“إن هؤلاء السادة يودون إعلامكم بأنهم إذ تناهى إلى علمهم منذ بعض الوقت، أمر الآراء والأفعال السيئة للمدعو باروخ سبينوزا، بذلوا قصارى جهدهم بشتى الوسائل والوعود لكي يثنوه عن سلوك تلك الدروب السيئة، وأنهم إذ لم يعودوا قادرين عن إيجاد دواء لسلوكه، بل بدلاً من ذلك راحوا يتلقون بصورة يومية معلومات تتحدث عن ضروب تجديفه وهرطقاته المرعبة التي لا يني يمارسها ويدرسها للشباب، وحول الأفعال الوحشية التي يقترفها ويشهد على ذلك عدد كبير من الشهود الجديرين بالثقة من الذين أدلوا بشهاداتهم هذه في حضور المدعو سبينوزا الذي اعترف بأنه مذنب، وبما أن ذلك كله قد درس ومحص في حضور السادة الكهنة، قرر السادة الموقعون هنا حرمان الشخص المذكور وطرده من أمة إسرائيل تبعاً لـ”الحرم” الذي نعلنه في ما يلي…” وبهذا البيان وما تلاه من نصوص طويلة تلغي وجود “المتهم كلياً” كان ثمة نوع من إعدام معنوي يتذرع في “بيان الحرم” بكفر سبينوزا وتجديفه وسخريته من التاريخ الإسرائيلي واستهانته “المطلقة” بما جاء في الكتب المقدسة وخروجه التام عن المقدسات وصولاً إلى “إنكاره” وجود الذات الإلهية. والحقيقة أن ذلك لو كان قد حدث في بلد أوروبي آخر في ذلك الحين حيث تسود محاكم التفتيش مثلاً، لكان فيه إعدام جسدي فعلي للفيلسوف، لكن من حسن طالعه أن هولاندا كانت قد تحولت إلى ما يشبه الجمهورية الديمقراطية في ذلك الزمن بالتالي كان ثمة نوع من احتكام إلى القوانين تصبح معه كلمة “لعنه الله” متواكبة مع نبذ المتهم كافية بما كان يعنيه ذلك النبذ على الصعيد الاجتماعي والحياتي، فقد كان كافياً لتدمير المنبوذ وإخراجه من الحياة العامة التي هي الحياة نفسها.
سؤال في مكان آخر
إذاً حدث ذلك وصدر “الحرم” في صيف عام 1656 حين قررت قيادات الطائفة اليهودية في أمستردام الهولندية أن تطرد الفيلسوف الشاب باروخ سبينوزا، ولكن السؤال يبقى في مكان آخر تماماً! هل كانت دوافع ذلك كله دينية وعقائدية بالفعل؟ إن التاريخ يؤكد ذلك ويأتي بكثير من الشواهد التي تثني على ذلك التأكيد آتية من حياة سبينوزا وأفكاره وعلاقاته وعديد من رسائله على أي حال. غير الأهم من ذلك كله هو: لئن كانت ثمة تهم كثيرة “تتلبس” سبينوزا لا سيما ما يتعلق منها بالعقائد والكتابات اليهودية، فإن ثمة تهمة يمكن دحضها بكل سهولة وتعتبر “أم التهم”، وهي طبعاً التهمة التي لم يتوقف سبينوزا عن تفنيدها بل وضع لدحضها مؤلفه الفلسفي الكبير “الأخلاق” الذي عمل فيه على تأكيد وجود الله بصورة قاطعة لا لبس فيها، ولكن بطريقة لا تزال حتى اليوم تبدو باهرة ومبتكرة ومقنعة بصورة لا يشوبها أي غموض أو التباس، أي بصورة “رياضية هندسية” توصل البرهان إلى أعلى من مستوى اليقين. والحقيقة أن هذا يعيدنا إلى دافع آخر يمكن دائماً اللجوء إلى التحدث عنه من المرجح أن يكون هو في الخلفية الحقيقية لموقف الطائفة اليهودية في أمستردام من سبينوزا. وباختصار نسارع هنا إلى القول، إن الدافع سياسي خالص يتذرع بعدد لا ينتهي من العناصر الدينية والعقائدية التي ينص عليها الحرم المتضمن إلغار “يهودية” سبينوزا.
