يقول محمد تيسير في مقال له على موقع رصيف 22 بعنوان «نحن والتطرف» إنه «وإلى يومنا هذا، ما زالت النظرة الكلاسيكية إلى الدين هي ذاتها، بل إن تراكم الأزمات والانتكاسات زاد من الأمر تعقيداً، وأظهر حالات غريبةً كـ «مجاهدي السوشال ميديا» الذين يجدون قيمة الحياة في تهديد الآخرين، وفرض الوصاية الدينية على آرائهم…». وفي حين أن مقال تيسير قدم تحليلاً للهجوم العنيف الذي تعرضت له الفنانة رشا رزق على إثر تقديمها لتهنئة مسيحية بعيد الفصح وصلت لحد تهديدها بالقتل، إلا أن مقاصد التحليل تطال حالة أبعد وأعمق من موضوع تهديد لرمز فني مثل رزق كبر معه جيل التسعينيات العربي بأكمله، حالة تشير إلى استمرار الفشل، إن لم يكن تعميقه وترسيخه، في الشارع العربي الإسلامي الذي لا يزال يكرر الكليشيهات الفارغة دفاعاً عن الكرامة المهدورة وإراحة للضمير الكسلان.
لقد شكلت ستينيات وسبعينيات القرن العشرين مرحلة اشتراكية وشيوعية للشباب العربي الصاعد آنذاك، ليتمسكوا بهما كمخرج من تحت عباءة الشمولية والديكتاتورية الحكومية، وليجدوا فيهما منفذاً لمفاهيم العدالة والمساواة والحقوق الإنسانية المشتركة، وليطببوا بهما جرح استعمار لا يزال مغروساً في خاصرة عالمهم المعقد القاتم، لتتبع هذه الفترة، وبعد فشل أيديولجياتها الشديد وانهيار كل الأحلام التي بنيت على هذه الأيديولوجيات، فترة الثمانينيات المعجونة بالثورة الدينية، والتي صاحبت في مفارقة عجيبة الانفتاح الاقتصادي والتحرر الرأسمالي، لتروج هذه الفترة للإسلام كأسلوب ثورة على الظلم والقمع، وكوسيلة تحرر من عباءة الحكومات التي لطالما كانت متحالفة مع الغرب المتآمر. ولأن الثورة تحتاج تمويلاً، تم تقديم الإسلام كمشروع ثورجي يحتاج لمساهمة كل إنسان غاضب على الوضع الراهن، لتصب هذه الفكرة في تسعينيات القرن الماضي مقدمة الإسلام على أنه «الحل»، دون أن يقدم أي طرف متبن لهذه الفكرة تفاصيل هذا الحل أو طريقة تنفيذه. تحولت فترة التسعينيات بأكملها إلى كليشيه كبير يعنون الإسلام حلاً ويضعه لافتة على كل كل قضية ويدسه في كل منحى من مناحي الحياة المدنية، حتى تغلغلت الأيديولوجية الإسلامية السياسية بعنوانها الكبير الذي يدعي «الحل» دون أي فهم فعلي للكيفية التي سيتحقق بها ذلك. وهكذا، تشكلت الحكومات الدينية واعتلى «الرؤساء المؤمنون» وتكونت البنوك الإسلامية وتبعثرت المؤسسات الخيرية الدينية بكل شبهات مساعداتها للإرهابيين، وصُبّت الأموال صباً في كل مؤسسة أو مشروع أو حتى مجموعة صغيرة تظهر ملتحفة بلحية أو عباءة وتضع كلمة الإسلام في عنوان مقرها.
وهكذا انتهى قرن وبدأ آخر ونحن لا نزال سجينين فكرة، فكرة لسنا بقادرين على تعريفها ولا تفنيدها ولا حتى رسم خطة واضحة لجلبها إلى حيز التنفيذ. أتى القرن الجديد ملتحفاً بالعباءة الإلكترونية، فاتخذت المرحلة عنواناً جديداً مظهره حرية، ومخبره قمع واضطهاد وتنمر من خلال منابر تُوَزَّع «ببلاش» وعلى كل من يستحق ولا يستحق. تيسر الأذى وسهل تشكيل الجماعات الإرهابية النفسية التي يسميها تيسير «مجاهدي السوشيال ميديا،» هؤلاء القادرين على تبني صورة المناضل الصنديد الشجاع وهم متخفون خلف أسماء مستعارة، وهم جالسون على مقاعدهم الوثيرة في بيوتهم «يكتبون» النضال على قاعدة المفاتيح الإلكترونية بأصابع تلطخت بزيت «الشيبس» المستورد الذي يزردونه ويمصمصون أصابعهم خلفه.
شيء واحد استمر بشكله وأسلوبه ألا وهو «تمويل النضال»، إلا أن هدف التمويل هو الذي تغير ليتجه إلى مواقع إلكترونية وحسابات تواصل اجتماعية تخوض حروباً جبانة سلاحها الشتم والتعريض والقذف وكشف أسرار الناس وتهديد أمنهم بلا أي تداعيات حقيقية أو مسؤولية واضحة على مرتكبي هذه الأفعال. لقد سهّل القرن الواحد والعشرون «النضال الثوري» على شبابه: فتح لهم باب تمويل سخي، وأمّنهم جسدياً ومادياً حتى وهم في «خضم المعركة»، كل المطلوب حساب تواصل، لسان لاذع، وبعض الأسرار الخفية المقدمة على طبق من ذهب من الممولين بحد ذاتهم، لتُفتح ساحة المعركة ولتنزل، لأول مرة في تاريخ البشرية، جيوش ذبابية لزجة كاملة لتحارب أفراداً منفردين عزل، لا يمتلكون حتى الوقاحة والهبوط المطلوبين لرد الأذى والدفاع عن النفس. لأول مرة في تاريخ البشرية يهاجم الآلاف وأحياناً ملايين الأشخاص، شخصاً منفرداً في «عقر حسابه»، يحاربونه بسيوف الشتم والقذف وبخناجر الفضائح وكشف المستور والتهديد المبطن والمعلن وبسكاكين الأكثرية، التي يسهل تجميعها على مواقع التواصل، لتغلب الشجاعة والحق مهما بلغ مبلغهما.
في القرن الواحد والعشرين لا يزال الإسلام هو الحل، ولا يزال هذا الحل مضبباً غائماً غير ذي ملامح واضحة، ولا تزال مظاهر الداعين لهذا الحل متضاربة تماماً مع فحواه، فهم يروجون للإسلام من خلال أبشع طرق الهجوم وبأقذع الألفاظ والشتائم، وهم يطرحونه حلاً للفقراء والمنهكين فيما هم يحيون حيوات فارهة منعمة، وهم يضعونه مصداً «للغرب الكافر»، الذي لا يتوانون عن التعاون معه والاستفادة من خدماته وأحياناً العيش في ربوعه. وهكذا وفرت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة غريبة للشيء ونقيضه في آن، وهكذا تعمق التناقض الذي نحيا، وهكذا ظهرت على السطح أسوأ إفرازاتنا البشرية التي خلفتها أمعاء ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وهكذا ازدادت العتمة ومعها ازداد التوهان، فإلى أي مقلب سننقلب مع العقد الجديد؟ وأي شكل وشعار وسلاح سيتخذ حلنا الفضفاض الكليشيهي المتكررعبر العصور؟ ما هو الحل مع هذا الحل؟
*القدس العربي