ابراهيم عبد المجيد: بين القصة والمقال

0

لماذا يشعر الكهول بأن ماضيهم كان أجمل في الزمان والمكان، رغم أن الغالبية عانت وكافحت من أجل بناء مستقبل لهم. النوستالجيا هي التفسير الأقرب.. الحنين الذي يستبد بالإنسان كلما تقدم في العمر. هذا تفسير نفسي حقيقي ومريح، لكن حين ترى ما حولك ليس كما تمنيت، ليس لنفسك لكن لوطنك، تصبح كلمة نوستالجيا مضللة، فهناك أسباب عينية وراءها دائما الساسة ونظمهم السياسية، التي ذهبت بالبلاد إلى الخراب.
هنا تصبح النوستالجيا شاطئا شخصيا جدا تريح صاحبها، لكنها أيضا قد تزيده ألماً وإحساساً بالخراب بعد أن تنتهي لحظات الحنين، وينظر الشخص حوله. النوستالجيا تقفز وحدها وليس دائما وراءها رغبة، وقد يكون ألم الحاضر الشخصي سببا في استدعائها، لتصبح حافزا على البقاء. تمنح صاحبها بعض القوة، أجل، وإن للحظات. لكن هل يمكن أن يذهب الإنسان إلى النوستالجيا بإرادته؟ ليس عندي إجابة، لكني فتحت بابها الواسع دون أن أقصد . فبسبب مرضي أخذت قرارا عجيبا وهو، أن أحاول جمع مقالاتي لتكون جاهزة للنشر سواء كتب الله لي الشفاء أو أذن بالرحيل. فعلت ذلك بحماس شديد ورحت أقلب في ما بقي من المجلات والصحف التي كنت أحتفظ بصفحاتها التي نُشرت فيها المقالات عبر الزمان، قبل ظهور الإنترنت. لم أجدها كلها طبعا لكن ساعدتني الإنترنت على الدخول إلى مواقع المجلات والصحف، وبصفة خاصة على «موقع الشارخ» الذي أسسسه الكاتب والباحث الكويتي محمد الشارخ في وقت مبكر جدا. محمد الشارخ الذي هو أبو اللغة العربية في الكمبيوتر، حيث يرجع له الفضل في إدخال اللغة العربية إلى الحواسب منذ الثمانينيات وكان هو الرائد والأول.
أذهلني وجود مقالات كنت نسيتها تماما عبارة عن عروض لكتب أجنبية إنكليزية اللغة، لم تترجم بعد، ولم أر لها ترجمة بعد ذلك. نشرتها في مجلة «العربي» الكويتية العريقة حين كان يرأسها المفكر محمد الرميحي، ومجلة «الفيصل» السعودية في سنواتها الأولى في السبعينيات حين كان يرأس تحريرها علوي طه الصافي، ومجلة «المصور» المصرية في الثمانينيات حين كان يرأس دار الهلال مكرم محمد أحمد. ما كتبته في السنوات العشر الماضية من عروض لكتب إنكليزية أتذكره، لكنني نسيت ما نشرته في السبعينيات والثمانينيات. صرت مذهولا حقا. بعيدا عن عناوين الكتب التي كانت فريدة جدا ومثيرة في الفنون والأدب والتاريخ والمغامرات والعمران وغيرها كثير، سألت نفسي كيف كنت نسيت ذلك.
عادت لي أيام جميلة حقا لكن لم تخل من ألم تحول إلى ضحك وسعادة إذ عبرتها بسلام. كان نشر القصص سهلا في الصحف والمجلات المصرية والعربية، لكن أنت لا تكتب قصة كل يوم. وفي زماننا الأول في السبعينيات والثمانينات لم يكن العائد المادي للقصص يقيم حياة، ومن ثم كانت كتابة المقالات هي الطريقة الأسرع. طبعا في هذا الزمن الذي نعيشه في مصر الآن، لا مقالات ولا قصص نافعة لإقامة الحياة، وكان الله في عون الشباب. المقالات هي بنت العقل بينما القصة والرواية بنت الروح لا تكتبها بإرادة. هي التي تكتبك وتأخذك عن الحياة. شاب جاء من الإسكندرية ليعمل في الثقافة الجماهيرية التابعة لوزراة الثقافة، لم يترك له أهله ميراثا غير العلم، ولا تكفيه الوظيفة سواء كان أعزب أو متزوجا، فلن ينتظر عائد القصة والرواية التي هي نفسها لا تأتي للوجود إلا بإرادتها. أخذتني النوستالجيا إلى حقائق جميلة من جهة ومؤلمة من جهة أخري.. الجميل كيف حقا ساعدتني كتابة المقالات على الحياة أكثر مما ساعدتني كتابة القصص والروايات، وكيف استطعت أن أقسم حياتي بين ليل للإبداع ونهار للفكر والمقالات. مؤكد كانت الأماكن المفتوحة للنشر تساعد على ذلك، لكن أيضا مؤكد أني كنت اختار ما أكتب عنه ليكون محل اهتمام من المجلة أو الصحيفة.

