يعرف الأدب السردي في الجزائر تقديرا واحتفاء وطنيا وعربيا، بل وعالميا (الأدب المكتوب بالفرنسية). فبعد فوز الروائي عبد الوهاب عيساوي بجائزة البوكر(الجائزة العالمية للرواية العربية) عام 2020 عن روايته «الديوان الإسبرطي»، فاز هذا العام الروائي عبد الله كروم بجائزة آسيا جبار للرواية عن روايته الواعدة «الطرحان» (لي عودة إلى هذه الرواية في مقالة خاصة). وقبل ذلك وفي عام 2021 فاز الروائي أحمد طيباوي بجائزة نجيب محفوظ للرواية التي تمنحها دار نشر الجامعة الأمريكية في القاهرة، عن روايته الواعدة كذلك «اختفاء السيد لا أحد» وقالت اللجنة في تقدير هذا العمل «في هذه الرواية المقنعة والمصاغة بشكل متقن، يلعب طيباوي بشاعرية الأدب السوداوي ليقدم نقدا قاتما ومثيرا للدهشة للدولة العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار وأساطيره».
وأوصت اللجنة بترجمة الرواية إلى اللغة الإنكليزية، وأحمد طيباوي صدرت له رواية قبل ذلك هي رواية «موت ناعم « التي احتلت المرتبة الثالثة لجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي، وهو روائي واعد، يمتلك اللغة الروائية والتقنيات السردية والخلفية الفكرية التي تقوم وراء أعماله السردية التي تتعمق الوجود الإنساني، وتقارب المأساة الإنسانية وحرية وطنه وأمته تحت وطأة التاريخ، والواقع في تجلياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والوجودية، مقتبسا عن كافكا وفولكنر وميلان كونديرا التقنيات التي مكنته من تقديم أعمال جديرة بالاحتفاء.
ظهرت هذه الرواية عام 2019 في طبعتها الأولى في 120 صفحة عن منشورات ضفاف بيروت ومنشورات الاختلاف الجزائر، وقسمها إلى فصلين» الرجل الذي سرق وجهه ورحل» و»الجحيم يطل من النافذة» ومن العتبة الأولى العنوان والعتبات الفرعية الأخرى لهذا المتن السردي، يتجلى معنى الحضور في الغياب، والوجود في الذوبان والاختفاء، إنها جدلية الوجود والعدم، ليكتشف القارئ عبر حبكة بوليسية مشوقة وعناوين فرعية تشبه المشاهد، عالما مترديا في حالة سقوط حر ولن يعدو القارئ الحقيقة إذا وجد في البطل صورة عنه، فهو يتماهى مع المجموع ويذوب في الجماعة، فاختفاؤه هو اختفاء للمجموع وهي رمزية لحالة التأزم والإحساس بفقد المعنى، وانفتاح الأفق نحو الهاوية. ومن تلك العناوين الفرعية للفصل الأول: مراوغة، تكالب، شفافية، ابتذال. وعناوين الفصل الثاني: مقدمات ساذجة، أحدهم يخفي سرا، بوصلة القلب، مجرد أقدار، رصيف ضيق، يتبطن النص بسخرية مقنعة ولغة شاعرية أحيانا أخرى ودقيقة في الوقت ذاته، دون حشو ولا تكلف، مع الحرص على عنصر التشويق، وقد أتقن الكاتب اصطناع الحبكة البوليسية التي تجعل البطل يلهث والقارئ يلهث وراءه لاكتشاف حقيقة السيد لا أ حد ومن يكون؟ ولماذا اختفى فجأة مع مفتش الشرطة وحيد؟
الهوية الإنسانية
كل هذه العتبات الرئيسية والثانوية تحيل على تمثل قضية الهوية الإنسانية والوجود، فالبطل شخصية مهتزة هلامية، غير ثابتة الملامح تعيش تحت وطأة ظروف أشبه بالجبر التاريخي والسياسي والثقافي والاقتصادي، ما جعلها شخصية فصامية، أي مزدوجة الشخصية، تتحرى الصدق والفضيلة تارة بالتزام الصلاة في المسجد، ولا تتوانى عن ممارسة الرذيلة حينا آخر، والبطل يعيش مع شيخ يتعهده مقابل تقاسم المنحة الشهرية معه، وهو شيخ حاضر غائب وميت حي، لعله التاريخ كذلك، ولهذا الشيخ الفاقد لذاكرته ولد مغترب في ألمانيا هو مراد، وتحيل شخصية مراد على الواقع، فالحاضر والمستقبل لاجئان في ديار الغربة، والماضي مركون في زاوية يشهد على بؤس الراهن وعدميته ، لهذا يغدو البطل ريشة في مهب الريح تتقاذفها النزوات والظروف ومختلف الإكراهات الراهنة، لتجد الحل في الاختفاء والتلاشي، وهكذا يتناسل العدم من رحم الوجود، والغياب من رحم الحضور لتتجلى قمة المأساة الإنسانية.
