إطلالة أولى على الأدب الكردي

0

جميل إبراهيم

مجلة أوراق العدد 13

الملف

بداية يجدر بنا القول بأنه مثلما أن لكل شعب لغته القومية الخاصة به، فإنه كذلك له أدبه الخاص به بهذه اللغة، وينشأ الأدب عموماً مع نشوء اللغة واكتمال تكونها في تدرج متلازم مع التدرج الحضاري في المكان والزمان لتلك المجموعة البشرية، التي تتحول إلى شعب له قومية متميزة، ولغة خاصة به يتداولها أبناء هذا الشعب فيما بينهم، يتكلمون بها، وبالتالي يتكون لديه أدب، ومن المؤكد أنه يكون أدباً شفهياً في البداية، وعندما تصبح لديه أبجدية يكتب بها، يصبح لديه أدب مدوَن أيضاً، ومن هذا المنطلق يترتب القول بأن الشعب الكردي، كغيره من الشعوب، له أدبه الشفاهي، منذ أن مارس أبناؤه الغناء وإنشاد الملاحم البطولية وسرد القصص والحكايا والأساطير، ومن ثم أصبح له أدبه الكتابي، أي المدوِن في البداية لتلك الملاحم والقصص والأساطير، وذلك منذ أن اخترع أول أبجدية في التاريخ، ليكتب بها، ألا وهي الأبجدية المسمارية، ورغم أنه من الصعوبة بمكان تحديد الفترة الزمنية أو الحقبة التاريخية كنقطة انطلاق الأدب بهذه اللغة أو تلك، إلا أن الباحثين والمنقبين يشيرون عادة إلى أقدم نص أدبي عُثر عليه حتى الآن بهذه اللغة أو تلك، فمثلاً تذكر بعض المصادر المعلوماتية، ويكيبيديا على سبيل المثال، أن أقدم نص أدبي مكتوب باللغة الكردية (قصيدة شعرية للشيخ شاليار بن جاماسب، وهو كاهن زرادشتي من منطقة هورامان) يعود إلى أكثر من ستمائة سنة قبل الميلاد، وربما تكون هناك نصوص أدبية باللغة الكردية أقدم من هذا النص بكثير ….

بقدر ما تعرض الشعب الكردي للظلم والقهر والاضطهاد على مدى قرون طويلة، ومنذ أن تم احتلال وطنه، وبقدر ما عمد محتلو أرضه، بكل قواهم وإمكاناتهم، إلى التنكر لهويته القومية ومحاولة طمسها والقضاء على وجوده، بقدر ما تعرض تاريخه وأدبه إلى التزوير والتحريف والتعتيم عليهما، وتعرض أدبه بشكل خاص إلى الطمس والنهب والاختلاس والتضييع، وخاصة أن المحتلين قمعوا، ولا يزالون، لغته وثقافته ومن ضمنها أدبه، بحظر التعلم والتعليم باللغة الكردية، ومنع طباعة أي كتاب أو أية كتابة باللغة الكردية وتداولها، وشمل الحظر حتى التحدث باللغة الكردية في كل مكان، وكل ذلك تحت طائلة المعاقبة، ولأن الشعب الكردي منع بكل أشكال القوة والعنف من أن تكون له دولة مستقلة، كباقي الشعوب، فلم تكن لغته، على مدى قرون طويلة، لغة دولة، وقد يكون ذلك السبب الأساسي في أن ضاع أدبه، من جملة ما ضاع وتضرر، أو تعرض للتضييع والإضرار به، ولا سيما أدبه المدوَن، ولم ينجُ منه إلا القليل القليل، بينما حافظ الشعب الكردي على معظم أدبه الشفاهي عن طريق المغنين ومنشدي الملاحم والمرثيات، ورواة القصص والأساطير، جيلاً بعد جيل، مما شكَل حافظة وذاكرة غنية للأدب الشفاهي والثقافة والفولكلور الشعبيين، على مر السنين والقرون، وقد أصبح البعض منها مرجعاً بمثابة السجل للكثير من الأحداث التاريخية المهمة، وبذلك تمت المحافظة على جزء كبير ومهم من التراث القومي الكردي، وذلك بالرغم من إقدام محتلي أرضه ووطنه على نهب الكثير من تراثه الغني والواسع الثراء، فهم لم يتركوا فرصة أو مجالاً إلا واغتنموهما لنهب وسرقة التراث والأدب والفولكلور الكردي، ولعل الموسيقا والأغاني والملاحم والأساطير كانت أكثر ما تعرضت للنهب والاختلاس وتنسيبها لأقوامهم زوراً وبهتاناً، وأذكر هنا مثالاً صغيراً لذلك النهب والسرقة، فلحن النشيد القومي التركي مأخوذ بشكل كامل وطبق الأصل، من لحن أغنية كردية معروفة ومشهورة، وكذلك آلاف الألحان والمعزوفات والمقامات الكردية الأصل صنفت على أنها عربية أو تركية أو فارسية، والكثير الكثير من الأغاني الكردية الذائعة الصيت أيضاً تمت ترجمتها إلى اللغة التركية أو الفارسية أو العربية، وغنيت على أنها أغنية تركية أو عربية أو فارسية، ورغم أن أول نوطة موسيقية في التاريخ اخترعها الحوريون، أجداد الكرد، فإننا نجد اليوم الكثير من المقامات التي تحفل بها الموسيقى العربية والتركية والفارسية، والشرقية عموماً، منسوبة إلى تلك الجهات، لكنها بقيت محتفظة بأسمائها الكردية الأصلية، وهكذا بالنسبة للميادين الأخرى، لا يتسع المجال هنا لذكرها كلها ….

