ابراهيم محمود: جنسية المهاجِر

0

يتحرك المهاجِرُ عكْس عقارب الساعة” وهنا تكون الانطلاقة من البلد الذي ينتمي إليه “، وهو يصبح لاجئاً ” في البلد الذي يحط رحاله فيه، أو يكون قد حط رحاله برغبته أو ضدها لأن ظروفاً لم تساعده في بلوغ النقطة التي كانت أفكاره ومشاعره تتمحور حولها، نقطة الوصول في الدولة المعنية تماماً “، بعكس الحركة التي نشهدها في الطبيعة أيضاً: هناك من اليمين إلى اليسار، وهنا من اليسار إلى اليمين، لكن عقارب الساعة صنعة إنسانية، وقد صمّمت في وضعية معينة ومكان معين من خلال ارتباطها بانحسار ظل الشمس: كلما تحركت الشمس، بالمفهوم الحسي البشري، وليس الفلكي، كان هناك انحسار لظلها، وهذه بداهة، فهي تتبع خط رحلتها المعهودة من الشرق إلى الغرب “، أما الساعة فبمفهوم الشمال تتبع خط تحرُّكٍ من اليسار إلى اليمين، تأكيداً على اختلاف مفهوم الزمان بين نصفيّ الكرة الأرضية، إنما لا بد أن يؤخَذ في الحسبان دورُ السياسة وخاصيتها المكانية في هذا التحديد .

إنما- أيضاً – ما علاقة كل ذلك بموضوعة المهاجر وحركته؟

ربما حتى الآن، وفي منظور الآخذين بالمفهوم الديني “الإسلامي”، فإن الحركة الطبيعية، والتي تتم من اليمين إلى اليسار، وأن مثال الطواف حول الكعبة، وهو من اليمين إلى اليسار، تأكيد على دقته، تجاوباً مع موقع القلب وسلامته حيث الالتفاف صوب اليسار بدءاً من اليمين. ومن المعلوم أن الحركة قديمة وليست صنعة إسلامية بطابعها الطقوسي، لمن يتابع الموضوع، وبالتالي يكون المضفى على هوية الجانب العقائدي السياسيّ التوجه، هو هذا الجاري، وخصوصاً عند تبيُّن فعل ” الطواف ” وهو أكثر من مفهوم ” الحركة “، كونها ذات مغزى شعائري، ولو أنه” الطواف ” موصول بما هو طبيعي، لاعتُمِدت الكلمةُ الدقيقة والخاصة بالطبيعة ” الحركة “، فالطواف يحوز الحركة ويؤمّمها له وليس العكس.

هنا، ولتأكيد الـ” هنا ” يلتقي دوران عقرب الساعة مع طواف ” المسلم المؤمن ” حول الكعبة ! إنما له ” كعبته ” المرتسمة حديثاً، وتُحمَل معه !

