كانت جدّتي منهمكةً بتجهيز الكرتونة التي أحضرها جدّي من بقّالة أبو علي جوهر. جلس جدّي على كرسي القشّ الصغير في باحة الدار يراقب، ويلفّ سيجارته ويغمغم. وحدي كنت أعرف ما يقوله؛ كان يشتم!
وضعت جدّتي كل ما يلزم: علب السردين الصفراء، أقراص الجبنة البيضاء المملّحة، عُلَب المتّة، وكيسَ نايلون فيه أوقيةُ قهوة، خبّأتْه منذ أكثر من خمسة أشهر في خزانة ملابسها، بسبب ثمنها المرتفع، أيّام الثمانينيات الكئيبة. ثمّة وشمٌ أزرق باهت كان يلوح على يدها، وهي تضع في الزاوية علبتي دخان حمراوين قصيرتين، وتدسّ منديلاً قماشياً أخرجته من صدرها.
“روح يا ستّي قلها لأمّك إذا بدها تبعت شي، لسّه في محل”، قالت جدّتي ذلك من دون أن تنظر نحوي. وقبل أن أسمع آخر كلمة ركضتُ مثل سهم. قطعتُ شارعاً وتلّة رمل، وشجرتين، وبركة ماء، ووصلتُ إلى بيتنا.
“أمّي، بتقلّك ستّي لسّه الكرتونة فاضية”، قلتُ لها وأنا ألتقطُ أنفاسي. مالت أمّي برأسها من المطبخ كقرص عبّاد الشمس، وأومأت لي أنْ تعال.
“خود هدول!”. أخذتُ من يدها الكيس الورقيّ كمَن يخطف برتقالة من عَرَبة، وركضتُ إلى بيت جدّي. في الطريق القصيرة توقّفتُ للحظة، شممتُ الرائحة، “يا لله، كاتو اسفنجي!”. هذه الرائحة كانت أقوى من كلّ عطور “شانيل”، و”أرماني”، و”هوغو بوس” التي نثرتُها على بدني في السنوات اللاحقة. كيف لي أن أقاوم؟ أصمد أمام كيلو لحمة مشوية، أمام جمال ابنة الجيران التي تنظر إليّ بِحَيرة في كل مرّة أمرُّ أمام بيتها، وأنا أدحرج برجلي كرة قدم.
سددتُ أنفي بيدي اليمنى، وحملتُ باليسرى قالب الحلوى وأكملتُ الطريق. وضعَت جدّتي قالب الحلوى فوق كلّ الأشياء، وأغلقت الكرتونة، بل بالغت بحزمها وشدّها بما أوتيَتْ من قوّة، وهي تنظر إليّ تلك النظرة التي توحي بعدم الثقة. “يا ستّي، هدول حرامية!”.
نامت شمسٌ، وتبعثر ليلٌ صيفيّ على عتبات بيوت البلدة، ورأى قمر آب هشاشةَ حلم الأطفال، ثم هرب مسرعاً، بعد أن تشاجر عاشقان وبلغ صوتاهما آخر سماء. وصل الباص الصغير في الخامسة فجراً، يقوده رجل أربعينيّ بلِحيةٍ سوداء وشاربين كثّين وحاجبين عريضين ملتصقين. كان لا ينقطع عن التدخين والتأفّف. صعدتُ أنا وأمي وأختي إلى الباص، ولوّحنا كثيراً من وراء الزجاج الكالح لأبي، الذي ظلّ واقفاً أمام باب البيت يدخّن ويراقبنا نغادر الحارة. لوّحتُ بيديّ لأبي كثيراً، إلى أن أصبح صغيراً جداً.
توقّف الباص بعد دقيقتين وصعدَت جدّتي، وجدّي، وخالي الأصغر، ثم زوجة خالي الأكبر وابنها الرضيع، ثم ركبتْ عائلةٌ أُخرى لا أعرفها، من حارة مجاورة، وامتلأ الباص بالنّاس ودخان السجائر الوطنيّة، وأغاني فيروز، والشتائم، والصلوات، والأدعية، والنذور.