تبدو رنة السخرية واضحة في هذا العمل السردي الذي يتكئ على الحبكة البوليسية، ويصطنع عنصر التشويق والمفارقة كدافع لأحداثه ومطور للمتن السردي بجمل قصيرة لاهثة تناسب الموقف ولغة تتاخم الشاعرية في كثير من المقاطع السردية. تشبه هذه الرواية رواية ميلان كونديرا «كائن لا تحتمل خفته»، فالاختفاء هو الحرية والتحرر معا من إكراهات الواقع وضغوطه، وهذا الواقع المترنح بين جدلية الوجود والعدم لمجتمع غارق في الزيف والرياء والاستلاب والخوف اللاشعوري، الذي يجعل الواحد لا يدلي بشهادة لصالح الحقيقة خوفا من المضايقات والإكراهات ولوذا بالسلامة، مع أن الإنسان موقف وصدق مع النفس ومع الآخر، وتضامن مع الآخر ووقوف إلى جانبه ولصالح الحق والحقيقة، وهذه حقيقة الكائن المستلب، إنه شخص ببعدين فقط الطول والعرض بلا ارتفاع، الذي هو أفق الحرية والكرامة الإنسانية، هي تلك الحالة التي يتأنس فيها اللاهوت ويتأله الناسوت، أي حالة الكرامة الآدمية في سقفها العالي، التي تحيل على معنى الخلافة في الأرض، ولكن الجبر بمختلف أشكاله وثقل التاريخ ووطأته وعدمية الواقع وبؤسه تجعل الفرد شخصا مستلبا مقهورا حضوره في غيابه ووجوده في رحيله، استعذب انحداره واستلذ هوانه وركن إلى الدعة والاستسلام يصدق عليه قول الشاعر القديم:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيــــــلام
فهو نكرة مجهول الهوية، كما تنبئ الرواية مغيب الملامح، ويجد ذلك معناه في عنوان الفصل الأول «الرجل الذي فقد وجهه ورحل»، فالوجه هوية الإنسان لأنه يتمثل ملامحه النفسية والفكرية والوجودية وفقده يحيل على فقد الوجود ذاته، إنه ضغط الواقع في تجاذباته وصراعاته وحاجاته الملحة وضمور المعنى وتلاشيه، أو اختفاء الجوهري الذي طمسه الواقع العدمي.
كثير من السرديات العربية التي قاربت هذه الإشكالية في أعمال غائب طعمة فرمان، وحيدر حيدر وغالب هلسا وعبد الرحمن منيف ومحمد زفزاف، وحتى النصوص الشعرية تعرضت لهذا المأزق الوجودي الذي هو مأزق وجودي عربي بامتياز، فالعالم العربي عالم إشكالي ينوء بثقل التاريخ وبؤس الحاضر من الناحية الإنسانية والحضارية، حيث الحرية بمفهومها الشامل مغيبة كالإمام المهدي عند الشيعة، وإن كانت الأدبيات الدينية الشيعية والسنية تعتقدان في أوبته ليملأ الأرض عدلا، بعد أن ملئت جورا فإن الحرية في المحيط العربي ينحو بها الأدب الانتقادي والتشاؤمي ذو المسحة الكابية نحو اليأس من وجودها يوما، وأمام القارئ أشعار محمد الماغوط ومحمود درويش الأخيرة.
عالم المثل
واللغة التي تقترب في بعض المقاطع السردية من الشعرية تتعمق هذه النفس لتكشف تناقضاتها وانشطارها بين عالم المثل وعالم الحضيض، الذي تساق إليه أو تنساق إليه ببرودة أعصاب ولامبالاة، وهذا ما يجعل الرواية رواية رهيبة بعدد صفحاتها القليل لأن اللغة تصطنع الجمل القصيرة اللاهثة واللغة الموجزة والمكثفة المتكئة على الإيحاء ذات النبض السريع والتردد القصير. وإذا كان الحب قدر الإنسان في هذه الحياة، الحب بمعناه الشامل من حيث هو كينونة إنسانية ومطمح بشري مشروع فإنه مع البطل يتحول إلى مجرد ممارسة جسدية سرعان ما يمل منها ويضطرب في علاقة واهية مع مراهقة ليكتشف سرابية العلاقة، بل تفاهتها لتحيل على عذابات اللاشعور وفوراته البركانية التي ذبذبت تصرفات البطل الذي غدا لا يميز بين الصح والخطأ ولا يبالي ما دام يتردى ببرودة أعصاب.
