ابتهال الخطيب: في عيون الفراشات

0

للألم خط سير غريب، يأخذك من منطقة إلى منطقة متباعدة تماماً، يربط الأشياء المغتربة عن بعضها ربطاً باثولوجياً مخيفاً يدفع بنا للتفكير في غرابة ودهاليزية العقل البشري. في يوم كتابة هذا المقال، مرضت قطة ابنتي، كاكاو اللطيفة التي لها معنا ما يزيد على الاثنتي عشرة سنة. كاكاو قطة بنية هادئة، كبرت مع ابنتي ملتصقة بها، حتى بات عقلي الباطن يفكر بها على أنها ابنة أخرى، قطعة من روحي كما الأولاد وأبيهم. قبل ما يقرب الشهر، أنقذت ابنتي قطاً من الشارع، كان حديث الولادة، مغطى بمادة الكيروسين وله أذن مقطوعة، أسرعت به ابنتي إلى داخل البيت «أرجوك ماما دعينا ننقذه». أفردنا له سريعاً مكاناً معزولاً في البيت، واستدعينا الطبيب البيطري وبدأت مرحلة العلاج، كل ذلك وكاكاو تراقب من بعيد. اليوم كاسبر يتعافى بشكل رائع، أخذ ينمو قطاً ناصع البياض خارق الجمال بعينين ملونتين بلونين مختلفين. لا أدري أي رسالة يرسل لنا القدر وكاكاو تتقدم في العمر بكل متاعبه، وكاسبر ينجو من موت محقق ويزدهر في طفولته، وابنتي بين الكائنين الجميلين، هنا تتألم من أفعال العمر، وهناك تتألم من أفعال البشر، وفي ألمها وحياة هذين الكائنين اللطيفين تجمعت كل آلامي وآلام الدنيا التي أعرف في ربط غريب مخيف.
ولأننا كائنات غاية في الأنانية، سرعان ما أتى مرض كاكاو بذكرى آلامي، هذا الفقد الذي لا أستطيع أن أتخطى، ناخراً قلبي كل يوم، ما له يهاجمني الآن في عيني كاكاو المتعبتين؟ أي رابط بين ألمي الذي يزيد عمره عن العقد من الزمان بمرض كاكاو وبأوجاع ابنتي ومخاوفها على قطتها؟ لماذا كان إنقاذ كاسبر ملحاً جداً حتى بدا لي في تلك الفترة أن استرجاعه لصحته سيصلح شيئاً من خراب نفسي وسيخفف بعضاً من أوجاع روحي؟ لماذا تدور كل الآلام الخارجية لتعود بأنانية متمحورة حول آلامي الخاصة، أنا التي هي لا شيء مطلقاً في هذا الكون الفسيح؟
ولأن عقولنا الإنسانية هي غابة متشابكة ساحرة خارقة الغرابة، وهْن كاكاو الذي استثار كل آلامي الشخصية سحبني لآلام العالم كله، بشاعة ما حدث لكاسبر الذي وصل حديقة بيتنا بالكاد واقفاً على أطرافه سلط الضوء على بشاعات العالم كله، على قسوة جنسنا غير المبررة، على تداعينا للنفاذ بأنفسنا ومصالحنا في الغالب على حساب الآخرين. نحن نحيا في محيط غائر عميق من الآلام والأحزان تصنعه قسوتنا وأنانيتنا وعنفنا البدائي الذي لا يريد أن يتطور أبداً. هل نحن جنس يستحق الإنقاذ؟
تتوالى صور عذابات أوكرانيا، حيث إلى اليوم لا إجراءات حقيقية تتخذ لإنقاذ الموقف. تتسع دائرة النزوح ويتوالى السقوط السريع لعائلات كانت تعيش آمنة مستقرة لتجد نفسها الآن مشردة، نازحة، تعيش من خيمة إلى خيمة، ومن وجبة تبرعية إلى لاحقتها. نعم، الخلاف الروسي الأوكراني ليس بجديد، لكن الاستقواء والاستفراد بالشعب الأوكراني ولغة «الكاوبوي الأمريكي» التي يستخدمها «الديكتاتور الروسي» كلها غير منطقية فعلاً في زمن تمتلئ فيه دولنا بمنظمات حقوق الإنسان وبمؤسسات دولية يفترض أنها تجمع الأمم وتقيم العدالة بينها وتحفظ العلاقات والحقوق التي لها وعليها.
