أنور بدر، رئيس التحرير
مجلة أوراق- العدد 15
افتتاحية العدد
انصبَّ جهدنا في الأعداد الأخيرة من مجلة أوراق، على مسألة الخطاب السوري في زمن الثورة، خطاب السوريين الذين اكتشفوا أنّ نظام الاستبداد وعبر نصف قرن من تسلطه على الدولة والمجتمع قدّ مزّق النسيج الوطني للسوريين، وترك أغلبهم يتوزّعون أديانا ومذاهب، وقوميات وإثنيات، وجهويات ومناطق، وتيارات وأحزاب، لا جامع بينهم إلا في حدود المصالح التي تُسيطر عليها تلك السلطة، فتمنح من تشاء وتُقصي من تشاء.
لأن تلك السياسة شكّلت أحد أهم أدوات السيطرة والإخضاع التي اعتمدها النظام قبل الثورة وفي عقدها الأخير، ويبدوا الأمر مفهوما من منظار مصالح ديكتاتورية عسكرية فاسدة وفاشلة بآن معاً، لكنّ السؤال: كيف انزلقت المعارضة السورية إلى خندق النظام، وقاتلته على أدواته المسمومة؟ وكيف ساوقته في ممارسة الإلغاء والتهميش؟ وكيف انتصرت تلك المعارضات، بحسن نية أو بسوئها، لمظلومياتها التاريخية على حساب شعارات الثورة وأهدافها الأساسية؟ حين تصارعت مع النظام، وفيما بينها، على الحسابات العددية للعشائر والقبائل، أو للطوائف والمذاهب، أو للإثنيات والقوميات؟ دون أن تفضي تلك الصراعات إلا لتشويه وجه الثورة ومقاصدها في الحرية والديمقراطية ودولة المواطنة المتساوية، كما ساهمت في تأكّيد سرديات النظام حول طبيعة المعارضة الجهادية والمتطرفة، مما صبّ القمح في طاحونته وطاحونة حلفائه، وتركتنا عراة ومهزومين على بيدر النتائج العسكرية والسياسية.
إشكالية هذه المعارضة وبعض من مثقفيها، أنهم ذهبوا مع النظام في إلغاء الآخر وتهميشه، لم يدركوا قيمة الثقافة في مواجهة الاستبداد، فكانوا مستبدين ببعضهم البعض لمجرد اختلاف في الهوية أو لموقف سياسي، معتبرين أنفسهم بذلك الأكثر انتماءً وإخلاصاً للثورة، فيما هم يَئِدونَ الثورة في رمال عنصريتهم التي لا تؤمن بالحرية والديمقراطية، ويرفضون تقبل الآخر والانفتاح على العصر والعالم.
لذلك نستعيد تلك الأسئلة الأولى بعد عقد ونيف على انطلاقة الثورة: هل نحن السوريون حقيقة كما رسم النظام خرائطنا وانتماءاتنا؟ هل نحن بدون هوية وطنية يُمكن أن تجمعنا؟ هل نحن حقيقة مجموعة من الانتماءات المتصارعة على مائدة السلطان؟ وفي مواجهة بعضنا البعض الآخر؟
*****
نعرف أنّ زمن الثورة هو نقيض زمن الاستبداد، الذي اعتمد الإلغاء والتهميش، وبالتالي على الثورة لكي تكون جديرة بطموحات التغيير أن تستعيد الهوية الوطنية المُضيّعة، هوية مجتمع مزّقه الاستبداد والفساد، دون أن يعني ذلك إلغاء الهويات أو الانتماءات الصغرى أو الكبرى أو الصراع معها، بقدر ما يعني تأكيداً لها واعتراف بكل حمولاتها العقائدية والثقافية، لأنّ فيها إغناءً للهوية الوطنية ونزع لفتيل الانقسام أو التقسيم، كما نرى في الدول والمجتمعات الديمقراطية، فهوية أي مجتمع حرٍّ تُبنى من خلال الاعتراف بوجود الجميع وبحقوقهم المتساوية بغض النظر عن أي حسابات عددية أو أرقام شكّلية، فالحقوق والحريات لا تتجزأ.