ونتيجة لهذه الظروف والأوضاع المذكورة أعلاه، وبسبب طغيان الثقافات العربية والفارسية والتركية، وفرض لغاتها وخاصة بحصر التعليم بها، نجد أن الكثيرين، ليس من الشعراء وحسب، بل من عموم الكتاب والأدباء الكرد، توجهوا إلى الكتابة بلغات تلك الثقافات، وأبدعوا فيها أيما إبداع، وعند الرجوع إلى صفحات التاريخ، نعثر على الكثير من الأسماء اللامعة في الأدب العربي خاصة، وكذلك في الأدب الفارسي والتركي، منذ العصرين الأموي والعباسي، وثم في عهدي الصفويين والعثمانيين، وصولاً إلى ما تلا هذين العهدين، من الدول الناشئة على أنقاضهما، وبصورة خاصة في سوريا والعراق ومصر وايران وتركيا وغيرها؛ قائمة طويلة من الأسماء اللامعة التي لا يشق لها غبار من الأدباء والشعراء والمؤرخين والعلماء سواء في مجال العلوم الدينية أو الدنيوية، كما يقال. هذه القائمة من الأسماء تحتاج إلى صفحات وصفحات لإدراجها هنا، لا ضير إن اختزلناها ببعض الأسماء التي لا يختلف اثنان عليها، مثل: أمير الشعراء أحمد شوقي، معروف الرصافي، الزهاوي، الكواكبي، خيرالدين الزركلي، خليل مردم بك، عباس محمود العقاد، محمود تيمور، يشار كمال، محمد اوزون، حامد بدرخان، سليم بركات، وغيرهم الكثير…

ما لا شك فيه، وحسب رأيي، ورأي كل منصف كما أعتقد، أن ما كتبه ويكتبه هؤلاء الذين كتبوا ويكتبون بغير لغتهم الأم، يبقى حائزاً بكل جدارة على قيمته الأدبية أو العلمية، ولا يجب التقليل من شأنه في شيء، وينبغي أن يحسب جهداً فكرياً كردياً، إلا أنه يبقى في الوقت ذاته عملاً وجهداً يرفد، أو يغني، مكتبة اللغة التي كتب بها، وليس المكتبة الكردية، فمكتبة أية لغة تغتني بما يكتب بها، أو بتعبير آخر، في الحالة الكردية على سبيل المثال، أن يتمكن القارئ باللغة الكردية من قراءة كل ما هو موجود في المكتبة الكردية، هذا هو المعيار الذي أرتأيه في هذا المجال ….

أما عن الرواية الكردية، فإنني أرى أن أول رواية كتبت باللغة الكردية هي رواية (مم وزين) للشاعر الكبير (أحمد خاني)، البعض سماها ملحمة، والبعض الآخر سماها قصة، لكنني أجدها أقرب ما تكون إلى الرواية، وإن كانت منظومة شعراً، فعناصر الرواية متوافرة فيها أكثر من غيرها، ومن الممكن تسميتها بالرواية الشعرية، على أنه ما يعد من أوائل الروايات الكردية ما كُتب منها في العقود الأولى من القرن العشرين، نذكر منها: الراعي الكردي لــــ عرب شمو، مخاض الشعب لــــ ابراهيم أحمد، خاتي خانم لــــ علي عبدالرحمن، نباح لــــ محمد موكري، وغيرها ….