وعلى الرغم من نفاقية الموقف العالمي بأكمله، فإن رد الفعل العربي، في تصوري، هو الأعلى نفاقاً. هناك علاقة حب وكره غريبة تجاه الديكتاتور بوتين؛ فمن جهة كانت هناك علاقة عداء مع بوتين بسبب موقفه تجاه القضية السورية ومساندته للنظام الدموي السوري، ومن جهة أخرى هناك علاقة إكبار له، حيث يرى فيه البعض مصداً للغرب ورمزاً لمقاومة سيطرته، بل وهناك حالة إعجاب بمحافظته الرجعية المشهرة في تصريحاته العنيفة تجاه كل من هو مختلف، بالأخص تصريحاته الأخيرة تجاه التعدد الجندري التي حفزت «امتنان» الشعوب العربية، إلى غيرها من التصريحات التلاعبية السياسية التي امتدح هو من خلالها الدين الإسلامي رافضاً أي نقد له. بوتين الشيوعي المخابراتي يدافع عن الإسلام، وشعوبنا العربية تقع بكل بساطة وسهولة في حضنه الدموي المريع.
ولأن «البيض الفاسد يتدحرج على بعضه» أعلن النظام السوري مساندته للموقف الروسي، متغافلاً تماماً عن العائلات الرازحة تحت القصف، متجاهلاً تماماً صور العنف والدماء القادمة من الداخل الأوكراني، داخل خاص بثقافته ولغته وشعبه والذي يتم اليوم احتلاله احتلالاً عنيفاً دموياً مسلحاً يذكر بالحروب العالمية الدموية التي اعتقدت البشرية أنها تجاوزتها. ولم لا يساند النظام السوري نظيره الروسي؟ أي خير ننتظر من نظام يقصف شعبه ويهجره حتى نترجى منه موقفاً أخلاقياً تجاه شعب آخر؟
يشكل ميل أغلبية جيدة من الشعوب العربية تجاه الموقف الروسي عرضاً لمرض أخلاقي ونفسي خطير، مرض يصيب البشرية بأكملها، غير أنه متمركز بشدة في منطقتنا الشرق أوسطية، هذه التي تشكل مواقفها بشكل متناقض فج يعتمد على توجهات طائفية وعشائرية غائرة في القدم. فعلى سبيل المثال، مَن تعاطف مع الثورة السورية وقف ضد نظيرتها البحرينية، ومن تعاطف مع الثوار البحرينيين اتهم نظراءهم السوريين بأبشع التهم. من يقف ضد جرائم الكيان الصهيوني غزواً لفلسطين يساند الغزو الروسي لأوكرانيا، ومن يدافع عن الحق الأوكراني يطبِّع مع ويصالح الكيان الدموي الصهيوني. وهكذا نحن، تحكمنا طوائفنا ومواقفنا العدائية السياسية الغائرة في القدم في تشكيل آرائنا تجاه قضايا واضحة، نفاقنا في تقييمها يخرق عين الشمس.
تتوالى الصور المؤلمة، أنظر في عيون الأطفال الأوكرانيين الواهنين تتوافد عبر وسائل التواصل، فتذكرني بالأعين الزيتونية الفلسطينية، تذكرني بالوجوة السورية، اليمنية، العراقية، تذكرني بغرابة جنسنا وفداحة أفعاله وفظاعة تناقضاته. تجتمع هذه الآلام في ألم قلب ابنتي، وتنعكس في عيني كاكاو الصغيرة، لتتحول الصورة بأكملها إلى قطعة «هايكو» قصيرة، هذا القالب الشعري الياباني الذي أحد أهم مميزاته الأدبية أنه يجمع الأكبر بالأصغر، الأقرب بالأبعد، ليتبدى في كلماته، مثلاً، جبلاً هائلاً منعكساً في عيني فراشة صغيرة. في عيني كاكاو وفي آلام ابنتي، تحضرني كل جرائمنا البشرية، ليتجدد السؤال، هل نحن جنس يستحق الإنقاذ؟

*القدس العربي