لم يكن من بين الرؤساء الأميركيين خلال النصف الثاني من القرن الـ20 من وصل في علاقته الإيجابية مع الزعيم الكوبي فيديل كاسترو إلى مستوى يضاهي ما وصل إليه الرئيس بيل كلينتون. ولئن كان الرئيس باراك أوباما قد أبدى قدراً كبيراً من التفهم للجار الكوبي فإنه إنما سار في ذلك على خطى كلينتون. وإذا كان ثمة من دفع هذا الأخير في اتجاه كاسترو الذي كان مرفوضاً من الأميركيين جملة وتفصيلاً، إلى درجة سادت معها نظريتان متناقضتان تماماً من حول اغتيال الرئيس جون كينيدي تزعم أولاها أن ذلك الاغتيال تم بتدبير من الاستخبارات الكوبية، فيما ترى الثانية أن اليمين الأميركي المتطرف هو من دبر ذلك الاغتيال لحساب مافيات فلوريدا التي لم تكن راضية عن نوايا لاحت لدى الرئيس الأميركي الراحل للتقارب مع كاسترو. وطبعاً ليس ثمة ما يؤكد أياً من النظريتين لكنه لا ينفيهما. المهم في الأمر بعيداً من هذا كله أن علاقات سادة البيت الأبيض مع كاسترو كانت إشكالية، تميل إلى الإيجابية مع الرؤساء الديمقراطيين وتنحو إلى التشدد في العهود الجمهورية. أما ما نريد من هذه المقدمة التي يبدو الكلام معها هنا سياسياً لكنه ليس كذلك، فهو التساؤل عما جعل بيل كلينتون من بين الرؤساء الأميركيين، يحقق ذلك التقارب مع كاسترو؟ والجواب بسيط وله علاقة بالأدب: إنه تدخل غابريال غارسيا ماركيز يسانده في ذلك زميله المكسيكي كارلوس فوينتس والكاتب الأميركي وليام ستايرون، الذي بدأت تلك الحكاية خلال مأدبة عشاء في بيته جمع كلينتون بماركيز وفوينتيس وآخرين في لقاء حميم اكتشف فيه صاحب “مئة عام من العزلة” و”خريف البطريك” أن كلينتون ذواقة أدب ومتحدث فيه بعمق إلى درجة لم يعهدها الكاتب الكولومبي الذي كان من أقرب الأصدقاء المقربين من كاسترو. وسيكتب ماركيز لاحقاً مقالاً بديعاً يتحدث فيه عن تلك السهرة مركزاً على ما سعى إليه خلالها من إقناع كلينتون بأن الوقت قد حان للتعامل مع كوبا بصورة إيجابية ولو على قاعدة “عفا الله عما مضى”.
أي أسرار؟
المقال الذي نشره ماركيز عام 1999 أتى بعنوان يبدو مخادعاً أول الأمر هو “أسرار بيل كلينتون”. ويمكن القول، إن ماركيز يضخم الحكاية في قسمين متداخلين ومتكاملين حتى ولو إن العنوان يضخم الأمر كثيراً: قسم عن تلك السهرة اللطيفة، الذي كان فيه اللقاء الأول بين ماركيز وكلينتون وغلب عليه الطابع الأدبي، وآخر عن حكاية الرئيس الأميركي مع مونيكا لوينسكي الذي اختتمه ماركيز هذه المرة بنصيحة مواربة وجهها إلى صديقه الرئيس لمناسبة اللقاء الثاني والأخير بينهما موحياً إليه بـ”أنك إذا أردت أن تفعلها في المرة المقبلة، وهذا من حقك، من الأفضل ألا تفعلها في البيت الأبيض حيث العيون والكاميرات منتشرة في كل مكان لحراستك أو للتجسس عليك!”. والحال أن ليس هذا القسم الثاني من المقال هو ما يهمنا هنا بل القسم الأول الذي يفتتحه ماركيز مبدياً دهشته من أن “أول ما تلاحظه لدى وليام جفرسون كلينتون حين تلتقيه للمرة الأولى هو طوله الفارع، وفي المقام الثاني قوة جاذبيته إذ يجعلك تشعر على الفور أنه شخص تعرفه معرفة جيدة وعن قرب، أما الثالث فهو ذكاؤه الحاد الذي يغريك بأن تتحدث معه في أي موضوع يخطر في بالك…”. ومع ذلك فإن واحداً من كارهي كلينتون قال لي مرة “إن أخطر ما في مواهب كانتون هو أنه يستخدمها ليجعلك تشعر بأن ما من شيء في هذا الكون يهمه أكثر مما يهمه ما تقوله له”.
