منذ فترة وجريمة التحرش تجتاح نقاشات العالم العربي. لربما منذ ما يزيد عن العشر سنوات، مع بداية ثورة 25 يناير المصرية، بدأ الحديث عن هذه المعضلة الأخلاقية والجريمة الفعلية يأخذ نبرة مرتفعة وبتوثيق مرئي للفعل الجرائمي. ولقد كُتب الكثير من التحليل النفسي والمجتمعي والديني عن مظاهر وأسباب ومترتبات هذه الظاهرة، والتي كثيراً ما ربطها المحللون، ليس فقط في العالم العربي بل في العالم أجمع، بسلوكيات الضحية بشكل رئيسي. بدأ المحللون الغربيون بأخذ منحى مخالف في السنوات القليلة الماضية، حيث تم تثبيت فكرة أن الضحية تبقى ضحية، بغض النظر عن سلوكها ومظهرها، وأن «الخطأ» إذا تم اعتبار أن هناك خطأ ما ورد في سلوك الضحية، لا يبرر خطأ أكبر منه. إثمان لا يصنعان حسنة، هذا إذا ما تم الحكم على تصرف الضحية بأنه إثم دافع للتحرش.
اليوم، الحوار الغربي اتخذ موقفاً أكثر تقدماً وفاعلية حين أصبح الحديث عن «خطيئة» الضحية خطيئة بحد ذاتها، فالتصرفات الشخصية والاختيارات الحياتية، حتى الخطرة منها، كالمشي في شارع مظلم أو التواجد في مكان مشبوه، لا يمكن أن يدخل في تقييم «جرائمية» المعتدي. يبقى المجرم مجرماً لا تقل بشاعة فعله أونصة واحدة بسبب من إهمال أو رعونة أو إخلال سلوكي للضحية، فهذه السلوكيات كلها أصبحت تدخل في باب حرية الاختيار والحياة.
واقع الحال أن التحرش الجنسي في المجتمعات المتفتحة الأكثر تحرراً والأكثر مساواة بين الجنسين هو أقل نسبة عنه في المجتمعات المحافظة التي تنظر إلى المرأة نظرة دونية. في بحث منشور في Indiana Journal of Psychiatry** يقول الكاتبان في مختصر البحث أن «الثقافات التي توصف على أنها نسوية، تسمح بسلطة متساوية للرجال والنساء. العنف الجنسي يمكن وقوعه بدرجة معتادة أكثر في الثقافات التي ترعى الاعتقادات بتفوق الذكر المتوقع والتدني الاجتماعي والثقافي للنساء». بالتأكيد، يبدو «صوت» التحرش الجنسي أعلى في الغرب، ذلك لأن النساء هناك أكثر قدرة على الإبلاغ عن الوقائع وأكثر جرأة في الحديث عن تأثيرها في حيواتهن الشخصية، فمفاهيم العار والشرف لا تقف أمام الإفصاح، وموازين اسم العائلة والسمعة لا تدخل ضمن الحسبة، والخوف من اللوم واتهام الضحية يقل كثيراً عن ذاك الذي يرزح على قلوب الضحايا من النساء عندنا.
التحرش جريمة، لا يقلل من درجة وضاعة مرتكبها مظهر الضحية ولا طبيعة سلوكها ولا موقع وجودها ولا ساعة خروجها من منزلها ولا طريقة ضحكتها ولا أي ظروف أخرى محيطة. إلا أن هناك جانباً آخر لا بد من بحثه وصولاً لحلول واقعية. في الحقيقة، هناك أعراف مجتمعية بين الذكور والإناث في مجتمعاتنا بالنسبة لطريقة التواصل وتبادل التعارف، تبدو أحد أهم الأسباب لوقوع جرائم التحرش بقصد أو بلا قصد. ذهب العرف عندنا أن يسعى الفتى خلف الفتاة، أن يلح عليها بالإعجاب وأن تلح هي بالرد بالتمنع ولو كانت راغبة، وهو تصرف تأكد بمقولة دينية وإن كانت ضعيفة تاريخياً. إذن، ترسخ في أذهان الشباب والبنات أن الديناميكية هي هكذا: يتغزل الشاب ويلح ويلاحق ليثبت إعجابه، فيما تتمنع الفتاة وترفض إلى أن يقسرها الإلحاح على النزول عند رغبة العاشق الولهان. ليس هناك من وسيلة، خصوصاً في ذهن الشاب، للتفرقة بين التمنع الحقيقي والتمنع الدلالي (مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإلحاح يبقى تعدياً بحد ذاته ولو كان إلحاحاً بريئاً من العنف اللفظي والجسدي) مما يدفع الشاب للإمعان في المحاولة واقعاً خطوة بعد أخرى في شرك التحرش بقصد أو بدونه.
