تقول الحكاية إن الشاعر الراحل نزار قباني أمضى سنوات طويلة من حياته في بيروت، لا سيما منذ أسس دار النشر الخاصة به لنشر دواوينه الشعرية، صابراً على مضض ولكن مع كثير من الغيظ، على دور النشر الكثيرة في العاصمة اللبنانية التي جعلت واحداً من نشاطاتها المربحة قرصنة كتبه وبيعها في الأسواق العربية بأسعار تقلّ عن أسعار ما ينشره، وغالباً في طبعات تسارع بنشرها وتوزيعها حتى قبل أن يتمكّن هو من ذلك. كان يشكو ويغضب ويقيم الدعاوى القضائية ولكن دائماً من دون جدوى، فلا القوانين كانت تحميه والدولة كعهدها في لبنان غائبة والناشرون القراصنة مسنودون دائماً بكبار السياسيين ورجال الأعمال. ولكن ذات يوم عند بدايات الحرب اللبنانية عام 1976، لاحت له أخيراً فرصة وضع حدّ لذلك. كانت قوات الردع السورية قد دخلت لبنان، فاصطحب الشاعر مجموعة من جنودها وطاف على القراصنة يصادر منتوجاتهم ويقفل مكاتبهم ويستعيد حقه بقوة السلطة والسلاح من دون أن يأبه بكونه وقف في شعره طوال حياته ضد هذين!
الحق بأي ثمن كان
في الحقيقة أن من الصعب لوم قباني على هذا الذي يُروى أنه فعله، مستنداً إلى حقه الشرعي بصرف النظر عن قوة القانون. ففي نهاية الأمر، تُعتبر قرصنة الكتب ومنذ زمن طويل واحدة من الآفات التي ضربت الإبداع ودمرت الإنتاج المعرفي، سالبة من المبدعين حقوقهم بل حتى حماستهم لنشر كتبهم طالما أن مردوداتها ستصب في النهاية في جيوب التجار ولصوص النشر. ولكن لئن كان صاحب “قالت لي السمراء” و”خبز وحشيش وقمر” قد وجد في القوات السورية حينها سنداً له، فإن معظم المبدعين الذين يعانون تلك الآفة لم يتمكّنوا من تحصيل حقوقهم بتلك الطريقة المبتكرة، ومن بينهم الكاتبة التركية إليف شافاق التي تُعتبر من أشهر الكتّاب الأتراك في زمننا هذا ومن أكثرهم مبيعاً وانتشاراً، منذ تمكنت من احتلال المكانة الأولى بين كتّاب بلدها، وأضحت بالتالي ضحية مؤكدة لقراصنة الكتب لكنها وقفت عاجزة تماماً عن التصدي لهم، في بلدها على الأقل. أو هذا ما روته بنفسها في مقال تعليقي نشرته قبل أعوام، متناولة فيه زيارة قامت بها يوماً إلى معرض للكتب كان يشارك فيه ناشروها عبر عرض كتبها وبيعها بصورة شرعية، ولكن أيضا عدداً لا بأس به من “ناشرين” آخرين راحوا يقومون بالشيء ذاته ولكن بطريقة غير شرعية، من دون أن تكون ثمة قوات ردع سورية أو غير سورية تردعهم!
شاحنات وألوف النسخ
بدأت الكاتبة مقالها بوصف دخولها إلى المعرض، مستعرضة خارجه عدداً من الشاحنات الضخمة المحمّلة بمئات الألوف من النسخ المقرصنة لعدد من أكثر الكتب مبيعاً، تنتمي إلى عدد من دور النشر التي كانت تعرضها غير آبهة بوجود مبدعيها وبكونها تتجاور مع الطبعات الأصلية للكتب ذاتها. فتلك الدور تعتمد على سعر بيع للكتاب يقلّ بمقدار الثلث عن سعره الرسمي، فهي لا تنفق على الكتاب سوى ثمن الورق والطباعة، إذ تصوره وتنتجه من دون أية عقود أو التزامات أخرى. ولكم تبدو إليف ظريفة في مقالها وهي تتحدث عن التقائها بالنسخ المقرصنة من رواياتها في عدد من أجنحة دور عرض لم تسمع بوجودها يوماً، وكيف أن القراء يتهافتون لشراء الكتب، بل إن بعضهم كان ما إن يراها ويتعرف عليها حتى يبادرها بالسلام، طالباً منها بكل هدوء ومودة ليس فقط أن تتصور معه، بل حتى أن توقّع له على نسخ كتبها المشتراة بأسعار بخسة. وتروي إليف أنها فعلت ذلك مراراً وتكراراً وهي تبتسم للمفارقة. بل فعلت ذلك مرة، ممازحة صحافياً جاءها على سبيل التفكهة والاستفزاز بنسخة مقرصنة ليصورها وهي توقّعها!
أهلاً بالقراء الفقراء!