ماركيز مع كاسترو صديقه الأول (غيتي)
عشاء لا ينسى
وهنا ينتقل ماركيز ليخبرنا أنه التقى كلينتون للمرة الأولى عام 1995 خلال ذلك العشاء الذي دعاهما إليه الكاتب وليام ستايرون في عزبته “مارتا فينيارد” خلال أولى حملات كلينتون لخوض الانتخابات الرئاسية الأميركية هو “الذي شجعني على الالتقاء به ما كان أعلنه من أن كتابه المفضل ليس سوى روايتي ’مئة عام من العزلة’”. ويخبرنا ماركيز بأنه يومها علق على كلام كلينتون في حديث صحافي بقوله، إنه “يعتقد أن المرشح الرئاسي ما قال هذا إلا للتودد إلى ناخبيه من أصول أميركية لاتينية”. وهو لم ينس ذلك التعليق، برأي ماركيز، “إذ إنه ما إن حياني في مأدبة ستايرون حتى أكد لي أنه كان صادقاً في كلامه عن روايتي!”. مهما يكن فإن ماركيز ينطلق في حديثه هنا عن تلك السهرة مؤكداً أن لديه، كما لدى كارلوس فوينتس، “أسباباً عديدة تجعلنا معاً نعتبر تلك السهرة فصلاً بأكمله من ذكرياتنا”. فمنذ البداية “شعرنا أنا وفوبتس أننا مستسلمان تماماً أمام الاهتمام وحس المرح والاحترام تجاه كل شاردة وواردة وكل كلمة كنا نقولها، وكأن كلامنا من ذهب”. والحقيقة أن مخبر كلينتون كان متطابقاً كلياً مع مظهره “صحيح أنه كان يومها في الـ49، لكن قصة شعره القصير، وثيابه المريحة ولون بشرته البرونزي كانت تعطيه سمات بحار يستريح على البر. كان يبدو إجمالاً وكأنه من بقايا جيل شبيبة عام 1968، سبق له أن تناول الماريوانا، ويعرف أغاني فريق البيتلز عن ظهر قلب، وسبق له أن تظاهر ضد حرب فيتنام”.
ندوة أدبية
بدأ العشاء في الثامنة تماماً ليدوم حتى منتصف الليل. وكنا 14 مدعواً متحلقين حول الرئيس المقبل، حين راحت الأحاديث تنزلق شيئاً فشيئاً ناحية الأدب بمشاركة أساسية منه ومن الكتاب الثلاثة “بحيث بدا الأمر وكأننا نشارك في ندوة أدبية”. أما الموضوع الأول، فدار السجال فيه من حول قمة الأمم الأميركية التي كان كلينتون يريدها أن تنعقد في ميامي فلوريدا– وهو ما سيحصل بالفعل- أما فونتيس فقال إنها من الأفضل لو تنعقد في نيو أولينز أو لوس أنجليس اللتين قد تكون لهما دوافع تاريخية أكثر وضوحاً لاحتضانها. و”أنا بدوري دافعت بشدة عن موقف فوينتيس حتى اللحظة التي أدركت فيها أن كلينتون ليس في نيته على الإطلاق تبديل خططه بالنظر إلى أنه كان يعتمد على دعم انتخابي حاسم يأتيه من فلوريدا”. وهنا كان لا بد لفوينتس أن يعلق قائلاً، “انس الانتخابات مستر بريزيدنت” مضيفاً “انس الانتخابات واصنع التاريخ”. والحقيقة أن هذا القول قد وجه الحديث ناحية أخرى، وكان ذلك حين رحنا نتحدث عن المخدرات وتهريبها وانفجرت أنا قائلاً وكلينتون يصغي إلى بأريحية “30 مليون مدمن على المخدرات في الولايات المتحدة يؤكدون اليوم أن مافيا أميركا الشمالية أقوى كثيراً من مافيا كولومبيا، والسلطات هنا أكثر فساداً منها هناك”. هنا، إذ وجدت الفرصة سانحة لخوض موضوع يشغل بالي تمكنت من أن أدير الحديث ناحية علاقات واشنطن مع كوبا فقلت لكلينتون “إن تمكنتما أنت وفيديل كاسترو من الجلوس حول طاولة واحدة وجهاً لوجه ستحل كثير من المشكلات نهائياً”. وبدا لي كلينتون هنا أكثر رغبة في التجاوب منه بالنسبة إلى أي موضوع آخر.
عن الكتب والأفلام
ويستطرد ماركيز هنا راوياً أن “تلك العبارة قد فتحت الباب للحديث عن أميركا اللاتينية عموماً، فاكتشفنا أنه مهتم بهذا الأمر أكثر كثيراً مما كنا نعتقد”، ثم ذات لحظة بدا للحاضرين أن الحديث قد استنفد فما كان منهم إلا أن بدلوا منه سائلين كلينتون عن فيلمه المفضل فكان جوابه إنه فيلم “عز الظهيرة” لفرد زينمان الذي كان كرمه بنفسه في لندن قبل حين. فعلق ماركيز قائلاً، ربما يكون من الأفضل قراءة “دون كيشوت” الكتاب الذي يزعم الجميع أنهم قرأوه لكن قلة يفعلون ذلك في هذا الزمان. وهنا وقف كلينتون وراح يقرأ غيباً مقاطع من رواية “ثيربانتس” تكشف عن أنه يعرفها بعمق. وسأل الرئيس المقبل الحضور واحداً واحداً عما هو كتاب كل واحد منهم المفضل، فأجاب ستايرون أنه “هاكلبري فن” لمارك توين. أما ماركيز فاختار “الكونت دي مونت كريستو” فيما كان جواب فوينتس أنه “أبسالوم! أبسالوم!”. وهكذا كما يروي ماركيز تحولت السهرة إلى عروض أدبية لم ينس لحظة منها… طوال سنواته التالية وقد “بات مثقفاً لطيفاً من هذا النوع سيداً للبيت الأبيض ورجلاً يفي بوعوده، ومن ذلك وعد اللقاء مع كاسترو الذي كان أطلقه في حضرة كتاب ومفكرين فلم ينسه ولم ينسهم حين بات رئيساً لأكبر دولة في العالم”.
*اندبندنت