المهاجر نقيض الحركتين، حيث إن حركته ليست منتظمة، باعتباره يتبع توجهاتٍ بالكاد تكون عائدة إليه، وإن كان يريد الوصول إلى بلد من بين بلاد كثيرة ” أوربية إجمالاً “، هي توجهات دليله التاجر الخاص” المهرّب “. إن كلمة المهرّب هي أدق تعبير عما يجري. إنه ضد القانون السائد بغضّ النظر عن محتواه القيمي في بلد المهاجر/ اللاجىء” ولا ندري ما نوع العلاقة بين هذا القانون في عمومه، وحركة الطبيعة وعقرب الساعة ؟!”، المهرب ليس له اتجاه محدَّد، منتظم، وإلا لبطل أن يكون مهرّباً. والمهرَّب ” سلعة بشرية ” وهنا تكون المفارقة، مفارقة أن التهريب استثنائي في اسمه ومسماه، عندما نكون إزاء ظاهرة كوكبية وفي سياقات معينة، إذ المعهود هو أن التهريب يطال سلعاً، أما أن تكون السلعة أشخاصاً، وبكميات لافتة، فهنا يهتز القانون، بقدر ما يكون الافتراق عن حركة عقرب الساعة الذي يعمل ضمن فسحة محمية من المؤثرات الخارجية، وهي الرقعة المحمولة في معصم اليد” الآن في أجهزة كثيرة: الموبايل، أجهزة الكومبيوتر، وغيرها للتأكيد على إمكان معاينة الزمن في كل شيء، ومن وراء هذا الإنشاء ؟!”، المهرَّب إنسان من لحم ودم، وهو بالطريقة هذه يوجَّه في مسارات مجهولة، حيث تتوافر  مجموعة احتمالات، وقد تقل عددياً، أو تنعدم، طالما أن الخطة الموضوعة يقوم بها أناس يعملون ضد القانون ونظام الطبيعة معاً، حيث ينتشر أشخاص ربما لا تكون تلك العلاقة التي تصلهم بعضهم بالبعض الآخر وبالنسبة للمهرَّب: الإنسان عموماً، مترابطة كما هي حلقات سلسلة طويلة في خطوط غير مستقرة. بالعكس! ثمة تكتُّم على هذا النظام ” اللانظام : نظام التهريب ” وهي عبارة متناقضة “، طالما أن التهريب كاسم يعايَن بوصفه غير مشروع، لهذا لا يعود النظام المعهود بقانون خاص به يسيّره ويعرَف به. وفي بلدان مختلفة، وبلغات تتفارق هنا وهناك، توجد كما يتم تبنّي لغة متبعة أحياناً هي الإشارات، وفي الغالب، ومن جهة القيّمين على الموضوع، لا ينبغي أن يعرَف المساهمون الأوَل في مضمار التهريب من خلالها. أي إن الأدلّاء وهم مهرّبون، يتقاضون عملة، إنهم مأجورون تماماً، وقد يتعرضون لأسواء العقاب” يقضى عليهم، يلاحَقون، كما يجري الآن هنا وهناك “، سوى أنهم باقون، من داخل هذا البلد أو ذاك، حتى في أكثر الأوضاع سوءاً في التشديد، والعملية في كل مرة مرتبطة بعروض أسعار”: ثمة عرض وثمة طلب طبعاً “، والقيّمون الكبار يفرضون أسعارهم، وهم يُسمّون نقاط العبور، لمن يطبّقون تعاليمهم، وهي محتملة الفشل، حتى وإن كان هذا القيّم أو ذاك متنفذاً بشكل استثنائي في هذا البلد أو ذاك، لكن العمل لا يكشَف عنه، فهو إذاً يعمل داخل نظام استثنائي أو شبه معروف بطريقة ما، لا يسمح بالكشف عنه، باعتباره خرْقاً! فالقيّم هذا مقيم في ” عل ٍ “. إنه جغرافي ممتاز من منظور حِرفي وظيفي لا بد منه، يعرف الثغور القائمة، أو كيفية إيجادها بطريقته الشمّية الخاصة “. ها قد استعنَّا بحاسة الشم بصيغتها الحيوانية “، نعم، الشم ميزة بارعة، استثناء الاستثناء لدى القيّم الذي يكون المهرّب الأعلى الأكثر نفوذاً طُرّاً، ميزته أنه يبز كل الوسائل الأخرى، وهي المتَّبعة والمعهودة في سلّم العلاقات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمعات، فيما بينها …الخ، بما أن الشم يعمل في صمت، ويتوافر على علامة فارقة بالنسبة إليه، من ضمن علامات كثيرة ومتفاوتة، وهي الصمت المخترق لجسم النظام أي نظام. شمّام الأثر هو الحواسيُّ الذي لا يجارى في هذه الصنعة ” الكار “، ضمن مسافات بعيدة، وتحديداً عندما يستحيل تحديد المسافة الفاصلة بين مركزه الحكومي، الرسمي، أو نصف الحكومي ” قد يكون موظفاً، وله إسهام في أعمال خاصة به أو بغيره ! “، وتلك النقطة/ النقاط التي تعنى بالعبور، حتى الرسمية منها، التي يحدث لها أن تتعرض لفعل تعطيل، ويجيّر نظام عملها الترانزيتي، أي يكون هناك ” اكتراء ” لهذا الخط/ النقطة، أو من هذه الجهة / الموقع، وسواهما. إن تدبير زمن مقتطع من الزمن السائد، يتناسب واقتطاع أمكنة حسابية/ هندسية: خطوط اتصال متقطعة، تؤمّن على ممرات أو معابر لهؤلاء الجاري تهريبهم، وهم مرئيون أحياناً، حيث يختل القانون، ويكون هناك التعدي عليه، من ضمن التدابير التي لا يكشَف عنها. وهذه نقطة مهمة، وغاية في الخطورة، لحظة التعرُّف إليها: أعني بها أنها خطة لا توضَع على الطاولة ويجري التقيُّد بها بشكل ظاهري، إنما في العتمة، أعني في السر. إن خطة القيّم الأكبر والذي يضم مجموعة أشخاص، كل منهم يعمل آمراً على إحداثية معينة طبعاً، في منطقة معينة طبعاً، هو ولي أمرها، ودونما استقرار طبعاً، إخلاصاً لحِرَفية التهريب، وبالمقابل دائماً، لهي خطة ضاربة ضارية تعمل وفق مبدأ ” قلب الطاولات والكراسي معاً “، لأن تلك تعني التروّي، تعني تلفزتها، أو الإعلام عنها، تعني الفسْح في المجال للمعنيين بها لأن يغطّوا أنشطتها، أما هنا فالوقوف وربما بتوتر، وفي زمن محسوب بدقة، وأحياناً عبر إشارات خاصة، ينعدم فيها الأشخاص بأسمائهم” المعروفون أشخاص عاملون في التهريب، وليس الميع، أما المهرَّبون فلا تهمُّ أسماؤهم أو جنسياتهم إجمالاً، إنما العدد/ الكم، لأن ثمة مقايضة، سمسرة في منطوق مافياوات التهريب بامتياز “، الوقوف بالمعنى الدلالي” السيميائي ” يناظر آمراً ناهياً على الزمن المعهود والمكان المعهود، إنها لعبة شيقة، خطيرة، لا تخفي ميتاتها، أو حتى قد تكون الخطة الواحدة منتهية بكارثة إنسانية ” غرق سفينة تخرق النظام البحري هنا بالتأكيد، التعرض لقافلة بشرية بنهبها وربما القضاء عليها، ومن الصعب جداً، وأحياناً من باب الاستحالة معرفة مصير الذين يتم تهريبهم دائماً، حيث يجرَّدون من هوياتهم، وتنعدم المسئولية بما أنهم تسلعنوا، بالعكس، وكما سنرى، يخضع كل مهرَّب لآلية فعل المجهول، وهو هنا  محتوى في نطاق ” اللاجئ، إذ يكون مهاجراً “، إنه يسعى جاهداً كما هو موجَّه لألَّا يُكشف عنه حتى لحظة بلوغه النقطة ” النهائية ” أشير هنا، لمن يهمه أمر اللاجئ/ المهرب “، إلى أن نسبة ملحوظة من اللاجئين المهاجرين في الأيام الأخيرة ” بدءاً من  الخامس من أيلول 2015، وهم ينطلقون من المجر باتجاه النمسا ومنهم إلى ألمانيا، وهم يتحركون في صفوف منتظمة، وثمة من كانوا يقدّمون لهم حلوى، أو ما يشبه الحلوى، وبعضهم كان يمد يده لتناولها والبعض الآخر يخفي وجهه، حتى وهو داخل المدينة الألمانية، خوفاً من التعرض لملاحقة ما، ربما لأنه يتبع ما موجّه به تعليمياتياً..؟! “. القيّمون في تهريب الأشخاص يعملون بمبدأ ” الوقوف “، وإعطاء الأوامر/ التعليمات، بما أن الجلوس إلى الطاولة يعني اقتطاع زمن محسوب، ولفت أنظار. إن شمام الأثر يقتفي الآثار، يلتقط الإشارات، ولكل شمام أثر منطقته التي يتقاضى عليها أجراً، والأجر ” إجْر دون جسد ” وبالكاد يعرف المهرّبون هؤلاء بعضهم بعضاً، وربما يقضي بعضهم على الآخر عند التعرض لخطر ما يتهدده في موقعه واسمه، كما لو أن الفعل هذا يقابل الثمن المدفوع لإخفاء أثر الجريمة.

