصرية والغطرسة، وهذا يعني أن كل من يصفق له في داخله مجنون عنصري متغطرس صغير على استعداد أن يتضخّم في أي لحظة ليتحوّل إلى أداة إبادة.
ما الذي ينتظرنا على عتبة المستقبل، أو على عتبة العقد الثالث من قرننا هذا؟
لم أقرأ تفاؤلا في كتابات مفكر أو فيلسوف أو مبدع كبير، كلّها تحذر من القادم، لكن من اللافت أن هذه المخاوف باتت جزءا من الفكر اليومي للإنسان العادي الذي بات يرى ويقرُّ «أن المستقبل لم يعد كما كان!»، في وقت يتمّ العمل على تحويل مخاوف البشر المتعلقة بمطالبهم اليومية: العدالة، النمو، الحرية وسواها، إلى مخاوف تتعلق بالمصير نفسه، الذي لن تمارس فيه الطبيعة الانتخاب الطبيعي، بل سيمارس فيه من يملكون التكنولوجيا والقوة حق الانتخاب، لا في ما يتعلق بمخلوقات بعينها، بل بأمم بعينها، بغية التخفّف منها ومن وجودها الذي بات بالنسبة لها «حِمْلا ثقيلا» فوق هذا الكوكب، وباتت ثرواتها وأرضها حقّا يتم استلابه اليوم بالتهديد، وغدا بالإبادة، كما تمت إبادة 150 مليون هندي أحمر طمعا في أرضهم وهوائهم.
أمام ذلك كله، تبرز اليوم ظاهرتان: الأولى هي التسليم بما يحدث، حيث تقوم الأنظمة في كثير من الدول العربية والعالم بتسليم ثرواتها ومصائر شعوبها طوْعا للقتلة في هذا الفصل من فصول الخراب، الذي يمكن أن ندعوه «معانقة الوحوش»، على أمل النجاة من أنيابها!
أما الظاهرة الثانية، فهي ثورات الشعوب التي، وإن بدت في ظاهرها إصلاحا لواقع محلّي يعاني منه كلّ شعب، إلا أنها في الحقيقة سعيٌ لوقف التدهور على المستوى الإنساني برمّته، لأن التخلص من الطغاة الصغار والإبادات الصغيرة التي يرتكبونها، هو في الحقيقة تخلّص من أنظمة كبرى وطغاتها في مناطق أخرى، وتخلّص من تغوّل هذه الأنظمة وهؤلاء الطغاة الذين باتوا يدمرون كل شيء، بما في ذلك شعوبهم.
ما تبقّى من هذا القرن هو كتاب الثورات، الثورات التي لم تعد تقنعها عمليات التجميل التي تجريها الأنظمة لنفسها، أو يُجريها سواها لها، سواء كانت عملية التجميل لوجوهها أو لأيديها التي تُدجج، بوهم القوة، بسلاح ليس لها، لأن هذا السلاح ليس أكثر من عمليات تجميل لنفخ عضلاتها وصدورها، في زمن يرى البشر بوضوح اضمحلال رؤوسها وهشاشة سيقانها.
كان لشعوب العالم العربي، ولم يزل، ودائما، الحقّ في الثورة على طغاة منحوا أنفسهم الخلود، وبلادهم الخراب، ومنحهم الطغاة الصغار، ممن حولهم، الحق المُطلق في إبادة أي شيء. ثورات العالم العربي المستمرة هي مقدمات لثورات كثيرة ستندلع في كل مكان، كل مكان على سطح هذا العالم، لأن البشر بسرعة كبيرة أو بسرعة أقلّ، سيدركون أن مصيرهم على هذه الأرض ذاهب لعين الخطر، ولذا لا بدَّ لهم من إزالة هؤلاء الطغاة الصغار والكبار، في طريقهم لأنبل معاركهم: «نكون أو لا نكون»، ولن تنجو من ذلك دول صغيرة طارئة، وكبيرة، مثل أمريكا، من غضب ثورات شعوبها.
وبعد:
كنت أودّ أن أبدأ هذه السنة الجديدة، العقد الجديد، بمقال متفائل، لكنني كتبتُ ذات يوم أن الكتابة لا يمكن أن تكون عملية تجميل للجراح المفتوحة، ولعل هذا ما دفعني قبل أربعة أعوام لأن أقطع مشروعا روائيا كنت أعمل عليه، لأكتب رواية «حرب الكلب الثانية» التي سيطرت تماما عليَّ بأجوائها وحكايتها التي كانت تضع قَدما على أرض الحاضر الدامي، وقدما على أرض المستقبل الذي لا نتمناه لأي إنسان بعدنا.
المصدر: القدس العربي