لا يخفى أن ميدان كتابة الرواية في الأدب الكردي كان شبه خال، حتى بدايات القرن الماضي، وبعد أن ظهرت أسماء كتاب الرواية الذين ذكرناهم أعلاه، بدأ كتاب آخرون بالظهور، وتتالت رواياتهم بازدياد ولكن ببطء، ورغم أن المكتبة الكردية تزخر بالعديد من الروايات والروائيين، فإن المكتبة الكردية، في مجال الرواية لا زالت تعاني من نقص ملحوظ، وخاصة ما يكتب منها باللغة الكردية، وذلك مقارنة بالميادين الأخرى في الأدب الكردي، وهي، عموماً، بحاجة ماسة إلى إغنائها برفدها بالمزيد من نتاجات الكتاب الكرد في الميادين التي ذكرناها آنفاً، ميادين الرواية والقصة والقصة القصيرة ….

ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فإن القصة والقصة القصيرة أيضاً ليستا في المستوى المطلوب من حيث عدد الكتاب وعدد المؤلفات، بعكس الأعداد الكبيرة للشعراء، أو بالأحرى أعداد الذين يكتبون الشعر، وهنا أجد لزاماً علي القول أن هذا العدد الكبير يمكن اختزاله كثيراً إذا ما أردنا أن نتحدث عن شعراء يقرضون ما يمكن أن نسميه شعراً، لاسيما أن الغالبية العظمى منهم تتوجه نحو كتابة الشعر الحديث، الشعر الحر، الشعر المتحرر من التزام الوزن والقافية، فيستسهل الكثيرون منهم الأمر ليخرج بكتاباته الشعرية تلك من فضاء الشعر وربما الأدب بكامله، ويتوهمون أن كتابة الشعر الحر هذا أمر سهل وهين، ما هو إلا كلمات مصفوفة، لا وزن لها ولا قافية، فتغيب بذلك عنهم المعاني والأفكار المعبرة، والصور البديعة والتشبيهات الجميلة كذلك، فنجد أمامنا نصاً باهتاً، لا طعم له ولا مذاق، خالياً من أي مفهوم وأية فكرة محددة ….

أنا أستغرب حقاً كيف أن هؤلاء ينأون بأنفسهم عن ملذة الانغماس في استلهام وضبط الأوزان وألحانها الشجية وإيقاع القوافي الجذلة والرائعة للشعر، ويحرمون أنفسهم من الإحساس الرائع بنبض الموسيقى الشعرية وتراتيلية المعاني الجميلة للكلمات المشكلة لبيت الشعر وتناغم مبانيه المبهجة للنفس، والمبهرة للعين وللعقل معاً، تلك الأحاسيس الرائعة والمشاعر الفياضة التي تنتاب المرء عند قراءته للشعر الذي نظمه ملايي باتي، علي حريري، فقي طيران، ملايي جزيري، أحمدي خاني، نالي، حاجي قادري كويي، بيره ميرد، جكرخوين، تيريج، شيركو بيكس، ملا أحمد نامي، صبري بوتاني، كلش، إلى آخر القائمة الطويلة جداً  ….

ورغم أن قصائد ملايي جزيري الرائعة في العشق والتصوف تتصدر قصائد وأشعار الشعراء الآخرين، إلا أن الشيخ أحمدي خاني كرس قسماً لا بأس به من “ملحمة” مم وزين للعشق والتصوف والحكمة والفلسفة، على أنه ضمَن قسماً كبيراً ومميزاً من ملحمته هذه لطرح الفكر القومي، ولاستنهاض الشعب الكردي وحضه على الكفاح القومي، وأن يجهد ليلحق بركب الأمم الأخرى في التحرر ونيل الاستقلال، وهو بهذا يكون، برأيي، الشاعر والرائد الأول في طرح واستثارة الفكر القومي الكردي، أما في عصرنا الراهن فإن سيدايي جكرخوين يأتي في المقدمة، وخاصة دوره وتأثير قصائده القومية الرائعة في تكوين وتنوير الفكر القومي لدى الشعب الكردي في غربي كردستان على وجه الخصوص، وعندما أذكر هذين العملاقين في مجال الشعر القومي، فإني لا أقلل من دور وتأثير الشعراء الآخرين، ولا أبخسهم حقوقهم، سواء من الذين عاصروهما أو تلوهما، فلا يكاد يخلو شعر أي منهم من القصائد القومية، ولو كان ذلك بالتفاوت بين البعض والبعض الآخر، فمنهم من يحتل مكانة عالية ويتمتع بدور رائد ومقدام ويشهد لهم بالبنان كذلك.

دورتموند- ألمانيا، 26.05.2021