شمّام الأثر لا يُرى بسهولة، لأن الصمت يخفي ما في الداخل، إنها عتمة أخرى لا تنفذ بيسر، والذين يهاجرون قد لا يعيشون هذه الحالات، أو هم على إدراك مما يتم أو يجري، ربما العكس هو الدائر: تعطيل فعل الحواس الذاتية والائتمار بالآخر: المهرّب وكيفية التحرك، إنه المصير المعلق في المجهول، رغم التطمينات، والمخاوف قائمة، حيث المبلغ المدفوع وحده لا يعني تأميناً على الحياة، بالعكس أيضاً: إن أول ما يجب أن يؤخَذ في الحسبان، هو أن كل ما يفكّر في الهجرة، وصنعة اللاجئ، ما أن يخطو الخطوة الأولى حتى يتنازل مرغماً عن اسمه وتفكيره، لئلا يتبلبل” أعني : يتبهدل “، وبما أنه يكون في طواعية المهرّب، لأن أي اعتراض في نقطة ما قد ينهيه، وفي الحالات كافة، فإن لدينا مجموعة مصائر مجهولة، أو مصيراً مجهولاً في مفهومه العام، حيث التنازل عما يميّز المهاجر غير ” الشرعي ” يوحي إليه بأن ذلك من مصلحته، وتلك بداهة أخرى في سلسلة البداهات المنتمية إلى هذه الخطوط غير المرئية إلا من جهة متعهديها ونسبتهم البليغة إلى خانة ” غسيل الأموال “، لأن المبلغ المدفوع من قبل كل شخص وهو لا يستهان به، مبلغ ضخم، ربما كلّفه الكثير عند تأمينه ووضعه عند شخص ثالث، هو الوسيط، صاحب مكتب أو سواه، وربما يكلّفه حياته فيذهب المبلغ نفسه في مأساة مركَّبة، يكون الوسيط نفسه داخل عتلة اللعبة، أي يعمل بنسبة معينة، وقد يكون متعدد أدوار أحياناً: داعية تهريب، سمساراً، متعهداً، مؤمّن خطوط اتصال، متقصي أخبار هنا وهناك، يعمل في الضوء حيث لمكتبه أحياناً اسم تجاري معلوم وزبائن ومهنة رسمية وضرائب مدفوعة، وربما مكانة أو اعتبار داخل الكيان التنظيمي للدولة هذه أو تلك، ولكنه شمام أثر، وعمله وهو ” واقف ” وفي صمت قد يكون مدراً عليه مكاسب أو أرباحاً أكثر، حيث مكتبه في أوقات معينة ينفتح لعرض آخر المستجدات وإنهاء ما يصل بها سريعاً.

