كان من المعروف عن المفكر الفرنسي ميشال فوكو أنه لا يعترف بالحلول الوسط بل لا يعرفها أصلاً في العلاقات الشخصية. فهو إما أن يحب وإما أن يكره. ومن هنا كانت معاركه الشخصية كثيرة وشهيرة، ويتندر بها أهل الثقافة الفرنسيون في تلك السنوات الذهبية في مجالي الإبداع والفكر خلال الربع الثالث من القرن العشرين. ولعل ذلك قد أسهم إلى حد كبير في تحول فوكو نفسه إلى ظاهرة، ومعه تحول الحياة الفكرية الفرنسية برمتها إلى مواضيع جذابة تملأ صحف العالم وإن لم تكن صحفاً متخصصة.
الكيل كيلان وتبدأ المعركة
ونعرف طبعاً أن زملاء لفوكو كانوا يعرفون حين يبادرهم بالعداء، كيف يكيلون له الكيل كيلين، حتى ولو بدأوا حياتهم الفكرية والعملية مقربين منه. ومن هؤلاء جاك دريدا الذي قبل أن يمعن في معارضته كان واحداً من طلابه. ولكن، لئن كان السجال العنيف بالتدريج مفهوماً بين فكرين لنجمين ثمة كثير من أفكار وأمور راحت تفرق بينهما، فإن العداء الشديد الذي بدا واضحاً أن فوكو يحمله لزميله الكبير بول ريكور، الذي لم يكن ليقل مكانة عنه، وإن يكن يقل عنه شهرة لدى جمهور الفكر الفلسفي العريض، يوم كان ثمة جمهور عريض للفلسفة، ذلك العداء بدا دائماً عصياً على الفهم، بل حتى بدا دائماً وكأنه موقف من طرف واحد: من جانب فوكو الذي لم يكن يترك فرصة إلا وانتهزها لمهاجمة ريكور والتقليل من شأنه. ويصف لنا الصحافي والكاتب الفرنسي ديدييه إيريبورن الذي وضع ما يعتبر حتى اليوم واحدة من أكثر السير التي كتبت لفوكو شعبية وتبسيطية، وبالتحديد في كتاب السيرة الذي أصدره بعد رحيل فوكو، فصلاً بالغ الطرافة من فصول ذلك “العداء من طرف واحد”، وهو فصل يعود إلى أواسط سنوات الستين وشهدت فصوله مدينة تونس العاصمة ومنطقة سيدي بوسعيد المجاورة لها.
لكنهم لم يشاركوا في ربيع 1968
ففي ذلك الحين كان ميشال فوكو يدرّس في الجامعة التونسية. وهو سيواصل التدريس فيها طوال سنوات تالية بحيث إنه، وعلى عكس الفكرة الشائعة، لن يكون موجوداً في فرنسا نفسها أيام اندلاع الثورات الطلابية والشبابية فيها خلال ربيع عام 1968، تلك الثورات التي سوف تنسب إلى فوكو كما إلى غيره من مفكرين فرنسيين آخرين، مثل رولان بارت أو كلود ليفي ستروس أو حتى جاك لاكان، مع أن أيهم لم يشارك فيها على الرغم من أنهم كانوا يدعمونها في أعماقهم. بيد أن هذه حكاية أخرى بالطبع. فحكايتنا هنا تعود على أية حال إلى ما لا يقل عن شهور سبقت تلك الانتفاضة الثورية وبالتحديد إلى صيف عام 1967. والحال أن ذلك العام كان كما يبدو عاماً مفعماً بشتى أنواع النشاطات بالنسبة إلى فوكو كمدرس جامعي يختلط بالشبيبة التونسية أكثر من اختلاطه بالشبيبة الفرنسية، ويعايش الحياة الثقافية في ذلك البلد الشمال أفريقي، موجهاً اهتمامه بشكل خاص إلى أساليب عيش ونضال شبيبته، الماركسية واليسارية بشكل عام والمعادية للصهيونية إلى درجة الاندفاع ضد الجالية اليهودية وممتلكاتها بعد ذلك حين اندلعت حرب الأيام الستة، محركة غضب الشبيبة التونسية كما سيروي فوكو نفسه لاحقاً، أما الآن فكنا لا نزال عند مستوى الحراك الثقافي – الفكري.