فركتُ عينيّ حتّى احمرّتا. قاومتُ النوم. لم أتكلّم مع أحد. كان وجهي ملتصقاً بزجاج نافذة الباص، أراقب الطريق، التلال، أعدّ عواميد الكهرباء، وأتأكّد من أن الأرض كروية، لأنها تدور ورأسي يدور. يغالبني النعاس، يهوي رأسي ويرتطم بالزجاج، فأصحو وأتابع لعبة المراقبة: غيمة، شجرة، حفّارةٌ تحفر بئراً في الأرض، حقول واسعة، تلال صفراء، عربات عسكرية، سيّارات شحن، باصات هوب هوب تنقل بشراً آخرين بين مدن وقرى لا أعرف أسماءها، ولكنها مغبرّة ومصفرّة وكالحة.
خلال الطريق، أكلت سندويشتَيْ زيت وزعتر، ونصفَ تفّاحة متبقيّة من أحدهم، ثم غمزتني جدّتي: “امسوك يا ستّي”، قالت همساً، وأعطتني عنقود عنب أصابع العروس مقطوفاً من شجرة بيت جدّي، التي كانت تسمّيها بالحنونة، حتّى أمّي كانت قد أخذت غصناً منها وزرعته في حديقة بيتنا وكبُر وتفرّعت منه أغصان أُخرى صغيرة، ثم بعد سنوات أصبح لدينا شجرة عنب اسمها ابنة الحنونة.
“وصلنا عالشام؟”، قلت بنفاد صبر.
“لا”.
“مطولين؟”
“شوي”
“أربع ساعات ونصف ولم نصل”.
“وين الشام؟”
“مرّينا من جنبها”.
قلتُ وظلّ فمي مفتوحاً.
“يعني ما رح نشوفها؟”
“لا”.
لم أنَمْ منذ ثلاث ليالٍ وأنا أحلم بالشام؛ الشوارع والمقاهي والأبنية الشاهقة وبَنات المدينة، وأكشاك عصير التوت الشاميّ، وغزْل البنات، والبرازق، وسوق الحميدية الذي سمعت أنّه أطول من نهر بردى. أكمل الباص طريقه، وداخت الناس من الحرارة والرائحة. استفرغتْ أختي وطفلٌ آخر وداخت جدّتي، ورشّوا عليها الماء.
وصلنا إلى أعلى الهضبة الصفراء البُنيّة المقفِرة. توقّف الباص أمام حاجز عسكريّ. أخذوا هُويّات الجميع، فتّشوا الباص، فتّشوا كراتين الأكل، الملابس، عمَامة جدّي، شال جدّتي، كلَّنا، كباراً وصغاراً، وأكل جنديٌّ، يلبس قبّعته الحمراء المائلة، عنقودَ العنب الذي كان مرميّاً على كرسيّ بجانبي.
“الباص بيضل هون وأنتوا كملوا الطريق للأعلى”، قال العسكريّ المربوع. كان يلبس بوطاً أسود مغبرّاً، بذلتُه العسكريّة مغبرّة، حتى وجهه المتجهّم مغبرّ. نزلنا جميعاً من الباص نترنّح من تعب الطريق الطويل. التصقت ملابسنا بأجسادنا بسبب العرق. الشمس فوقنا، العسكر وراءنا وتلك التلّة تقف أمامنا مثل كرش. مشينا في مجموعات صغيرة أكثر من كيلومترين إلى أعلى التلّة في عزّ الظهر.
“عرقنا وطلعت ريحتنا”، قالت أمّي.
“بيفرجها الله،” قالت جدّتي.
“بسرعة شوي”، قال خالي وهو يحمل كرتونة الأكل البُنّيّة التي كُتب عليها “أصيل، سمن نباتي”.
“يلعن أبو هالجيّة عرصة”، غمغم جدي وهو يمشي بجانبي بخطى متمهّلة.
وصلنا إلى بوّابة حديديّة كبيرة لبناء ضخم يشبه القلعة، وبجانبها غرفة صغيرة، فيها حارسان، جنديّان مدجّجان بالأسلحة، ذوا وجهين صحراويّين.
“الهويّات يا شباب”، قال أحدهما، وهو طويل ونحيف، وله شاربان كالزّغَب.
فتّشانا، وسألانا، وشتمانا، وجعلانا ننتظر أكثر من ساعتين.