المعضلة هنا في نقطتين: التوقعات السلوكية الجندرية، وغياب نظام تعارفي واضح وعلني للفتيات والفتيان. ففي الأولى، إن توقع جرأة الشاب وخفر الفتاة ثم تثبيت هذا السلوك كالسلوك المقبول واللائق من الجنسين، عزز هذه الديناميكية المريضة؛ الفتى يلاحق لآخر رمق، والفتاة تقاوم لآخره كذلك، دون أن تكون هناك طريقة أخلاقية للفتى للإقبال والمحاورة وطلب التواصل دون تعدّ أو ضغط أو تمادٍ أخلاقي، ودون أن يكون هناك منفذ أخلاقي للفتاة للتعبير عن القبول والتجاوب (دع عنك طريقة أخلاقية لقبول مبادرة الفتاة في طلب التعارف) وبالتالي دون وجود «كود» واضح ومفهوم للرفض عند الطرف الآخر. «نعم» يجب أن يكون لها منفذ واضح، و«لا» يجب أن تعني «لا» إلا أن هذه القطعية غائبة عندنا بسبب من النقطة الثانية. فغياب نظام تعارفي طبيعي وعلني ومقبول بين الجنسين، وهي حاجة طبيعية غريزية لن يكون في الإمكان إيقافها في أي زمان أو مكان، يتسبب في جعل هذه الممارسة تتم في الخفاء والظلام، وكل ما يدور في الظلام يتعفن ويخرب ليأخذ مع الوقت أشكالاً عنيفة همجية. إن السرية المجتمعية المفروضة على هذا الفعل تؤكد على «خطيئته» مما يوحي للبنت بضرورة استمرار الرفض، وللفتى بضرورة استمرار المحاولة. وحتى إذا ما رفضت البنت بوضوح وإصرار، يتم استقبال هذين على أنهما «دلال» وتمنع، هكذا رسمتهما المفاهيم الجندرية المجتمعية التي تفرض الخفر والحياء ولو مصطنعين على الفتاة. وهكذا في محاولة من المجتمع المحافظ ضبط السلوك والمحافظة على الأخلاق بما يتضمنه ذلك من «ترويض» للفعل ورد الفعل النسائيين، هو في الواقع يدفع بهما، أي السلوك والأخلاق، إلى زاوية معتمة يقع فيها من البلاء ما لا يخطر على البال، وتسقط فيها الضحايا دون إمكانية التصريح أو التقنين للحماية.
حقيقة، هذه ليست دعوة «للمواعدة» كما يمارسها الغرب، ليس لأن هذه الممارسة لا أخلاقية، فهذا حكم نسبي معيب إطلاقه، إنما لأن كل نظام اجتماعي يفترض أن يُبنى مع الأخذ في الاعتبار العادات والتقاليد والأعراف الدينية السائدة، وبما يحقق سلامة كل الأطراف المعنية واستتباب علاقاتهم بمحيطهم وبعائلاتهم. لذا، لا بد لنظام التعارف في مجتمعاتنا في الوقت الحالي أن يكون محكوماً بقواعد أخلاقية مختلفة، أن تكون شروطه ومعاييره متوازنة وطبيعته، وذلك متروك لكل مجتمع ليحدده ويرسمه. يبقى أن المؤكد هو أنه لا بد من وجود نظام طبيعي وتحت الشمس يجمع بين البشر، يعطي لهم فرص التنفيس عن المشاعر، وتبادل الإعجاب، واختبار البعض، وفهم الآخر، وصولاً إلى خلق علاقات ثابتة راسخة مفضية لتكوين أسر قوية سعيدة.
أن يكون المطلب هو إنهاء ظاهرة التحرش تماماً، وذلك دون خلق مساحة واضحة ومريحة وعلنية للتعارف والتبادل المشاعري بين الفتيان والفتيات، وبقبول من الأهل والمجتمع، ودون اتهامات للشرف والسمعة، فذلك لا يمكن أن يحدث أبداً. طالما أنه ليس هناك منفذ طبيعي وعلني للرغبة في التواصل المشاعري مع الآخر، وليست هناك طريقة تنظيمية و«كود» مجتمعي وأخلاقي يرتبها، سيبقى التحرش الطريقة المظلمة الخفية التي تحكم علاقة الأطراف المعنية. التحرش ليس ظاهرة قاصرة على تلك التي تصيب الفتيات، فهناك التابو الذي لا يود أحد التحدث عنه، وهو التحرش بالفتيان الذي ترتفع نسبته لدرجات مهولة ومخيفة في المدارس غير مشتركة الدراسة بين الجنسين، حيث يتسبب العزل والكبت المشاعري والتحريم الأخلاقي لكل وسيلة تواصل مع الجنس الآخر مهما بلغت براءته وأخلاقيته، في «توحش» الشباب الصغار واستفزاز رغباتهم لأقصى حد يصعب معه أنسنة السلوك وترسيخ احترامه لجسد ولخصوصية الآخر.
بالتأكيد، للحد من هذه الجريمة الأخلاقية هناك متطلبات أخرى ملحة جداً، مثل تجريم فعل لوم الضحية مجتمعياً وقانونياً، وتشجيع النساء على التبليغ عن أي تعنيف أو تحرش يتعرضن له وطمأنتهن بأن سمعتهن بمعزل عن الأذى، وإيجاد نظام لحماية النساء من عائلاتهن التي قد تكون طرفاً إما في وقوع التحرش أو في الإقسار على السكوت عنه، وإعادة قراءة القواعد الأخلاقية والتقييمات الجندرية التي تحكم السلوكيات المجتمعية، وإعادة قراءة التقييمات الدينية التي يفترض ألا تترك ثغرة للمتحرش لا ليبرر لنفسه الجريمة ولا ليخفف من حجمها. وأخيراً وليس آخراً مراعاة أن ضحايا التحرش قد يكونوا من الذكور كذلك وأنهم قد يقعوا ضحايا للتحرش من ذكور آخرين وفي أحايين قليلة من الإناث كذلك، وهذا موضوع يحتاج لدراسة ومعالجة منفصلة كذلك. بالدرجة الأولى يفترض بنا أن نواجه أنفسنا بالأسئلة الصعبة وأن نتحدى أنفسنا بالحلول الصعبة كذلك. أن تأمر الناس بالتقوى وتتوقع الطاعة فذلك لن يكون، أن تترك لهم سبلاً واضحاً منيرة علنية تعينهم على أن يعيشوا بسعادة وطبيعية وبالتالي تداول التقوى والأخلاق وأدب السلوك، فهذا هو الدرب الأسهل ولربما الأوحد.
*القدس العربي