“الفلسفة الحديثة أمامكم”
ففي ذلك الحين دعا ميشال فوكو، وكما يروي إيريبورن في كتابه، أستاذه القديم الفيلسوف الهيغلي الفرنسي جان هيبوليت إلى إلقاء بعض المحاضرات في الجامعة التونسية. وهنا ينقل ديدييه أريبون لقراء كتابه، ذكريات فاطمة حداد، التي كانت في ذلك الحين مساعدة ميشال فوكو، عن تلك الزيارة حيث تتحدث بشكل خاص عن المشاعر العنيفة التي تملكت فوكو وهو يقدم أستاذه القديم أمام المستمعين. يومها كان على هيبوليت أن يتحدث عن هيغل والفلسفة الحديثة، غير أنه قبل أن يبدأ حديثه التفت مشيراً ناحية فوكو الذي كان جالساً إلى جانبه وقال “لا شك أنه كان ثمة خطأ ما في دعوتي لإلقاء هذه المحاضرة عن الفلسفة الحديثة، وذلك لأن الفلسفة الحديثة ماثلة هنا أمامكم”. وكان فوكو قدم موضوع المحاضرة بالعبارات التالية “إن كل تأمل فلسفي في يومنا هذا إنما هو فتح للحوار مع هيغل. وما التأريخ لفلسفة هيغل سوى ممارسة للفلسفة الحديثة”. لقد كان اللقاء مع جان هيبوليت لقاءً حاراً بالنسبة إلى فوكو والجمهور التونسي، ولكن على عكسه كان اللقاء مع الفيلسوف الفرنسي الآخر بول ريكور الذي كان يرافق هيبوليت في تلك الزيارة صامتاً تقريباً، وهو المعروف عادة بتواضعه الجم كمفكر وفيلسوف حقيقي، وهي صفات يتشارك فيها بالطبع مع هيبوليت الذي اعتاد أن يكون صديقه ومحاوره، لكنه بالطبع لا يتشاركها مع فوكو الذي كان معروفاً بنزوعه إلى المشاكسة ولكن مغلفة لديه بذلك “التهذيب الفرنسي” الخادع الموروث من لاروشفوكو، ومن هنا كان لا بد للجلسة من ألا تنتهي على خير. ولكن هنا، وقبل الوصول إلى هذه النقطة في حكاية “اللقاء” بين ميشال فوكو وبول ريكور، قد يبدو من الملائم العودة إلى بعض خلفيات الحكاية.
السهرة الخطأ
ففي ذلك الحين كان النقاش في الحياة الفكرية الجامعية بصورة عامة حامياً من حول البنيوية التي كان لكل من فوكو وريكور تفسير لها يناقض تفسير الآخر. ومن هنا كان الجمهور التونسي المثقف يتوقع من المجابهة بين المفكرين أن تكون ساخنة. وكان بول ريكور قد دعي من قبل المركز الثقافي في قرطاج لإلقاء سلسلة من المحاضرات حول فلسفة اللغة. وذات يوم اصطحب فوكو صديقهما المشترك ديلادال الذي كان هو في الأصل وراء دعوة فوكو للتدريس في تونس، كما وراء تلك الدعوة التي وجهت إلى ريكور كي يلقي محاضراته، اصطحبه لحضور واحدة من تلك المحاضرات. ويروي ديلادال ما حدث يومها على النحو التالي “كان فوكو يجلس إلى جانبي فيما ريكور يتحدث على المنصة ولا يتوقف لحظة عن إبداء ملاحظات فكهة وساخرة لاحظها ريكور، الذي لم يبد على أية حال أية ردود فعل بل بدا ظاهرياً وكأنه لا ينتبه إلى ممارسات زميله المشاكس”. ولكن بعد ذلك حين فتح النقاش حول المحاضرة، لم يتفوه فوكو بكلمة وكان ديلادال قد دعا الفيلسوفين إلى العشاء في منزله، لكنه سرعان ما سوف يدرك أن تلك الدعوة المزدوجة كانت خطأ. ولقد تحقق إدراكه عند العشية حين فسدت السهرة بسبب الجو المتوتر الذي ساد بين فوكو وريكور. بعد ذلك وحين كان ريكور على أهبة السفر لمبارحة تونس، لاحظ أن فوكو سيركب الطائرة نفسها فقال لمديرة مركز قرطاج الثقافي التي كانت في وداعه “سوف نتساجل في الطائرة بالتأكيد”. وهو في ما بعد كتب إلى المديرة رسالة يشكرها فيها على حسن استقبالها. ويروي “النقاش” الذي لم يتم بينه وبين فوكو: فالحال أن هذا الأخير تصرف كأنه لم يره، وجلس في الجانب الآخر من الطائرة!
قول مأثور وابتسامة شهيرة
مهما يكن، إذا كان فوكو قد أصر حينها على عدم خوض لعبة تجابه الأفكار مع ريكور فإنه لم يمنع نفسه من أن يعلن رأيه في ريكور أمام طلابه قائلاً “الآن سوف ألخص لكم ما قاله ريكور”، ثم راح يلخصه وهو يسألهم بعد كل فقرة عما إذا كان تلخيصه صحيحاً، فلما أجابوه بالإيجاب مؤكدين أنه فعلاً يلخص آراء ريكور بكل أمانة التفت إليهم وقال “حسناً… والآن سوف ندمر كل هذا”… وطبعاً سوف يسمع ريكور لاحقاً بهذه الحكاية الأخيرة لكنه وكعادته لن يبدي أي تعليق عليها باستثناء ابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيه، لكنها ابتسامة ستعتبر في حد ذاتها حدثاً في الحياة الفكرية الفرنسية، لا يقل في أهميته عن تلك العبارة التي ختم بها فوكو الحكاية كلها، لتصبح واحدة من أشهر الأقوال المأثورة في الحياة الثقافية الفرنسية: حسناً… الآن سندمر كل هذا!!
*اندبندنت