“هاد الصغير ممنوع من الدّخلة، صار عمره عشر سنين. صار قد الكديش!”، قال العسكري الآخر وهو يحكّ شعر رأسه الذي بدا لي سميكاً مجعّداً وكأنّه لم يستحمّ منذ دهر.
فهمتُ أنّهم كانوا يتكلّمون عنّي، وغضب خالي وارتفع صوته وتشاجر مع الحارس الذي وضع بندقيّته آخر الأمر بوجهنا وأمَرَنا بالتراجع للوراء.
بكت أختي وطفلٌ آخر أصغر منها وصفعتْه أمّه على وجهه فسكَتَ فوراً.
مرّت ثلاث ساعات. سينٌ وجيم وضبّاط وعسكر يأتون ويذهبون، وفي الآخر، ولسببٍ ما لم أعرفه حينها، أدخلونا جميعاً. عندما كبرتُ، وبعد سنوات عديدة، سألت خالي وهو يدهن جدران غرفته الصغيرة، المبنيّة حديثاً في باحة بيت جدّي، عن السبب الذي جعل الحرَس يتراجعون عن قرارهم ويدخلونني. هزّ كتفيه وقال: “مرّ الضابط المناوب وقتها وأظنّه برتبة نقيب، كان يعرف خالك، خدما العسكرية معاً، ربما أشفق علينا…”، وتابع دهن الجدار بالأبيض.
المهمّ، دخلنا من باب السجن القلعة.
“كان ضروري هالبهدلة يا ابن الكلب؟”، تمتمَ جدّي في أذن خالي الأصغر.
مشينا أكثر من كيلومتر آخر داخل سجن صيدنايا العسكريّ، حتى وصلنا إلى البناء.
طابق أول، ممرّ، باب، ممرّ، باب، ممرّ. دخنا، تِهنا، تعِبنا ثم وصلنا.
وقفنا أمام السياج ننتظر؛ أمام سياجَيْن بالحقيقة، يفصل بينهما مترٌ وربّما متر ونصف. أتى أحدهم، لمحناه من خلف القضبان؛ إنّه خالي، بل شبَحُ خالي. لوّح بيده. بالكاد رأينا وجهه. كانوا قد نقلوه حديثاً إلى هنا بعد أن كان في سجن تدمر، وقد فرحتْ جدّتي يومها كثيراً لأنّها اعتقدت أن سجن صيدنايا سيكون أهوَن على ابنها من ذلك السجن المرعب في قلب الصحراء، والذي زرتُ فيه خالي أيضاً مرّة واحدة عندما كنت في السادسة أو السابعة.
كلّ ما أذكره عن سجن تدمر العسكري، الذي ارتبط بذاكرتي، هو اللون الأصفر. كل شيء كان أصفر. الكثبان الرملية الممتدة على طول النظر في البادية السورية، آثار تدمر الصفراء، أسنان الحرس الصفراء، الحسَاء الذي رأيتهم يشربونه، جدران السجن، إطارات صوَر الرئيس الخالد الألف، المعلّقة على الجدران في كل مكان؛ الهواء الأصفر، الشمس والرائحة النتنة، يا إلهي!
حاولنا كلّنا أن ننظر من خلال ثقوب الشَّبَك الفاصل بيننا. تمكّنتُ بعد عناء أن ألمح وجه خالي؛ كان حليق الذقن، وجهُه أبيض مصفرّ، تعلوه ابتسامة كئيبة مثل كل ابتسامات مناضلي الأحزاب اليسارية.
قالت له زوجته بأنّها قويّة وبأن طفلهما بخير، ورفعته عالياً ليتمكّن من رؤيته.
بكينا وبكى، تكلّمنا وتكلّم، ثم صمتنا جميعاً. انتهت الزيارة. كيلو متر، البوّابة الحديديّة الكبيرة، كيلو مترين، الباص، العرق والدوخة، دخان الحمراء القصيرة ورائحة الزعتر لم تزل في أنفي حتى الآن.
“رح نمرّ بالشام بالرجعة؟”، قلتُها أمنيةً أخيرة.
“لا”، أتاني صوت خالي الأصغر.
“ولا شوي؟”.
(العربي الجديد)