وإشكالية السوريين مع سلطة البعث لم تكن في تنوعهم أو تعدد هوياتهم، فهذه سمةٌ تاريخية لأكثرية المجتمعات والدول وحتى للمذاهب والأفكار، حيث تستمر وتتعايش تلك الهويات وتغني بعضها البعض، كما شاهدنا في سنوات الاستقلال الأولى لسوريا، أو ما نشهده في كل الدول الديمقراطية الحديثة في العالم راهنا، فذلك الوجود وإمكانية الاستمرار تقوم على التعايش والاعتراف المتبادل وليس على الصراع والنفي، وذلك التعايش لا يمكن أن يوجد ويستمر إلا في إطار دولة ديمقراطية تقوم على أساس الحريات والاعتراف بالمواطنة المتساوية، وهي الشعارات التي رفعها السوريون في آذار 2011، قبل أن تُسرق شعاراتهم باسم المظلوميات المتعددة الدينية والاثنية والعشائرية وحتى المناطقية أيضا.
واعتقد أننا في رابطة الكتاب السوريين، وفي مجلة أوراق تحديدا، مدعوون دائما لنقاش أسئلة الثقافة وفضاءات المعرفة التي يمكن أن تساعدنا في بلورة الهوية الوطنية لسوريا المستقبل، سوريا التي نفتخر دائما بإرثها الحضاري والثقافي الذي يمتد لآلاف السنين، إرث كان يبني دائما ويضيف إلى التاريخ، لا يهدم الآثار ولا يدمر مظاهر الحضارة والعمران، ولا يفجر كنيسة أو معبدا، ولا يغتال تمثال أبو العلاء المعري القابع في بلدته معرة النعمان، فسوريا هي كل تلك الحضارات التي تعاقبت وصنعت تاريخنا وثقافتنا، ومن يمارس تلك الأفعال باسم الثورة أو الدين أو القومية إنما يعتدي على تلك المسميات وعلى سوريتنا وهويتنا الوطنية وعلى الثورة كقيمة تنشد الحرية والتغيير.
وربما تكون محافظة إدلب التي نتوقف معها في هذا العدد، أحد أبرز مناطق الاقصاء والتهميش منذ تولي آل الأسد للسلطة، وحتى في زمن الثورة حيث حوّلها، بمباركة حلفائه، وقبول المجتمع الدولي، إلى “غيتو” أو منفى لكل المعارضين والجهاديين، باعتبارهم صورة الإرهاب التي اتفق المجتمع الدولي على أولوية الحرب ضده، وضد المدينة كحاضنة له، وتاليا ضرورة محوها من الوجود.
لذلك أردنا في هذا العدد أن نكتشف الوجه الحقيقي لمدينة إدلب، في عمقها الحضاري وفي بعدها الثقافي وفي زيّتونها الغني، في أسماء كانت ولا زالت الأجمل والأبهى لثقافتنا السورية، وسنكتشف في هذا العدد كيف انتصر الناس في إدلب على الصورة التي أطرهم بها النظام، رافضين كل الهويات المزعومة لهم، مناضلين من أجل استعادة هويتهم السورية التي ضيّعها الاستبداد الأسدي.
هذه الهوية السورية سمعناها في أهازيج الثورة الأولى واحتفالاتها، قرأناها في يافطات كفر نبل وشاهدناها في جداريات سراقب وفي مظاهرات بنش، وفي كل الكتابات الإبداعية والأعمال الفنية، والتعبيرات الثقافية، ثقافة تمتد عبر الحضارات القديمة وآثارها، وتمتد في أصالة التعبير عن ذاتها وعن انتمائها للمكان والمجتمع، وفي رفضها سلطة الاستبداد مهما ارتدى من أقنعة ومهما رفع من رايات، ثقافة أكّدت الوجه المشرق لثورتنا ولسورية المستقل التي نطمح إليها.