وفي السياق، تحدثت الكاتبة عن تلك الممارسات، مؤكدة أنها لئن كانت قد وصفت “أعلاه الشاحنات المحملة بالكتب المصادرة، فإن كل ما صودر يومها وأمام عينيها، لا يمثل سوى جزء ضئيل جداً من ملايين النسخ المقرصنة التي تنتشر وتُباع وتعجز حتى السلطات عن التخلص منها لانتفاء وجود قوانين حقيقية تحمي حقوق المؤلفين والناشرين الحقيقيين”. وهنا تفتح الكاتبة هلالين لتقول إنها هي نفسها قد تكون محدودة الخسارة بعد كل شيء “إذ من حظي أن رواياتي تُنشر مترجمة إلى أكثر من 55 لغة في العالم أجمع”، بالتالي فإنها تعيش بفضل المردودات الشرعية التي تحققها بذلك الانتشار العالمي. وهو أمر قد يدفعها إلى النظر بعين الرضا إلى تمكّن أبناء شعبها من قراءة رواياتها ولو مقرصنة بأسعار معقولة! والحقيقة أن هذا يتطابق مع ما قاله لنا يوماً الكاتب المغربي في اللغة الفرنسية الطاهر بن جلون، معلّقاً على انتشار كتبه مترجمة إلى العربية أو بأصلها الفرنسي في المغرب بفضل ناشرين قراصنة، ما يؤمّن له مقروئية جيدة في وطنه الأصلي، مكتفياً بالمداخيل الهائلة التي تحققها كتبه في فرنسا، كما في بلدان عدة تحترم الكتاب وصانعيه وناشريه، فتسنّ قوانين لحماية حقوقهم متصدية لسرطان القرصنة، من دون أن يُضطر هؤلاء إلى الحذو حذو نزار قباني في فعلته التي تُعتبر مشينة في نهاية الأمر.
شيء عن إليف
بقي أن نعود هنا إلى إليف شافاق، التي تُعتبر اليوم إلى جانب أورهان باموق الأشهر بين الكتّاب الأتراك ليس داخل تركيا فحسب، بل في العالم أجمع، بل إن كتبها تُعدّ أكثر شعبية من كتبه المعتبرة نخبوية. واسمها يُطرح بين الحين والآخر كمرشحة لنيل جائزة نوبل الأدبية. لكن الأهم من ذلك هو أن رواياتها التي تتّسم بقدر لا بأس به من البعد الصوفي الممتزج بالحديث عن الحب حديثاً يكاد بدوره يكون صوفياً، تلعب دوراً كبيراً في التأثير في الذهنيات من ناحية كون أدبها في زاوية من زواياه أدباً “تعليمياً” بحسب عدد من متناولي هذا الأدب. ولعل هذه السمعة بدأت تحيط بأدب شافاق الروائي منذ ذلك النجاح الهائل الذي حققته واحدة من رواياتها الأولى “40 قاعدة للعشق” وهو نجاح لم يضاهِه سوى ذاك الذي حققته لاحقاً رواياتها “لقيطة إسطنبول”، وبعد ذلك “3 من بنات حواء”، وصولاً إلى “10 دقائق 38 ثانية في هذا العالم الغريب” وغيرها من أعمال كوّنت لها مكانة أساسية في الحياة الأدبية وحتى السياسية التركية. ومع ذلك، تعيش إليف شافاق في الخارج هي التي وُلدت في مدينة ستراسبورغ شرق فرنسا لأب فيلسوف وأمّ ستصبح دبلوماسية لاحقاً. ومهما يكُن فإن طلاق والدَي إليف، سرعان ما أعادها طفلة إلى أنقرة حيث تولّى أهل والدتها تربيتها، ما أمّن لها العيش والترعرع في بيئة غير أبوية، بحسب الشذرات المتواترة حول صباها. ويمكن القول اليوم إن تلك الخلفية ربما تكون هي ما جعل الطابع الأنثوي بل حتى النسوي النضالي يطغى على مواضيع رواياتها التي تنهل من الحداثة الأسلوبية، بقدر ما تنهل من التراث الصوفي المشرقي الذي كتبت عنه كثيراً.
امرأة للقضايا العادلة
مهما يكُن، فإن إليف شافاق توجهت باكراً وبعد دراسة تقنية إلى الاهتمام بالدراسات النسوية لتصبح في أدبها اللاحق كما في حياتها من المدافعات عن وجود المرأة وحقوقها، لا سيما حقها في المعرفة والحب. وهذا ما جعلها في بلدها، وربما في مناطق أخرى من العالم هدفاً مختاراً للمتطرفين، بل حتى للنظام المحافظ المتطرف والمنغلق في تركيا، إسوة بحال زميلها و”منافسها” الرئيس في تركيا أورهان باموق الذي تشاركه عدداً من مواقفه السياسية المناهضة للنظام، حتى في ما يتعلق بالقضية الكردية وقضية ضرورة الاعتراف بالمسؤولية التركية عن المذابح الأرمينية عند بدايات القرن العشرين. ومهما يكُن، تُعرف إليف عموماً بمواقفها المدافعة عن حرية الفكر وقضايا الأقليات عموماً، ناهيك عن قضايا المرأة، ليس على الصعيد التركي وحده بل على صعيد عالمي، ما جعلها على الدوام عرضة للمتطرفين… من كل صنف ولون.
*اندبندنت