يرى بعض النقاد أن البطل صورة للشعب الذي ظلت ترافقه الخيبات والانكسارات والردات السياسية والاجتماعية والثقافية، وما ينوء به كاهله من ثقل التاريخ بقضه وقضيضه، وهو تاريخ تتزاحم فيه الغزوات الأجنبية منذ ما قبل الميلاد إلى الاستعمار الفرنسي إلى مرحلة الدولة الوطنية وهي في الواقع نمذجة لعالم عربي يشترك في المنطلق والمسار والمأزق الراهن، الذي انتهى إلى الصراع الإثني أو الطائفي أو الديني أو اللغوي والهوياتي، تتجاذبه المشاريع والأيديولوجات، بتعبير علي حرب التي انتهت به إلى المأزق الراهن.
إن شخصية المحقق مراد، الذي يتعقب البطل لا أحد يختفي هو الآخر ولهذا رمزية كبيرة فهو يمثل المؤسسة ليختلط الحابل بالنابل، كما يقال، ويغدو وجود الكل في اختفائهم، وكما تحيل الرواية على واقع محلي يتمثل في ما يعرف بالعشرية السوداء، التي عرفت التطرف وانتهت إلى حمام من الدم وقد تعرض البطل للاختطاف، ولكنه نجا من الموت. إنها رواية ترصد رحلة قارب بها الكاتب الفوضى العارمة في الأحداث وممارسة التعمية والتضليل والخداع الفني عبر الحبكة البوليسية المشوقة التي تجعل القارئ يجري مع الأحداث ويسابقها ليعرف هوية السيد لا أحدا ومصيره، ليصدم بأن فيه شبها منه أو أنه هو ذاته. وعن اتكاء البطل على منحة عجوز فاقد لذاكرته ينادي البطل باسم ابنه مراد المغترب في الخارج، له رمزية كذلك فهو يعني من جهة الهروب إلى الضفة كخلاص من الوحل والواقع المتردي والاتكاء على ثقل التاريخ كذلك، تاريخ خاضه الشعب بعد مخاض عسير ضد مستعمر غاصب حاول طمس معالم شخصيته وتأبيد عبوديته وامتصاص دمه، لكن الوعي أنهى حالة العبودية والعبد تنتهي عبوديته حين يعي وضعه، كما ينص ماركس، لكن الحاضر متعثر في صورة ما بعد الدولة الوطنية التي رفع شعارها غب الاستقلال وتكررت العثرات، إنها الشخصية السيزيفية بأتم معنى وأدقه، ولعل في الواقع العربي الراهن ما يزكي ذلك، ناهيك من التشرذم والانقسام الطائفي والتكالب الخارجي الذي عطل نمو الدولة الإله كما ينص هيغل. ولعل قمة المأساة حين يتعفن البطل لا أحد داخليا، فيتقلب في حالة أشبه بالمسخ الكافكوي إلى فاقد لمعنى الرجولة والشهامة والمواقف، فيقبل بتحويل الشقة إلى وكر للبغاء ما دام يدر عليه مالا يسد به رمقه ويلبي حاجاته، تلك الحاجيات التي ترخص فيه إنسانيته ووهجه وتطمسها معا.
سؤال الكينونة
هذه اللعبة الفنية التي مارسها طيباوي باقتدار، فالشيخ العجوز هو نفسه الراوي الذي بدأ السرد بلسانه كشخصية داخل السرد ليصبح خارجا عن المتن السردي كحاضر غائب وميت حي ويشكل متكأ فنيا يحيل على معنى العجز والعطالة ورتابة الزمن وقدمه واتكاليته كذلك. وكذلك حال المجتمعات التي لم تتعد المنعطفات الحضارية، كما نص محمد أركون، مثل مجتمعنا العربي الذي ظل يراوح مكانه يقدم رجلا ووجهه مشدود إلى وراء يستقبل المستقبل بقفاه في إشارة إلى هيمنة الماضي على الحاضر، والمؤسسة على الإنسان حتى الدينية التي لا ترى في المؤمن غير خاطئ مذنب مدان، وتغدو طقوسه تكرارية رتيبة كذلك، بدل الإنسية والحداثة ومجتمع الأنوار الذي يغدو فيه الفعل خلاقا، ويحس الفرد بأنه ليس رقما، بل كائنا فاعلا مؤثرا في مسار التاريخ مهما كان وضعه الاجتماعي وميوله الفكرية.
رواية «اختفاء السيد لا أحد» تدفعنا إلى سؤال الكينونة والوجود، ماذا يمكن للعائد من الموت أن يخسر؟ ما معنى الخلاص بالنسبة لمن انتقل من حافة الموت إلى حافة الجنون؟ كيف لمن لا وجود له أن يختفي؟ فالاختفاء هو شرط التجلي والجنون هو المهرب والخلاص والعجيب أن المبدع ياسر العظمة في مراياه العربية، يركز في كثير من الحلقات على الجنون والدروشة والعبط، كحل ومخلص فلكل ضيعه مجنونها الذي يحظى بالتكريم، في حين يعيش صاحب العقل في جحيم حقيقي تضاعف الدولة الوطنية من مآسيه. ويستعذب المجتمع سيره نحو الهاوية.
*القدس العربي