المهاجِر اللاجئ يعرف ما هو فيه أو عليه، إذ قد يكون حامل شهادة جامعية عالية، تضطره ظروفه، أو هو يندفع في هذا المسار لأن يصبح داخل اللعبة مسلّماً أمره لمن لا يستحق النظر قيمة واعتباراً، لكن موقعه، أو ارتباطه بالذين يمارسون هذا النشاط المتعدي لحدود دول قد يصعب حصرها، هو الذي يضفي عليه قيمة محروسة بجلاء، وبالطريقة هذه يتساوى  الأشخاص المهرَّبون: بوصفهم مهاجِرين، ولعله المجال الوحيد الذي يتساوى فيه الناس: لا فرق بين رجل وامرأة، وربما بين الصغير” بعمر معين، ودائماً حسب الاتفاق المبرَم ” والكبير، كون الأكثر تحملاً للمشاق يحيل الطريق إليه، إذ العمولة الحاصلة في مضمار النشاط القائم تلغي التفاوتات فيما بينهم، وربما أمكن تلمُّس التفاوت بين هؤلاء وهم ضمن قافلة أو طابور، ولصالح الأكثر تميزاً بعدم المعرفة عندما يكون الأكثر طواعية لمن بات معنياً به وبصلاحيات زمنية ومكانية محددة، خلاف الذي يحاول أحياناً التعريف بنفسه أو ثقافته، الأمر الذي قد يستثير ” جماعته ” ونقمة الآمر عليهم جميعاً، بما أن مجرد الدخول في لعبة التهريب تصريح مباشر بأنه لم يعد من حقوق معتبرة لأي منهم، وهنا ربما يمكن الكشف عن تلك المكبوتات التي تعرّف بالذين يديرون الشبكة، بالذين يعملون داخلهم، ممن تكون ثقافتهم محدودة، وقد تنمَّروا وأظهروا أو يظهرون شدة أو عنفاً، وربما ما هو أحط قيمة بالسلوكات التي يجسّدونها في هؤلاء المهاجرين باتفاقيات جانبية مع أشخاص لا يدخلون على خط تحركاتهم في هذه الجهة الجغرافية أو تلك فحسب، إنما يتعقبونها ويتربصون بها وينالون منهم. وتلك صفقات أخرى تتداخل فيها الأهواء والميول، ودسائس السياسات، ورموزها. والرابط الوحيد الذي يشد الأمّي إلى متسنّم أعلى سلطة اعتبارية في جسم الدولة في هذه العملية المرعبة هو ” المال ” الذي يقبَض وقوفاً أو على عجل هو الآخر وفي صمت !

مادة خاصة بالموقع

مجلة أوراق

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here