كأرملٍ لم يُعقِب أولاداً، تاقَ الرجل لزيارةِ قرية أمه الأناضولية. كانت رحلته الأولى خارجَ مصر، المضغوطةِ بين صحراءين، وقد امتلأت أحلامه بأشجار الصنوبر الذي غبّره الثلج، جمع مدّخراته من عمله بالأرضِ طيلةَ حياته، واستقلّ باصاً عتيقاً إلى الإسكندرية، كانت سِلال القشّ والماعزِ مقيدةً أعلاه. وفي الميناءِ القديمِ، أنعمَ بصره في السفن على مدار الأفق، نقاطٌ تتبعُ خيوطَ الدخانِ. المكتبةُ القديمةُ بمليون مخطوطةٍ، الفرعونُ المنتصبُ عالياً وسطَ عجائب الدنيا السبع ـ وقد صارَ أنقاضاً على أرضية الميناء ـ كلّ ذلك يبدو غريباً عن هدفهِ.في المساء، نزل ليتنزّه على رصيف الميناء، فشاهد الأولاد والبنات وهم يبحرون زُرافاتٍ منفصلةً، يهذرون وسط نعيبٍ صرخاتِ النوارس، رشاشُ الأمواج يدعوه إلى شاطئٍ آخرَ. في وهنٍ، ترشحُ رائحةُ الكستناء المحمّص ليستغرقَ في غفوةٍ. وقفَ جنبَ بائعٍ واشترى اثنتي عشرة حبةً من على الفحمِ، وهي لا تزال ساخنةً بلفّتها في ورقِ جريدةٍ. لكن شيئاً وكزه فجأةً من كوعهِ، وكزه ثلاثاً، كلّ مرةٍ أصلبَ، فسقطت الكستناء على الرصيفِ.مهتاجاً من الغضب، استدار الرجلُ، فرأى مخلوقاً عجيباً جانبه، لا هو أعرج ولا هو قَزم، كلّه أسمالٌ وشَعرٌ وأسنانٌ مكسورة، أدكنَ من القرد وأعلى مرتبةً. كأن ثمة حياة على ركامٍ مشوّه، كان بشاعةً مجهولةً في هواءٍ مجنونٍ. صرخ البائع لاعناً، وهو يرفع ذراعه؛ فانسحبَ المخلوقُ في عويلٍ غير أرضيّ، لكأنه اختنقَ، من دون أن يكشف عن مَهمّته على الأرضِ.في تلك الليلةِ، عاد كلّ شيء إلى فراشِ الرجل، ملأ الفحمُ والكستناءُ عينَيه. وخرجت الكلمات من فجوة فمه وهو يبقبق كدوّامات سفينةٍ تغرق. حين استيقظ الرجل أخيراً، أحسّ كأن شيئاً يضغط على قفصه الصدريّ، ناعماً كيدَي أمه المعروقتَين، ثقيلاً كوحدةِ أعوامهِ. لم يلبس ملابسه، فقد رحلت سفينتهُ.
*كاتب اميركي من اصل مصري
*المصدر: موقع غاستون باشلار
*ترجمة محمد عيد إبراهيم