لم تكن كتابة تقليدية عن شيء متواتر وكانت عروض الكتب الإنكليزية بالذات أسرع ما يمكن نشره. رحت أتذكر كيف كانت القوة والطاقة والروح لأداء ذلك، أنا الذي رفضت أن أعمل في الصحافة في سن مبكرة خشية تضييع الوقت، وخشية أن أكون رهن الأحداث، رغم مغريات الصحافة، واخترت مكانا استطيع أن أتغيب فيه أكثر مما أحضر وهو، الثقافة الجماهيرية لأتفرغ لكتاباتي. لقد أُحلت إلى التقاعد عام 2006 وكان راتبي كمدير عام ستمئة وخمسين جنيها، وهو ما كان يوازي وقتها مكافأة مقالين في مجلة عربية، أو مقال وقصة قصيرة. لم يكن راتبي الثابت له من دور أكثر من دفع إيجار الشقة وثمن المياه والكهرباء والمواصلات وأجرة البواب. أما الأكل والشرب والفُسح وتربية الأولاد فكانت من كتابة المقالات في السنين الأولي. لم انتهي من كتابة المقالات التي أصبحت عادة، تصل بي أو بكاتبها إلى الجمهور أسرع . لكن لسنوات كان هناك من يحاول إغلاق طرق النشر عليّ من بعض كتاب الستينيات المتنفذين، فكنت أضحك وأكتب المقالات التي لن يرفضها أحد، خاصة مقالات عروض الكتب الإنكليزية. استطعت أن افتح لنفسي كل الطرق ولم أتعجلها. ساعدني اتساع الوقت لأني غير حريص على الذهاب المنتظم إلى العمل، وكان رؤسائي يعرفون ذلك ويقدرونه ولا يطلبونني إلا في الأوقات المهمة من مؤتمرات أو سفر، حتي حين كان يتم انتدابي مديرا عاما كنت أوزع العمل بين الموظفين، وأقول لهم أن ينسوني فسوف أحضر مرة أو مرتين في الشهر، وأحصل لهم على قرار من رئيس الجهاز بإعفائهم من التوقيع في دفتر الحضور والانصراف، وأخبرهم بإمكانية الغياب لهم أيضا، لكن بالتنسيق في ما بينهم. المهم وقت الأعمال الكبيرة مثل المؤتمرات التي نقيمها للثقافة والمثقفين لا يتغيب أحد. ورغم ندبي في مناصب ثقافية فكنت بعد ثلاث أو أربع سنوات استقيل من المنصب، وأعود موظفا عاديا لا يذهب إلى العمل أيضا إلا نادرا.
عودتي للمقالات القديمة لجمعها في كتب مع غيرها من الجديد، جعلت غرفة مكتبي في البيت خيمة جميلة عامرة بالذكريات، وصرت أتساءل كيف كانت هذه الروح وهذه القدرات وأين ذهبت. لا يوجد فنان يعترف بالتقدم في العمر، كثير جدا من الأشخاص الذين عرفتهم في هذه المسيرة رحلوا، واندهشت من أنني حتي الآن أتصور أنهم موجودون ويمكن أن أذهب إليهم وأقابلهم، وإني أنا المقصر في السؤال عنهم أو الذهاب إليهم! في لحظات قفز اليأس بسؤال ما معنى ما فعلت وقد صرنا إلى ما نحن فيه، وهذا هو المؤلم. كيف كان يحدوني الأمل وأحول غضبي إلى مقالات ليت أحدا يستمع، ولم يحدث إلا نادرا جدا أن استجاب أحد أو وعد بالاستجابة، حتي استبد بروحي يقين عجيب لكنه حقيقي، وهو أن لا تكتب عن شيء جميل فسيضيعونه أو يهدمونه، ولا تكتب عن شيء قبيح فسيزينونه. لكنني لم أتوقف عن كتابة المقالات، وإن لم يعد من أجل العائد المادي فقط لكنها أسرع النفثات، فلست من المغرمين بتحويل القصة أو الرواية إلى مديح، أو تقليل من شخصيات حقيقية يعرفها القارئ. تلك هي الكتابة المباشرة التي تخرج عن دائرة الروح إلى الفكر وأفضل منها كتابة مقال أو كتاب فكري. لكن هل أترك الألم يستبد بروحي؟ لا.. رحت «أهش» هذا السؤال من أمامي وتستيقظ المتعة القديمة بما كتبت، والمتعة الجميلة القديمة أيضا بالحصول على المكافأة التي يضيع نصفها في السهر في مقهى ريش، أو الجريون أو شوارع الحسين والسيدة زينب. كانت المقالات عنادا مع الحياة الصعبة وأملا كبيرا حتى وقد خاب في الحياة الأجمل، ثم صارت إدمانا شاركت فيه القصة والرواية، حتي إني محبة لها ككائن مشى معي طول العمر أكتب الآن عنها فهل ستقرأني!

*القدس العربي