باروخ سبينوزا (1632 – 1677): السياسة أولا وأخيرا (غيتي)
اللعبة المعهودة
فكما يحدث في كل زمان وأوان ها هي السياسة تلعب من جديد لعبتها المعهودة ومنذ سقراط وما قبل سقراط، في تغطية الفعل الأساسي الذي يأتي الاضطهاد تحت عباءة الدين ليطال الفاعلين السياسيين بتهم الهرطقة والتجديف والكفر بالذات الإلهية وما إلى ذلك. ولسنا في حاجة هنا إلى الإكثار من الأمثلة والحكايات فهي أكثر من أن تحصى وأخبث من أن تحلل، بالتالي تكفينا هنا عودة إلى قضية سبينوزا التي نتوقف عندها لأنها نموذجية وكافية في حد ذاتها. ولنتفحص هنا على الفور حال الطائفة اليهودية في أمستردام في مسعى لتفسير الأمر. فهذه الطائفة كانت تتألف في معظمها من يهود من “الماران” لجأوا إلى البلاد الواطئة (هولندا) قادمين من البرتغال حيث سامتهم الدول الكاثوليكية المنتصرة آيات الاضطهاد والتعذيب فوجدوا ملجأ مناسباً ومتسامحاً لهم في تلك الجمهورية الوليدة التي كانت قامت في هولندا يسود فيها حكم قانوني إثر ولادة طبقات مركانتيلية بورجوازية تحكم ديمقراطياً ويسود فيها حكم القانون. ونعرف أن تلك الجمهورية التي قامت على الاقتصاد التجاري وراحت سفنها تمخر المحيطات شرقاً وغرباً تخلط بين الشعوب والأفكار، كانت بفضل الثروات التي تحققت لها الإرهاص الأكبر بولادة العولمة في صيغها الأكثر بدائية ما أسهم في ازدهار فني وحضاري جعل من التسامح وعبارة “دعه يعمل دعه يعش” شعاراً له فانتقلت اللوحات الفنية إلى البيوت وازدهر المسرح وطبعت في لاهاي وليدن وغيرها ألوف الكتب التي كانت تمنع في بلدان مبدعيها، وازدهر التعليم الجامعي عبر احتكاك لم يكن له مثيل بين شعوب لم تكن علاقاتها قبل ذلك قائمة إلا على الحروب والغزوات تبعاً لسياسة “السمك الكبير يأكل السمك الصغير”.
سياسات شديدة التشابك
في ظل هذا المناخ إذاً، عاشت الطائفة اليهودية التي رغم شعور أبنائها بأنهم في “وطنهم” كانت تخشى دائماً الدنو من السياسة لكي لا تتورط هي وأبناؤها في دهاليزها ومتاهاتها. فالسياسات في تلك الجمهورية كانت شديدة التشابك وكان ثمة على الدوام قوى يشتغل عليها الخارج (من إسبانيا وفرنسا كما من غيرهما)، قوى تمثل رجعية وجدت دائماً نفسها متأذية من تلك التجارب الدستورية الديمقراطية الجديدة وراحت تعمل، بالتحالف الوثيق مع البلدان المحيطة لمحاربة السياسات الجديدة. والحقيقة وكما يحدث دائماً كانت تك القوى ذات قوة كبيرة في الشارع الهولندي الذي كان يغلي في وقت كانت الدول الأخرى تخشى العدوى الهولندية. ومن الطبيعي وكما حدث عادة بالنسبة إلى أقليات عرقية وطائفية في مثل تلك الأوضاع اختار زعماء الطائفة اليهودية في أمستردام خصوصاً وفي هولندا بصورة عامة أن ينضموا إلى الطرف الأقوى في الشارع، أي إلى القوى الرجعية الساعية دائماً إلى وأد التقاليد الجمهورية الديمقراطية، بيد أن ذلك الاختيار ظل سلبياً مضمراً أي إن الطائفة بقياداتها وجمهورها العريض قررت ألا تدع أياً من أبنائها يتفاعل مع أي أوضاع سياسية تنم عن موقف تقدمي، لكن باروخ سبينوزا كان له رأي آخر تماماً. كان يقف ويعمل وبكل صراحة وقوة إلى جانب القوى التقدمية الديمقراطية مسخراً في سبيل ذلك طاقاته الفكرية الهائلة التي كانت تجلت لديه منذ الصغر، بل أكثر من ذلك انضم سبينوزا إلى الحلقات الفكرية المحيطة بالأخوين دي ويت الذين كانا بمكانتهما الاجتماعية والمالية وانفتاحهما على الحركات الثقافية الأوروبية الكبيرة، خير داعمين للجمهورية، لا سيما حين تحيق بها الأخطار.
شعبية الشباب المخيفة
وكان سبينوزا فاعلاً قوياً بل له شعبية كبيرة في صفوف طبقة مثقفة تتألف من شبيبة يهودية جديدة بل جامعية حتى، راحت تتحلق من حوله وتشاركه أفكاره التي، على سبيل المثال كانت تلتقي مع أفكار معاصره الإنجليزي توماس هوبس صاحب كتاب “ليفياثان” الذي رغم عنوانه يعطي المكان الأول لمفهوم الدولة ومؤسساتها الدستورية “مهما كانت متعسفة ومتوحشة”، ولكن كان من ضمن مشروع سبينوزا موافقة هوبس على القسم الأول من نظريته، ولكنه يتمايز عنه بأنه لم يكن يريد لذلك أن يكون “مهما كان الثمن”، بل يريد الدولة والمؤسسات إنما تحت سلطة الشعب وليس على الرغم عنه. وانطلاقاً من هذه الفكرة البسيطة التي تمتد في كل الاتجاهات بنى سبينوزا منذ البداية مشروعه الذي نجد تفاصيله في كتابه “السياسي” الأساسي “دراسة سياسية”. وسيتبدى واضحاً لا سيما من خلال رسائل سبينوزا أن ذلك كان همه الأول والأخير ومشروعه الواضح ويمكننا الافتراض هنا أن ذلك الهم السياسي، لا حكايات الكفر والتجديف، ما أزعج حقاً القوى الرجعية التي كانت القيادات اليهودية متحالفة معها. ومن هنا كانت تلك الألاعيب العقائدية التي أخفت في خلفياتها رغبة بالتخلص من نفوذ بدأ يمارسه الفيلسوف الشاب منافحاً عن القوى التقدمية في صراع كان سياسياً لا دينياً أولاً وأخيراً.
*اندبندنت